الخلاف بين الزعيمين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف مازال يلقي بظلاله على الحياة السياسية في تونس ومازالت القوى السياسية وخاصة الاسلامية والقومية تنسب بن يوسف إليها. خصصت جمعية «ثقافة حرية تنمية» بقابس الدورة الاولى لملتقى حسن مرزوق للتاريخ المعاصر التي انتظمت مؤخراً في مدينة قابس بالتعاون مع المندوبية الجهوية للثقافة لمسالة الخلاف بين الزعيمين بن يوسف وبورقيبةً من خلال قراءة ثلاثة مؤرخين. الأساتذة خالد عبيد وعبد الجليل بوقرة وعروسية التركي اهتموا في بحوثهم الجامعية بتاريخ الحركة الوطنية وقدم كل منهم قراءة في هذا الخلاف انطلاقا من المعطيات التاريخية . في الحلقة الاولى نقدم قراءة الدكتور خالد عبيد الباحث في معهد الحركة الوطنية.
يقول الدكتور خالد عبيد متحدثا عن صالح بن يوسف :»حتى عندما وقع طرده من الديوان السياسي للحزب الدستوري الجديد وقالوا له انت لم تعد أمينا عاما ولم تعد حتى عضوا في هذا الحزب لم يشأ صالح بن يوسف ان يتخلى عن دستوريته فقرر ان يشكل جناحا اخر لم يسمه باسم آخر ولم يعطه اي اسم سماه «الأمانة العامة للحزب الدستوري الجديد» لنكن واضحين منذ البداية.
ويضيف: «وهذه الأمانة العامة يعني بها صالح بن يوسف انه حتى وان اطردته جماعة الديوان السياسي فهو كان وسيبقى وسيظل دائماً دستوريا فهو لم يعترف بهذا القرار لكن لم يشأ ان يشق هذا الحزب من خلال تشكيل حزب آخر وتحت تسمية اخرى وبالتالي اعجب ممن يقول ان صالح بن يوسف لم يكن دستوريا او شيئا من هذا القبيل لذا وجب ان نصحح هذا المسار على الاقل ولهذا السبب قلت دائماً لنترك التاريخ لأهله. هذه نقطة أولية ننطلق منها لان الخلاف الذي حدث حدث بين الأخوة الأعداء بين أبناء الحزب الواحد ومن اصطف معه حتى الذين قتلوا من هذا الطرف او ذاك ماذا كانت صفتهم ؟ ألم تكن صفتهم دستورية قبل كل شيء بقطع النظر عمّن يناصر بورقيبة او يناصر صالح بن يوسف والقائمة طويلة من الذين سقطوا في هذه المعركة مثل بن خذر وحسين بوزيان وغيرهم كلهم دستوريون قبل ان يكونوا مع بورقيبة او مع بن يوسف .
أسباب الخلاف
هذا معطى أساسي ننطلق منه في البداية ، لو اردنا ان نفهم اسباب هذا الخلاف ، أسبابه نهاية الامر تعود الى تنازع بين زعامتين زعامة ما سمي بالمجاهد الاكبر وهذه الزعامة حتى صالح بن يوسف لم يكن ينازعه فيها وحتى تسمية المجاهد الاكبر كانت بعد احداث افريل 1938 وتحديدا سنتي 39 و40 عندما أطلقت هذه التسمية بينما اطلق على صالح بن يوسف الزعيم الكبير والمنجي سليم الزعيم المحبوب وعلي بلهوان زعيم الشباب .
هذه التسميات كانت موجودة وكان متفقا عليها بن يوسف والمنجي سليم وبدرجة اقل علي بلهوان على اثر محنة 1938 والتي وقف فيها الحزب وحده في مواجهة فرنسا وبعد العزلة التي عاشوها في سجون تونس ثم في سجن سانت نيكولا بدؤوا يراجعون مواقفهم وكانت نتيجتها ان بن يوسف استوعب الدرس وقرر ان تكون المواجهة بين كل التونسيين وليس الحزب الدستوري وحده وكما تم الاتفاق انه لا يمكن ان يكون الحبيب بورقيبة يحكم وحده لانه قبل محنة أفريل 1938 تمكن بورقيبة من إزاحة من كانوا قادرين على منافسته في الحزب واعني بهم الآباء المؤسسين مثله وهم محمود الماطري والطاهر صفر والبحري قيقة وبالتالي لم تعد هناك شرعية تأسيسية الا له باستثناء يوسف الرويسي الذي كان من المؤسسين لكنه لم يكن في القيادة العليا وحتى صالح بن يوسف لم يكن قادرا آنذاك على ان يشكك في هذه الشرعية التأسيسية لهذا نفهم لماذا تحرك بن يوسف وعلي بلهوان ومنجي سليم من اجل محاولة الحد من هذا التوجه الفردي للحبيب بورقيبة ولم ينجحوا في هذا الا بمساعدة الحبيب ثامر الذي كان في مصر والذي كان موجودا مع الحبيب بورقيبة .
