هل أصبح إهدار الدم مباحا بإسم الدين؟ هل أن التصفية الجسدية الوسيلة الأنجع لإخماد الأصوات؟ هل يمكن تبرير جريمة القتل ؟ أسئلة طرحت إبان اغتيال الشهيد شكري بلعيد فبإغتياله ازداد التخوّف من استمرار منهج العنف. مثلت عملية اغتيال المناضل الوطني الشهيد شكري بلعيد مؤشرا خطيرا على الساحة الوطنية بصفة عامة خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار ما سبق عملية الاغتيال من تحريض على تنفيذ الجريمة. التحريض لم يتوقف عند حادثة الاغتيال بل تواصل بعد تنفيذها ليعزز بتشويه لسمعة الشهيد والدعوة إلى اهدار دم كل معارض لاتهامه بالكفر والالحاد.
أرضية ملائمة لتنفيذ الجريمة
كل عملية اغتيال يسبقها تخطيط وتدبير وحكم قبل تنفيذها فالجاني وقبل إكتمال النيّة في الفعل الاجرامي يكون قد مهدّ لجريمته وحدد مبرراته. والمتابع للاحداث قبل اغتيال الشهيد شكري بلعيد يلاحظ التلويح بقتله واطلاق الفتاوي بإهدار دمه واتهامه بالكفر وتواصل الامر حتى بعد اغتياله إذ تواصل التحريض ضده وذلك بالدعوة إلى عدم دفنه في مقبرة اسلامية. كما استغلت المنابر للدعوة إلى تكفير اليساريين ودعت بعض الصفحات المحسوبة على المتشددين دينا إلى قتل وذبح كل من يختلف معهم.
إذ جاء باحدى الصفحات«قتل الكافر شكري بلعيد وان شاء الله سيأتي الدور على كل الماركسيين الشيوعيين وتبني دولة اسلامية» الاستاذ خالد الكريشي يقول ان مواصلة الخطاب التحريضي هي رسالة مضمونة الوصول إلى كل معارض وان الجهات التي تقف وراء ذلك تواصل للاسف سياسة الهرسلة مضيفا ان الشهيد شكري بلعيد كان أكثر ايمانا وممن يتاجرون اليوم بالدين، ولم يسمعه يوما يتلفظّ بكلمات نابية بل بالعكس كان يبدأ يومه بسماع القرآن. أكد الاستاذ الكريشي ان هناك توظيف رخيص للمعتقدات الدينية.
من جانبه أضاف الاستاذ فوزي بن مراد الناطق الرسمي باسم هيئة الدفاع عن الشهيد شكري بلعيد ان عملية الاغتيال سبقتها حملة اعلامية ضده كانت ضربة البداية لوزير الداخلية الحالي الذي اتهم الشهيد بأنه كان وراء عديد الاحتجاجات والاضرابات والحال ان شكري بليعد كان في تلك الفترة خارج تونس. الامر تواصل بنسق تصاعدي وأصبحت المنابر داخل المساجد فضاء للفتاوى بإهدار الدم وكذلك مواقع التواصل الاجتماعي إذا أصبح الركن المعنوي لجريمة الاغتيال متوفرا والجناة وحتى ان لم يتلقوا أوامر مباشرة بالقتل فإنهم تلقوا ذلك عبر الخطب التحريضية لكن ورغم وصول العلم إلى وزارة الداخلية بتلك التهديدات فإنها لم تتخذ الاجراءات اللازمة كما لم تحرك النيابة العمومية ساكنا وهو ما يجعلها تتحمل المسؤولية السياسية.
