كيف يعيش الكتاب والمثقفون السوريون ما يجري في بلادهم من دمار ؟ للإجابة عن هذا السؤال كان لابد من لقاء مع صوت من داخل سوريا . رفضت سوزان ابراهيم مغادرة بلادها مفضلة الموت على المنفى او اللجوء الى اي بلد لكنها تعيش مرارة الحرب التي تلتهم بلادها بتدخل من دول إقليمية تريد القضاء على وحدة سوريا «الشروق» التقتها في هذا الحوار:
ماهي ملامح الوضع الثقافي والأدبي في سوريا في الوضع الذي تعيشونه؟
مثل أي مكوِّن أساسي في المجتمع السوري, طالت نتائج الأزمة الثقيلة, التي تنيخ ركابها على أرض حياتنا اليومية, الوضع الثقافي والأدبي في سورية. لقد أصيب الكثير من تجليات الثقافة بما يشبه الشلل. كثير من المراكز الثقافية دمرت كليا أو جزئيا, أو نهبت على أقل تقدير, خاصة في المناطق الأكثر سخونة في الأحداث المتنقلة ككرة نار على الأرض السورية. طالت يد العنف والإرهاب عددا من الكتاب- قتلا وخطفا- وكثيرا من الأدباء والمثقفين احتموا بمناطق الصمت والظل خوفا, أو اعتراضا, أو يأسا.
بقيت دمشق زمنا طويلا بمنأى عن نتائج الأزمة, ربما حتى صيف 2012 , حيث كنا نحضر الأنشطة في دار الأوبرا.. وبعض العروض المسرحية, والندوات, ومهرجانات سينمائية على نطاق محلي. المثقف الحقيقي يكاد يختنق, أو ينفجر حين يرى آثار سوريا- ذاكرة الحضارة التي ورثناها- تباع في أسواق التهريب أو تدمر أو تسرق. قلاعنا.. مدننا القديمة.. أسواقنا التاريخية... الكنوز التي لا تقدر بثمن... أكاد مرات لا أصدق كل ما نعيشه. كي لا أبدو سوداوية أقول: مازال بعضٌ ممن يؤمن بالجوهر المراد من الثقافة, يقاوم العنف وتبعاته بضروب من الفنون: مسرح, دراما, سينما, موسيقى .. ومازال أطفال كثيرون يتعلمون العزف والغناء, وهذا مصدر تفاؤل لنا. على الرغم من حالة الخوف والتهديد ومظاهر الحرب الحقيقية التي نعيشها يوميا, نحمل شعار: الأمل بالغد الأجمل, وربما يلتفت أهل السلطة إلى أهمية الثقافة في حياة المجتمع, فهي لم تكن ولن تكون يوما ترفا, بل أساس وجوهر تربية الأفراد في المجتمع.
حركة النشر ما هي نسبة تأثرها بالأزمة الأمنية في سوريا؟
لم تكن حالة النشر بأحسن حالاتها قبل الأزمة بسبب الوضع الاقتصادي, وتراجع عدد القراء, والراغبين باقتناء الكتب. ثمة عدد من المكتبات أغلقت أبوابها وتحولت إلى أشياء أكثر نفعا ماديا لأصحابها. نعم.. بعد الأزمة توقفت أكثر من دار نشر عن العمل, بسبب الكساد, والأسعار الجنونية, وبسبب توقف بعض معارض الكتب العربية عن دعوة دور النشر السورية للمشاركة. أعتقد أن حركة النشر كانت قبل الأزمة تعاني, فما بالك بها خلال كل ما تمر به سوريا من أوضاع مؤلمة على كافة الصعد.
على الصعيد الشخصي أجّلت طباعة ونشر مجموعة جديدة بسبب الأوضاع اليوم, فكل ما ينشر الآن سيموت بسبب عدم وجود أجواء احتضان لأي مولود جديد.