عودة وموقف من العرب
ما اريد قوله حتى عندما عاد بورقيبة الى تونس بعد ان قضى اربع سنوات في مصر استوعب فيها جيدا انه لا جدوى من الاعتماد على العرب ولا فائدة من الخيار العربي في مواجهة فرنسا كما اكتشف انه لو بقي مدة أطول سيكون مصيره مصير الثعالبي عندما كان في المنفى . وعندما عاد سنة 1949 لم يكن لصالح بن يوسف من خيار الا القبول بالإجراءات التي سيتخذها الحبيب بورقيبة وان يكون تحت لواء بورقيبة وقبل بن يوسف الدخول في وزارة شنيق التفاوضية التي قبل الحزب ان يكون طرفا فيها وان يدخل في مفاوضات من اجل الحكم الذاتي وكان وزيرا للعدل اما المعطى الثاني فيتمثل في انه بعد سنة 1950 خرج بن يوسف الى فرنسا لتقديم شكوى ضد الاستعمار الفرنسي باسم الحكومة التونسية ثم الى مصر.
في ذلك الوقت وتحديدا يوم 18 جانفي 1952 اندلعت المواجهة الحاسمة مع فرنسا واني لأعجب كيف ان شبابنا الحالي وحتى بعض النخب تجهل ان الآباء والأجداد ضحوا بالغالي والنفيس من اجل طرد الاستعمار الفرنسي وحتى في جهة قابس حدثت عمليات نوعية ضد الوجود الفرنسي وإحداها كانت السبب المباشر في القرار الفرنسي باغتيال الزعيم فرحات حشاد واعني بذلك ضرب السكة الحديدية بقابس يوم 15 نوفمبر 1952 فقرار اغتيال حشاد كان ردا على مقتل خمسة جنود فرنسيين في هذه العملية .
وحدة وتراجع
كانت هناك بطولات كبيرة من اجل الاستقلال ونتيجة وحدة التونسيين تراجعت فرنسا وقبلت الدخول في مفاوضات جدية مع الحركة الوطنية وهنا افتح قوسا لأقول ان المفاوضات بين تونسوفرنسا انطلقت قبل ان تندلع الثورة الجزائرية وبالتالي لا صحة لما يقال إن هذه المفاوضات كانت لقطع الطريق على الثورة الجزائرية التي بدات سنة 1954 .
ثانيا عندما بدات المفاوضات بين ممثلي الحزب في صائفة 1954 في سويسرا كان صالح بن يوسف طرفا أساسيا في هذه المفاوضات وسيكون هو بنفسه في سويسرا للإشراف عليها في حين كان بورقيبة يتابعها من بعيد باعتباره في الإقامة الجبرية في فرنسا ، وبن يوسف كان موافقا على فكرة الحكم الذاتي وهناك رسالة كتبها في سبتمبر 1954 وهو في جينيف يعلم فيها الباهي الأدغم انه وصلته برقية من ابراهيم طبال من القاهرة يعلمه فيها ان عبدالناصر يطلب لقاءه بشكل عاجل. وسافر صالح بن يوسف الى القاهرة والتقى عبدالناصر يوم 4 سبتمبر 1954 وخرج بعد ذلك والى جانبه صلاح سالم وقال انه يعارض مفاوضات الحكم الذاتي.
لماذا غير بن يوسف موقفه من بورقيبة فجأة ؟
طرح الدكتور خالد عبيد في نهاية محاضرته السؤال التالي:ما الذي غير موقف الزعيم صالح بن يوسف بين ليلة وضحاها من زعيم يرعى مفاوضات الحكم الذاتي الى زعيم يعارضها ؟!
واجاب قائلا:» الأكيد ان مصر ضغطت على بن يوسف ودفعته الى اتخاذ هذا القرار ومنذ ذلك الوقت تغير مسار الحركة الوطنية ، الذي حدث آنذاك ان بن يوسف تبنى رفض مفاوضات الحكم الذاتي وهو الخيار الذي لازمه الى اخر لحظة حتى من كان مع صالح بن يوسف تراجع لكنه لم يتراجع ورفض رفضا قاطعا ومن هنا نفهم لماذا ابتعد عنه بعض الذين ساندوه مثل حسين التريكي. هذا المعطى هو الذي أدى الى الصراع الدامي منذ نوفمبر وديسمبر 1955 الى حد مارس 1956 من مواجهات بين الطرفين يتحمل مسؤوليتها الطرفان ولا يمكن ان نحمل وزرها لطرف دون آخر.
في رأيي الشخصي كلاهما يتحمل مسؤولية ما حدث لانهما قادا الشعب التونسي الى المحرقة وهي الفترة المظلمة وكان بالإمكان التعالي على الخلافات الشخصية وليست خلافات مبادئ وكان ممكنا تجاوزها حتى لا تسقط البلاد في العنف ولا يمكن تحميل المسؤولية لطرف دون آخر .
اغتيال صالح بن يوسف هو جريمة لكن في نفس الوقت صالح بن يوسف حاول اكثر من مرة تصفية الزعيم الحبيب بورقيبة خارج الأطر القانونية والوثائق تثبت ذلك حتى بخط بن يوسف عندما امر بتصفية الحبيب بورقيبة وبالتالي يكفينا هذا الكلام عن الضحية فلم يكن هناك ضحية اكثر من الشعب التونسي وأرجو ان لا يتكرر السيناريو مرة اخرى وان يكون الشعب ضحية التجاذبات السياسية وان يكون قادرا على حماية الوحدة الوطنية لان ما نعيشه اليوم شبيه بساحة حرب وقودها عامة الشعب ويستفيد من يقف وراء تأجيجها.