القتل جريمة لا تبرر
ثقافة الاغتيال لا نجدها راسخة سوى في أذهان الجبناء العاجزين عن مواجهة خصومهم وتستمد مشروعيتها من خلال خلق تبريرات واهية كالتكفير الذي برر اغتيال الشهيد بلعيد وواصل التكفيريون منهجهم بالدعوة إلى عدم دفنه في مقابر اسلامية والتهديد ببعثرة قبره. فالتكفير هو محاولة للتبرير الديني لاغتيال الشهيد بلعيد وهي تهديد ضمني أيضا لمناصري الشهيد بأن سياسة الاغتيال ستتواصل ولن يكون شكري بلعيد هو آخر شهيد وآخر اغتيال سياسي لان منطق التكفير الذي سبق اغتياله مازال متواصلا. يضيف في نفس السياق الاستاذ فوزي بن مراد أن التركيز على مسألة التكفير تؤكد ان الاطراف التي كانت وراء عملية الاغتيال تحاول أن تبرر عملية الاغتيال من الناحية الدينية ولولا ان وحدات الجيش تحمي ضريح الشهيد بلعيد لوقع الاعتداء عليه باسم الدين. أوضح أيضا ان منطق التكفير هو من النتائج السلبية لادخال الدين في السياسة وعدم تحييده من طرف حركة النهضة ومشتقاتها ودخول هذا المنطق التكفيري إلى حياتنا السياسية هو مقدمة لمرحلة قادمة من العنف الذي كان الشهيد بلعيد نيّة إليه.
السؤال المطروح هنا من يتحمل مسؤولية الاغتيال هل هو من أطلق الرصاص أم من حرّض على ذلك؟
من يكفر المجني عليه هو مشارك بالضرورة في الجريمة والمشاركة في الجريمة ترتقي إلى مرتبة الفاعل الأصلي من خلال الاعمال التمهيدية التي سبقت تنفيذ الجريمة. الاستاذ خالد الكريشي قال إن المحرّض من الناحية القانونية يعاقب بنفس عقاب المنفذ مما يجعل المسؤولية الجزائية تشمل كافة الأطراف السياسية الذين ساهموا بدرجات متفاوتة في وضع الشهيد موضع المستهدف.
المتابع لقضية الشهيد شكري بلعيد حمل الجهات الرسمية مسؤولية هذه الجريمة النكراء باعتبار ان الشهيد بلعيد حدّد قاتله قبل اغتياله ونسب ذلك الى طرف سياسي ورئيس الجمهورية على علم أيضا بالتهديدات.
وهنا يضيف الاستاذ عبد الناصر العويني ان الجناة يواصلون فرض منطق القوة وسياسة التخويف والترهيب فمحاولة تشويه السيرة الخاصة بالشهيد وتلفيق الاتهامات وتمزيق صورته لا يستشفّ منه سوى مواصلة نفس المنهج وهو العنف السياسي واستهداف اليساريين إذ مهما كان الفاعل فالمتسبب في القتل سواء بالتحريض أو بالفعل فهما شريكان في العقاب.
انتهازية سياسية
وجهت أصابع الاتهام منذ انتشار خبر اغتيال الشهيد شكري بلعيد إلى حزب حركة النهضة خاصة وان وزارتي السيادة أي الداخلية والعدل تحت إشراف الحركة هذا الاتهام رفضه الحزب واعتبره تجنيا من قبل الأطراف التي تحاول الترويج لذلك.
رئيس مكتب الاعلام لحركة النهضة نجيب الغربي صرّح ل «الشروق» أنه لا بدّ من الخروج من وضعية الاتهام فهناك وضعية انتهازية سياسية سقطت فيها بعض الأطراف على حدّ قوله وقال ان عديد الأطراف السياسية لا تتورّع اخلاقيا من الاستفادة من حادثة الاغتيال مقابل الارتزاق السياسي والبحث عن شعبية مزعومة فالحركة كانت ولازالت تدعو إلى التصدي إلى التهديد بالعنف المادي أو اللفظي.
