بعد 14 جانفي تعاملت قوى كثيرة مع الأمن مثل الطريدة التي يجب قتلها. وقد التقى في عملية المطاردة جزء من النخبة، وأيضا جحافل من السوقة والرعاع معا. وتحت شعار التطهير عاشت الأجهزة الأمنية ارتباكا شديدا، خصوصا وعناصرها يرون ان قيادات أمنية كبيرة تتعرّض للطرد أو المحاكمة او الاحالة على التقاعد، دون أدنى احترام واجب للجهاز الأمني، مع إمعان مقصود في الإهانة والثأر إن ماديا او لغويا. وخصوصا أيضا أن الأمن دفع من الشهداء أعدادا وفيرة وتعرّض أهالي عناصره، وممتلكاتهم الى العدوان والتخريب واضطر بعضهم الى الهرب والتخفي. وإذا كان هذا السلوك يرمي الى فرقعة هذا الجهاز، الا انه عجز على ذلك، ولكنه بالمقابل حقق ما هو أخطر، ألا وهو ضياع هيبة الدولة والدوس على القانون مع ما يصحبه من إنفلات اجتماعي، ومن تخييم للخوف ومن انتشار للذعر والفزع.
وبالمقابل من عودة الاحساس العميق بالحاجة الى الأمن والأمنيين. ومن مفارقات تلك الفترة الأولى أن الأمن كان ملاحقا بالمحاسبة ولكنه كان ايضا مطالبا بحماية الناس. إن الأمن في كل الدول التي تحترم نفسها جهاز خاص لا يخضع في التعامل معه للمتعارف عليه، من ذلك على سبيل المثال أن رجل الأمن مهما كانت رتبته عندما يُظن في سلوكه او يدان في فعله، يخضع لمحاسبة من نوع خاص، فيها تتردد «نوتات» الموسيقى العسكرية، وفيها يُحترم المعني بالأمر كل الاحترام اعترافا لصفته لا لشخصه، فلا يهان ولا يتم تصويره، ولا يحاكمه من هبّ ودبّ. بل يشرف على محاكمته مجلس شرف خاص، في فضاء يشعّ هيبة ويتلألأ بالبروتوكولات الواجبة لمهنة خاصة ولجهاز غير عادي... يحفظ وطنا ويحمي بلادا ويسهر على الشعب.
لذلك لا يصحّ أن يتدخل في هذا الجهاز وأسراره لا النخب «الثورية» ولا جحافل الرعاع والسوقة. بل إن كل إعادة هيكلة له، أو محاسبة داخله يجب أن تتم عن طريق أناس مهابين وثقاة وحافظي أسرار مع تشريك الهياكل النقابية الأمنية، التي تمتلك تصوّرات حقيقية لكل الاشكالات التي تطرح أو قد تطرح أمام هذا الجهاز وأولها إشكال القانون الأساسي وكيفية بعث أمن جمهوري مستقل عن الارادات والحسابات السياسية التي مثلت في السابق الأزمة الحقيقية لجهاز الأمن، وقد تمثل لاحقا أزمة أخرى. إن تونس تواجه الآن مخاطر أمنية حقيقية جلها مخاطر ارهابية على درجة كبيرة من الخطورة فالسلاح منتشر في دهاليز كثيرة، والعبوات الناسفة التي تم الكشف عنها مازالت تختفي وراءها مئات العبوات الأخرى، ووصل الأمر الى الاغتيال السياسي السافر الذي يتم في وضح النهار وفي ضاحية محصّنة ووسط اكتظاظ مروري في ساعة ذروة، وهو ما يجعل من الأمن أولوية الأولويات وما يتوجه في الصدارة.
لقد أصبح من الواجب على جميع الأطراف أن تترك هذا الجهاز وشأنه وأن تسانده في مساعيه أن تكفّ عن اتهامه وتحطيمه وأن تقيم مع هياكله النقابية علاقة حوار وإنصات. وهي دعوة موجهة لوزير الداخلية مهما كان شخصه وأيضا لهياكل المجتمع المدني المعنية بهذا الشأن.