لقد وضع رئيس الحكومة مصداقيته في الميزان لما اشترط بقاءه في منصبه بتحقيق مبادرته المتمثلة في تشكيل «حكومة كفاءات وطنية بلا انتماءات سياسية» لكن حزبه حركة النهضة رأت عكس ما ذهب إليه أمينها العام واعترضت اعتراضا قاطعا ومدويا بالبيانات والتصريحات والمسيرات.. ورغم أن تكثيف مفاوضات الساعة الأخيرة وتأجيل الإعلان عن نتائجها فإن تقديم الاستقالة فرضه التطور المنطقي للأحداث. والسؤال الآن: هل تستغني النهضة عن أمينها العام المستقيل أم أن هذه الاستقالة مجرّد استراحة في مسرحية حكم تتمسك النهضة بكامل خيوطها؟ بصيغة أخرى: هل هذه الاستقالة بداية نهاية أم هي ذهاب وعودة؟
الواضح أن النهضة لا يمكنها أن تستغني عن حمادي الجبالي. لا فقط لأنه رمز من رموز التنظيم كسب فيه شرعيته بنضال طويل توجّه بتضحية السجن الذي دام ست عشرة سنة منها عشرة سنوات في العزلة، بل لأنه كذلك قدّم جليل الخدمات للتنظيم الإسلامي وأعطاه بُعد وقوة حزب حُكم حتى وإن كُلّلت تجربة حكومة بالفشل وأخرجه من موقع الضحية المتقوقعة في خطاب الاحتجاج والرفض.
ولعلّ أهم ما قدمه السيد الجبالي لحزبه النهضة جاء وهذه مفارقة إثر تقديم مبادرته التي عقبت اغتيال الشهيد شكري بلعيد فساهمت بقدر كبير في تخفيف وطأة الحدث الجلل وتحويل اهتمام الرأي العام إلى هذا الاستحقاق السياسي. كما ساهم حمادي الجبالي بمبادرة حكومة التكنوقراط في إعادة النشاط إلى النهضة ودفعها إلى قبول الحوار مع مختلف الفاعلين السياسيين وحرّك سواكنها ومكّنها من البحث عن التعبئة من جديد بعد أن كادت تنام على نجاحها الانتخابي والأغلبية التي أعطاها إياها في المجلس والحكومة وربما ظنت خطأ أنها معدّة طبيعيا للحكم.
لقد كسب الجبالي منذ إطلاقه لمبادرته مصداقية وشعبية لا يمكن أن يتغافلها تنظيم النهضة أو ان تستغني عنها هذا إذا افترضنا أصلا أن النهضة التي تأسست على مبادئ وقيم التنظيمات الاخوانية التي لا ولم تستغن عن قيادييها من الصف الأول.
والأهم من ذلك هو أن السيد حمادي الجبالي يظهر اليوم للنهضة أقل خطورة في التنظيم منه لو كان خارجه. هل هذا يعني أن السيد حمادي الجبالي استقال.. ليعود على رأس حكومة لا تكنوقراطية بحتة ولا سياسية بحتة ولكن تمزج بين هذه وتلك؟ الأمر ليس مستحيلا لا سيما إذا اعتبرنا من ناحية أخرى أن السيد حمادي الجبالي لم يغلق الباب نهائيا أمام عودته وأكد تشبثه بشروطه الأصلية لكنها شروط لم تعد تعجيزية بعد مفاوضات المرحلة الثانية التي عقبت التأجيل عن قرار تقديم الاستقالة.
لقائل أن يقول بعد هذا كلّه ما الذي يمكن أن يحصل لو قررت النهضة الاستغناء نهائيا عن حمادي الجبالي وترشيح شخصية أخرى لرئاسة الحكومة؟ جوابان اثنان ممكنان: الجواب الأول: لن تكون الحكومة في هذه الفرضية كما كانت بل ستجبر على تنازلات كثيرة والاستجابة لأغلب الشروط التي وضعها السيد حمادي الجبالي. الجواب الثاني: وهو من باب الاحتمال: قد يتحرر عندها السيد الجبالي من النهضة ويمضي في سبيل تكوين تنظيمه السياسي معززا بما اكتسبه من تجربة ومن تعاطف شعبي. وهكذا يكون الجبالي رابحا في كل حال رغم أنه قد استقال.