أحيانا أتساءل: من يعمل أكثر لفائدة الإسلام، أنصاره أم خصومه؟ أولئك الذين يدافعون عنه أم الذين يهاجمونه، الإسلام كدين وثقافة وحضارة ومجتمعات أيضا، وخصوصا كشريعة، بمعنى تلك المدونة الواسعة والشاملة التي تراكمت طيلة قرون من حياة الإسلام والمسلمين، وهنا لا يجوز أن نقصر الشريعة على فقه العبادات والمعاملات، بل هي تتّسع لجميع مناحي الحياة التي طالها التشريع، وعمل على تحديد كيفية إقامة المسلم في الكون، الشريعة هي كل تشريع صريح أو ضمني صاغته العقلية العربية الإسلامية، بمختلف طوائفها ومذاهبها ومللها ونحلها، في نصوص لغوية، عبر مختلف عصورها وحقبها وهي في حوارها المستمر مع النص الديني، بصفته نصا إلهيا مكتوبا في لغة بشرية، لغة تستمد حياتها من حياة مستعمليها وطريقة فهمهم وظروف زمانهم ومكانهم، ومستوى وعيهم وقدراتهم العقلية والمعرفية، وهي بطبيعة الحال قدرات متنامية ومختلفة، تؤثر وتتأثر بما توصلت إليه المعرفة في زمنها وبالعقل السائد والمهيمن في ذلك الزمن. ندرك أن هناك قوى ومصالح وصراعات في كل تشريع، وفي كل ضرب من ضروب الإنتاج اللغوي. المعرفة هي الأخرى ليست بريئة وليست فوق مستوى الشبهات. لنتذكر فقط ما حصل في حرب الخليج الثانية، إثر غزو العراق للكويت، وقبل بداية العمليات العسكرية، حين عٌقد مؤتمر لعلماء المسلمين في العراق حرّم الاستعانة بالأمريكان، وعُقد في نفس الفترة مؤتمر آخر في السعودية لعلماء مسلمين آخرين أباحوا الاستعانة بأمريكا، والجميع، من الجانبين، أفتى وشرّع انطلاقا من النص الديني واستنادا إلى التجربة التاريخية للعرب والمسلمين، ورٌفع القرآن مرة أخرى فوق أسنّة الرماح، أو أسنة الصواريخ حسب سلاح العصر، وما أكثر ما استعان العرب والمسلمون في تاريخهم المديد بالأجانب على بعضهم البعض حين تتفرّق سبلهم وتتناقض مصالحهم، وكل طرف يجد في الشريعة حجّته التي تبرر له هذا السلوك أو ذاك، وما تبقى تشرّعه القوّة وتضعه موضع التنفيذ. وعود على بدء: أيهما يخدم أكثر لفائدة الإسلام أنصاره ومعتنقوه أم خصومه والكافرون به؟.. لنحاول الإجابة مستعيرين مثالا آخر أقل حساسية من الإسلام، وليكن ذلك من الحقل الأدبي... هل يمكن أن نتخيّل كتابا جديرا باسمه، رواية أو شعرا أو نقدا وتنظيرا، إذا لم يكن محلّ تجاذب واختلاف وصراع بين المعجبين به والكارهين له المتتبعين لسقطاته وفجواته والتباساته؟ هل من الممكن أن يوجد كتاب في الدنيا يمكنه أن يعيش بالمعجبين به وبأنصاره فقط؟ من طبيعة الأنصار أن يروا بعين المحبّ، وهي كليلة عن كل عيب، وتنزع لحماية محبوبها بصريا من العيون الأخرى، وتعمل بلا هوادة على الاستئثار بالمحبوب وعدم إتاحته للآخرين، إلاّ من خلال قولها عنه ووصفها له. الأنصار يسيّجون بالصمت ما ينتصرون له، وإذا ما نطق الصمت فلن يسمح له إلاّ بالإشادة والبرهنة على الإيمان والافتتان، وكل كتاب يصاب بأنصار متعصّبين له ولا يرون غيره، يغرق هو وأنصاره في الصمت، ونعلم أن أخطر ما يمكن أن يواجه كتابا من الكتب هو الصمت، الذي لا يعني سوى الموت. أما الخصوم فهم الذين يحاولون كشف النقائص والفجوات وطرح الأسئلة المزلزلة لبنية النص ومصدره وصياغته وأسلوبه ورؤاه وأحكامه وغاياته، هم الذين يجعلون النص في امتحان مستمر وحياة متواصلة وقوة متنامية، فالنص حين يواجه خصومه عن طريق أنصاره يتقوّى ويتفوّق ويكتسب صلابة تحصّنه ضدّ الصمت وضدّ الخوف وضدّ الموت. النصوص الكبرى والكتب الكبرى والأديان الكبرى التي أثبتت جدارتها وتعلمت السفر في الزمان والمكان بنضارة وشباب متجددين، لا خوف عليها من خصومها، فإنهم يشتغلون عندها طوعا أو كرها، ولا خشية عليها إلاّ من أنصارها حين لا يعرفون كيف يتصدّون لما يطرحه الخصوم وكيف ينتصرون عليهم في أي ساحة من الساحات التي اختاروها. بل أخطر ما في الموضوع أن يكون النص مخذولا بأنصاره، في حين أن خصومه يقدمون ما في وسعهم بحرية، ويطرحون آخر ما تفتقت عنه القرائح، وفي ذلك هم مخلصون لدورهم. فالنصوص الكبيرة ليست دمى من مادة هشة قابلة للانكسار عند كل ملامسة خشنة لها، بل هي من مادة فذّة لا يزيدها المسّ ولا الملامسات، مهما كانت خشنة أو رعناء أو عنيفة، إلاّ تجددا وتألقا وتوهجا، لأن تلك النصوص تستمدّ قوتها من ذاتها لا من سواها حتّى وإن كانوا من الأنصار المخلصين... فطلب النجاة يكون من الأصدقاء أما الأعداء فأمرهم واضح، فمن المستحيل أن يخدعك عدوّ، لأنه ليس محلّ ثقة منذ البداية، لكن من الممكن للصديق أن يخدع ثقتك فيه... وكم هو جدير بنا أن نعيد تعريف الكثير من الكلمات، حتّى لا نتوه في فوضى هذا الزمن الذي ليس له ما يخفي في علاقته بنا.