هل تعتقدين ان الاتجاه المسلح للذين يعارضون النظام ودخول أجانب قد غير مواقف المثقفين باتجاه مساندة النظام السوري؟
المجتمع السوري كما أعرفه مجتمع معتدل مسالم وقلما كنا نلاحظ خرقا للقانون في الحياة العامة, وقد تمتع ولسنوات طويلة بحالة من الامن والامان, وفجأة انقلب الوضع رأسا على عقب, فبالكاد تمر في شارع ولا يكون السلاح بكل انواعه ابرز مظاهره. لست الناطق باسم المثقفين السوريين, لكنني أعتقد أن معظم المثقفين في سوريا- في الموالاة والمعارضة- ينبذون العنف والسلاح, وهذا ينطبق على شرائح واسعة من الشعب السوري كما أعتقد, هم يدركون أنهم الضحية الوحيدة التي اضطرتها أطراف النزاع لتكون وسط الطاحون. نعم اعتقد أن نسبة لابأس بها من السوريين تراجعت عن دعم المعارضة بسبب العنف- رغم أن بعضهم يحاول تبرير ذلك بالدفاع عن النفس, ولكن السؤال الأبرز الذي يطرح: لم الاحتماء بالسكان المدنيين؟ المثقفون والسوريون بشكل عام- بعيدا عن النظام والمعارضة- يدعمون بقاء الدولة, فانهيارها يعني الضياع. ثمة تيار ثالث يشكل الأغلبية السورية ممن لا يدعمون نظاما, أو معارضة, بل يدعمون وطنا وأرضا وشعبا.
لماذا بقي صوت المثقفين السوريين خافتا في مواجهة صوت الرصاص والتفجيرات؟
في ساحة لا صوت يعلو فيها على صوت الرصاص والقتل, أين لصوت المثقف أن يعلو؟! حين تنفلت الغرائز من عقالها, لا أحد يصغي لصوت العقل. كما ذكرت سابقا انقسم المثقفون السوريون كما كل الشرائح الأخرى بين موالٍ حتى النخاع وتبرير أي فعل, وبين معارض حتى استجرار التدخل الأجنبي! أما الأغلبية فهم من العقل بحيث يقفون على خط التماس خوفا أحيانا من ردات فعل الطرفين المتعصبين, وأظن أن هؤلاء من شكل صمام الأمان للمجتمع السوري.
بعض المثقفين السوريين أُقصي وهُمّش واعتُقل ونُفي على مدى سنوات طويلة, مثل هؤلاء لا أظنهم يوالون سوى الوطن وبقاء الدولة. بعض ممن جلسوا في أحضان السلطة زمنا طويلا واستنفذوا كل فوائد التسلق والتملق لها, كانوا أول من انقلب عليها وتحولوا إلى معارضين صناديد خارج حدود البلد, أمثال هؤلاء لا أحد يثق بهم! أعتقد ان كل مثقف أو مواطن سوري يؤمن بسورية وطنا نهائيا له ولسلالته, ولا يجيد اعتلاء سنام الموج الأعلى, قد أدان ومازال العنف والدماء وصوت الرصاص والتفجيرات.
كيف تسير الحياة اليومية في دمشق وباقي المدن السورية وماهي حقيقة سيطرة المعارضة على جهات من البلاد؟
الحياة داخل مدينة دمشق تكاد تكون طبيعية غالبا: أسواق ومطاعم ومقاه وحدائق وتنقل... ربما ما عدنا نتأخر في السهر أو البقاء خارج البيوت بعد مغيب الشمس. مع ذلك نتحلى بخاصية عشق الحياة على الرغم من قناعة بتنا نمتلكها: قد يخرج أحدنا من بيته ولا يعود! بالنسبة الى المدن الأخرى: أنا من مدينة حمص, والتي عاشت وأهلها أوقاتا عصيبة جدا- فثمة خصوصية لهذه المدينة ذات الطيف المجتمعي المتعدد- طوال الفترة الماضية تابعت السفر إليها, رغم الخوف الذي قد يخفيه الطريق مرات. بعض أحياء حمص تعيش حياة شبه طبيعية, حلب كذلك ربما- فلم أزرها منذ 25 آذار ( مارس)2011. اللاذقية وطرطوس والسويداء والقنيطرة تنشط الحياة فيها, أعتقد أن كرة النار تتركز حاليا في مدن المنطقة الشرقية الشمالية من سوريا. بالنسبة لسيطرة المعارضة المسلحة- ربما الأصح المجموعات المسلحة وبعض المجموعات التكفيرية- فهذا يحتاج إلى محلل عسكري وبين يديه خرائط.
