اختلطت جميع الأوراق في تونس، وأصبحت كل السيناريوهات ممكنة، لكن داخل هذه الفوضى تتشكل بوادر جديدة لمشهد سياسي قد تأتي بمفاجآت جمّة. وبما أن نجم السيد حمادي الجبالي رئيس الحكومة والأمين العام لحركة النهضة، هو البازغ هذه الأيام، وإن كان الرجل يتصرف في أزمة وصفها بالخطيرة، ويسلك طريقا هو بكل المقاييس وعرا، فإن هذه الشخصية أصبحت الرّحى الذي تدور حوله وجهة الحياة السياسية ككلّ. فرئيس الحكومة أحدث رجّة مسّت بالعمق المشهد السياسي لما فيها بدرجة أولى من شق عصا الطاعة عن التنظيم الذي ينتمي إليه، ومن رسائل هي موجهة بدرجة أولى للتنظيم المذكور الذي لم يحسن بدوره التصرف في ردود فعله على أمينه العام فقابله بتمرّد مماثل، وأعلن عن رفضه لمساعيه، ولوّح بقطيعة معه. إن تصرف النهضة بطريقة متوترة، وبخطاب تصعيدي مع ما طرحه رئيس الحكومة، وإصرارها على افشال خططه، واختيارها للمواجهة المفتوحة معه، توّجت كلها ما كان يدور همسا حول تفرّق سبل الطرفين، وحول قطيعة نهائية تلوح في الأفق.
فهل يقدم السيد حمادي الجبالي على بعث حزب جديد يعبّر عن رؤاه، ويشمل الأوفياء له ويحتوي على الاسلاميين الذين لم يعودوا يجدون في حركة النهضة ما يغريهم بالبقاء فيها أو الانضمام إليها؟
إن هذا السؤال لا يقلق حركة النهضة ممثلة في بقية قيادتها فقط بل هو أيضا يفزعها كل الفزع، فهذا السيناريو لو هو تمّ سوف يمثل ضربة قاصمة لتنظيم كثيرا ما تباهى بوحدته الصماء، وانضباط عناصره. وهو يأتي في لحظة سياسية تشهد تراجعا مذهلا في شعبيته، وعزلة داخلية وخارجية. وبالتالي فهو لا يحتاج في هذه الظروف إلى ضربة مماثلة سوف تزيد في انفراط عقده، وفي تفتت هياكله. وهو التنظيم، الذي خشية من سيناريوهات كريهة، أجل خلال مؤتمره الأخير لسنتين قادمتين، تناقضات جمّة داخله، وأفكارا متضاربة تشقّه ولكنه لم ينتبه إلى أن تلك التناقضات والأفكار سوف تظهر ثانية عند ممارسة الحكم، وإدارة الشأن الجاري. وانها قد تأتي من رؤوس الحزب وليس من قاعدته. كما أنه لم ينتبه أن هذه المناورة التي أرادت أن تؤجل ما يخشى منه، لم يكن مضمونا البتّة أن تعجز عن احتواء المختلف حوله فيتسرب عبر طرق كثيرة، ومسالك عدّة. ولئن اختلفت أسباب التناقضات هذه المرة إلا أنها قادت إلى نفس النتيجة وبأكثر حدة، وكيف لا تكون كذلك وهي التي جعلت المواجهة هذه المرة مباشرة بين رئيس الحركة والموالين له، وأمينها العام والمتعاطفين معه إن كان تعاطفهم علنيا أو سريا.
إن علاقة الرجلين تشهد تدهورا سريعا منذ مدة، لم يكن نفيها ومن الطرفين ليجدي. وما الهجومات التي تعرض إليها الأمين العام خصوصا في المجلس التأسيسي ومنذ مدة من طرف الموالين لرئيس الحركة إلا دليل على أن في الأمر سرّا. فاللغة التي تمت مخاطبته بها لم تكن لتعكس الديمقراطية التنظيمية وحرية ابداء الرأي والتعبير عنه، كما قيل، بل هي كانت في أسلوبها وفي ألفاظها تصل أحيانا درجة الاهانة الشخصية والتجريح الذي لا يبرّر بل الذي يترك في النفس كلمات، وفي الضمير وخزا. وكان واضحا أيضا ان التعطيل الحاصل منذ شهر جويلية 2012 حول التحوير الوزاري، أتى بعضه من حركة الأمين العام التي تختلف معه حتى في اختيار الأشخاص الذين يمكن أن يعوّل عليهم في الحكومة. فكأنها تريده أن يكون مجرد متلف لتعليماتها ومنفذ لسياساتها. وكان الأمين العام للحركة كلما تحدث عن موعد يخص البدء في خارطة الطريق المطلوبة سياسيا إلا وأتى من الحركة وخصوصا من رئيسها ما ينسف ذلك الموعد وما يحدّد غيره ويضبطه. وتوجد دلائل أخرى كثيرة على أن الاختلافات بين الطرفين أصبحت واضحة وجلية وأن نفيها ليس إلا من باب انكار الموجود ليس إلاّ.