صرّح كذلك ان المشكلة تكمن في عدم وجود جدية من الأطراف المعنية في مساعدة حركة النهضة والعمل معها من أجل بثّ ثقافة التعايش ونبذ العنف خاصة وان البلاد في أزمة سياسية تتطلب تظافر الجهود لانقاذها من دوامة العنف لكن وللأسف وحسب قوله فإن البعض اغتنم الفرصة من أجل استعمال أقصى درجات الاستقطاب بين الجانب الاسلامي والجانب العلماني. والمفروض التفكير في وحدة وطنية والمسؤولية جماعية بين كل الأحزاب فالعنف مأتاه قوى اليمين وقوى اليسار معا.
اصرار على التشويه
لم تتوقف بعض الصفحات المأجورة على موقع التواصل الاجتماعي عن تشويه صورة المناضل شكري بلعيد مستغلة في ذلك التجاذبات التي شهدها ملف القضية من تشكيك في علاقته بزوجته الى تكفيره. فالواضح أن ملف القضية حاد عن سياقه الأصلي وهو كشف الجناة إلى محاولة لتشويه السيرة الذاتية للشهيد الذي أصبح عنصرا للمزايدة بين مختلف الاحزاب وذلك بتبادل الاتهامات. اتباع سياسة التشويه المراد منها افقاد الشخص المعني بالأمر شعبيته ومحاولة فاشلة لاضعاف ملف القضية.
من جانبها اعتبرت وزارة الداخلية ان تلك التصرفات من شأنها أن تدفع بالقضية نحو الفوضى واستنكرت في جانب آخر التأويلات المروّجة التي رأت فيها تجنيا على المؤسسة الأمنية ومحاولة لضربها. أكد الوزير أيضا أن الأبحاث متقدمة وان الوحدات المختصة مجندة لكشف الحقيقة وان القضاء هو الفيصل.
ماذا يقول علم الاجتماع السياسي؟
أفاد أستاذ علم الاجتماع السياسي سالم الأبيض ان السلوك الديني لبعض المجموعات المتدينة التي ظهرت مؤخرا تضع نفسها موضع الاتهام من حيث لا تشعر لأن كل من أعلن العداء والتكفير ولوح بالاعتداء على شكري بلعيد قبل اغتياله يضع نفسه في موضع المتهم سواء هو مارس الجريمة أو لم يمارسها. هذا السلوك ينم عن عنترية وتشدد غير مبرر في التعامل مع هذه المسألة فثقافة الاغتيال لا تكمن خطورتها في التلويح بالتهديد وإنما تكمن في خلق الأرضية الاجتماعية والثقافية التي تحصل من خلالها التصفية الجسدية على خلفية اختلاف المواقف والرؤى والأفكار. يواصل الأستاذ سالم الأبيض توضيحه قائلا : «من هذه الزاوية تتحول حوادث الاغتيال السياسي من ظاهرة عرضية إلى ظاهرة تتوفر فيها شروط الظاهرة الاجتماعية الحقيقية وبالتالي إعادة انتاجها دون تأنيب للضمير.
فبهذه الطريقة انتشرت ظواهر الاغتيال السياسي في المجتمعات التي شهدت حروبا وانتشر فيها السلاح خاصة العراق ولبنان ويتحول الخلاف إلى صراع وينحو الصراع منحى رائحة الموت وتصبح مثل هذه الظواهر ظواهر عامة ومؤسسة في سلوك المجموعات السياسية.
وعلى الدولة أن تؤدي دورها جيدا في احتكار العنف المشروع وتقضي على من ينافسها في احتكاره مهما كانت درجة التشابه السياسي والولاءات الايديولوجية وإلا فإن القائمين على الدولة ستحرقهم نفس تلك النيران التي حرقت معارضيهم السياسيين.
اغتيال الشهيد شكري بلعيد يرمي من وراءه إذا اغتيال كل فكر حرّ وعقلاني تحت حجة العلمانية كما له مؤشر خطير في الصراع السياسي إذا فشل الحزب الحاكم في ايقاف موجات التحريض على العنف.