هل يوجد أمل في حل سلمي؟
لا أمل إلا في حل سلمي عبر السياسة. لكن الوضع حتى الآن غير مبشّر. وهذا ما يراه معظم السوريين. مازالت القوى الكبرى تتوافق على تقسيم كعكة المصالح والنفوذ, وريثما يتفقون سيدفع الشعب السوري فاتورته الباهظة يوميا. السوريون اعتادوا الأمن والأمان, وأهل الشام أهل السيرانات (النزهات) على ضفاف بردى, كادوا يستنفدون طاقة الصبر والتحمل. حين انطلقت شرارة الاحتجاجات في تونس راقبناها باهتمام, وحين انتقلت إلى مصر تمنينا أن تتبع قاعدة الأواني المستطرقة لتصل إلى سورية, فنحن أيضا نريد التغيير واستعادة كثير من حقوقنا كمواطنين, لكن الحراك الشعبي لم يستمر كما كان عليه أن يفعل, فثمة من تسنّم موجة الغضب الشعبي ليحيله نارا ودمارا... حتى هنا امتدت أيادي المصالح لتحرمنا من الحلم بمزيد من الحرية والديمقراطية ولهذا تراجع كثيرون عن دعم الاحتجاجات. إذا صحت قاعدة: «الأمور بخواتيمها», فأظن أن ما شهدته ساحات العرب لا يبشر بخير.
انت ككاتبة ماذا تغير فيك بعد عامين من اندلاع الاحداث الدامية؟
عايشت واقعا صعبا جدا, خوف ورعب وفقدان أمان ونزوح, حرمنا من التجول في مدن وطننا, وأنا عاشقة السفر والتمتع بالجمال الذي وهبته الطبيعة لسورية في كل بيئة فيها... لقد بيّنت الأحداث الدامية صدق ما نبهنا إليه دوما: الانتباه إلى التشدد الديني الذي بدأ التسلل إلى المجتمع السوري منذ سنوات عديدة, وتدفق الاستثمارات الخارجية التي سعت لاجتذابها الحكومات السابقة, لم تدخل مجردةً من أي نوايا, فقد نشرت معها ثقافة أهلها... زادتني الأزمة تمسكا بالأرض السورية وعمّقت قناعتي بروعة الشعب السوري الذي يتمسك بفسيفسائه الاجتماعية التي تشكل لوحته الأجمل, تعلمتُ كيف يمكن للتاريخ أن يكتب أو يزوّر.. كيف أن قيمة الإنسان تعلو على أي قيمة أخرى. ودائما نريد مزيدا من الحياة والحرية.
كلمة أخيرة: رغم كل ما أفرزته هذه الأحداث على الأرض العربية والسورية, لابد من الاعتراف بأن لكل ما جرى جانبا إيجابيا تجلى بغضبة الشعوب التي عاشت ظلما وقهرا طويلا وأثبتت أن شدة الضغط تولد الانفجار, ولولا من تسلق وسرق ثورة الشعوب لكانت مرحلة تاريخية هامة وخطرة بكل المقاييس.
سوزان ابراهيم قاصة وشاعرة وإعلامية محررة في القسم الثقافي في جريدة الثورة السورية الرسمية. أشرفت لعدة سنوات على صفحة رسم بالكلمات التي عنيت بالأدب الجديد للشباب السوري. تشرف منذ سنوات على صفحة فضاءات ثقافية. ولها زاوية ثابتة كل أربعاء في الصفحة الثقافية. إجازة في اللغة الانقليزية- دبلوم تربية وعلم نفس تقيم في دمشق. أصدرت ثلاث مجموعات قصصية: (حين يأتي زمن الحب)- (امرأة صفراء ترسم بالازرق)- (لأنني لأنك) وفي الشعر أصدرت «كثير انت» و«لتكن مشيئة الربيع».