٭ ٭ ٭
تبدأ القطيعة السياسية عادة باختلاف وجهات النظر، ولكنها تحصل عندما يحصل ذلك النفور الانساني بين الأشخاص فهذا الجدار إذا ما تم اختراقه أصبح من اليسير جدّا على القوى المتقابلة ان تتصرف بلا خجل او حسابات، فالقطيعة هي ايضا سقوط للحسابات، حيث لا يجد المعني بها ما يخسره وحيث يبدأ بالبحث عن المنافذ الجديدة للربح. وقد اتضح بداية من الاسبوع الفارط ومنذ اليوم الذي أغتيل فيه الشهيد شكري بلعيد أن أمين عام الحركة قرر البحث عن منافذ جديدة، ووضع أمامه كل سيناريوهات الخسارة الذاتية معوّلا على ربح يرضي به ضميره، ويحقق به هدفا وطنيا. ولكن الأمين العام حقق أكثر من هذا الأمر، حيث اتضحت أمامه نهائيا صورة المشهد الحقيقي لحركته ومكانته الاعتبارية والمادية فيها وأخلاقيات تعاملها معه ومع غيره.
لقد تخلص الرجل من حمل ثقيل، بل من أحمال كثيرة، بعضها بقي جاثما على كتفيه منذ انضمامه إلى حركة الاتجاه الاسلامي، فولد من جديد، وبعث مرة أخرى لذلك ذكرنا في ورقة سابقة ان النهضة لم تعد تعرف حمادي الجبالي، لقد أصبح لغزا مشفّرا لم تعد تفيد معه لا الدروس التي تلقاها ولا الرحلة الطويلة التي جمعته بوجوه كثيرة فيها. وقلنا أيضا ان لا حلّ في هذه الظروف الا ان تنصاع حركته اليه، وأن تتكيف معه، وأن تقبل به وأن يضمن هو كل ذلك. وهذا أمر صعب وغير مضمون البتة، أو أن يقدم على بعث حزب جديد سوف يجد هوى كاملا من مدارس إسلامية شتى، وحتى من شخصيات وطنية كانت دائمة الاعتقاد بأن لا تناقض بين الاسلام والديمقراطية فهذا الالتقاء ممكن، وأن لا تناقض بينه وبين الهوية التونسية الخالصة العميقة. وأن لا تناقض بينه وبين فهم الواقع التونسي العميق بدوره والثري في تاريخه وتراثه كل الثراء. لا شكّ ايضا ان حمادي الجبالي يعلم مصادر كل تلك الهجومات على شخصه، وكل ذلك الايحاء المقصود عن جذوره الجهوية، وكل ذلك السعي الى اتهامه بأنه على علاقة بالنظام القديم. وهذه سلوكات تقطع أمامه خيط الرجعة، وتزيد من حسرته الشخصية، وتفتح عينيه على قبح لعلّه لم يكن يتصوّره، لكنه الى الآن يغضّ الطرف عن كل ذلك، باحثا عن المشورة (من الشورى) ومن هياكل جديدة على غرار مجلس الحكماء الذي بعثه معوّضا به هياكل حزبية أخرى، باحثا من خلاله عن أفق جديدة للعمل وللقرار وسبل اتخاذه وصياغته معا. وإن كان هو ينفي أنه سوف يعوّض به تلك الهياكل سواء كانت وطنية أو حزبيّة. ولئن كانت الظروف الحالية لا تسمح له بالانكباب على العمل الحزبي، بل إن مجاله هو المجال الوطني الصّرف في هذه المعركة الكبيرة، الا أن فكرة الخروج من حركة النهضة تجد منطقيا وسياسيا كل ما يسندها، حتى إن قال إنه سوف يكون حزينا لذلك، وحتى إن أكّد قادة في النهضة بارتباك تام، وغضب واضح، وتوتّر ملحوظ أن هذا الكلام هو من باب الخيال، وأن الجبالي هو ابن الحركة وأمينها العام، وأن هذه هي أماني الخصوم الذين لا يريدون للحركة خيرا ولا يسعون الا الى تدميرها.
وهذا بالطبع كلام يوجّه غضبه الى غير وجهته، ويتهم على الدوام وكما جرت العادة الآخرين بالتآمر، ويبرء الذات من كل مسؤولية، فيما وجهة الأحداث والتاريخ سائرة صوب منطق خلقه فعل انساني. يخطئ ويصيب، وأنتجته سياسة وعلاقات، واستدرجت إليه أوضاع لم تُحسن قراءتها. ذلك أن التاريخ ماكر بطبعه أكثر من مكر الاشخاص. وغامض حتما إذا لم تدركه بصيرة وبصر معا.