سرت تونس الشروق من عبد الحميد الرياحي: قصة تونس مع افريقيا ضاربة في أعماق التاريخ... راسخة في الحاضر... متطلعة الى المستقبل. تونس «افريقية» أعطت للقارة السمراء الاسم والعنوان في الماضي السحيق... وهي الآن تعطيها النموذج وترسم لها طريق المستقبل... في البدء كان التغيير... وفي البدء كانت امصالحة مع المحيط القريب ومع العمق الافريقي... وفي البدء كانت عودة الدر الى معدنه... وهل يزداد الدر بهاء وألقا إلا متى تأصّل في كيانه واستند الى جذوره، واستنهض مرتكزات قته... تلك كانت البدايات ومازالت شمس تونس تشع في افريقيا نورا للنماء وأملا في الرخاء وتوقا مشروعا لتبوؤ مكان لائق بين الأمم... *** المصالحة لم تكن لتصبح ممكنة لولا تغيير السابع من نوفمبر الذي جاء ليصحح كل معوجّ في الداخل وفي علاقات تونس بالهوية والانتماء وبمحيطيها الاقليمي والدولي. وقد كان بعد تونس الافريقي أحد المجالات التي حظيت بعناية وتركيز خاصين من قبل الرئيس زين العابدين بن علي في سعيه الدؤوب الى وضع علاقات تونس بعمقها الافريقي احد الثوابت الاستراتيجية التي لا تفريط فيها في نسج علاقات تونس الخارجية. وفي هذا الباب نذكر القمم الافريقية التي حرص الرئيس بن علي شخصيا على حضورها كما نذكر تلك التي حرص على أن تكون تونس فيها حاضرة وصوتها مسموعا... ونذكر الزيارات العديدة لرؤساء دول افريقية لبلادنا... هذا دون ان ننسى مسارعة تونس للانضمام الى تجمّع دول الساحل والصحراء الذي تعدّه بلادنا فضاء اقتصاديا اقليميا يمتلك من مقومات القوة الشيء الكثير... وكذلك الدور الحيوي الذي لعبته تونس الى جانب اشقاء واصدقاء من القارة وفي طليعتهم الجماهيرية الليبية من اجل تسهيل قيام الاتحاد الافريقي... هذا الهيكل الذي جاء ليأخذ المشعل عن منظمة الوحدة الافريقية وليشكل اطارا جديدا يمكن للقارة السمراء به ومن خلاله أن تعيد تموقعها في رقعة الفضاءات والتجمعات الاقليمية والجهوية التي تشكلت في مختلف جهات العالم... *** ليس هذا فقط، بل ان الرئيس بن علي تحوّل في عديد المناسبات العالمية ومن اعلى المنابر الاممية والدولية الى محام يدافع بلا كلل او هوادة عن القارة السمراء... محام يضع التشخيص الدقيق لمشاكل وأزمات القارة وينبّه الى ضرورة حلّها ويحشد الدعم الدولي لتسيير معالجتها... ولقد كانت افريقيا حاضرة تقريبا في كل المبادرات الكبرى التي طرحها سيادته امام المجتمع الدولي بدءا من اقتراح رسكلة ديون العالم الثالث بتوظيف خدمة الدين في مشاريع تنموية تقاوم الفقر والبؤس وتفتح ا فاقا جديدة أمام مئات الملايين في افريقيا والعالم... وانتهاء بمقترح انشاء الصندوق العالمي للتضامن والذي تقع على عاتقه مهمة مقاومة الفقر والاوبئة والاقصاء والتهميش بما يجعل افريقيا في طليعة المستفيدين المحتملين من خدمات هذا الصندوق عندما يدخل حيّز العمل (وآخر التقديرات تقول ان ذلك سيحدث في غضون سنة تقريبا) وهي التي ظلت ترزح حتى الآن تحت وطأة عديد الآفات والأوبئة وتعاني من قلّة الامكانيات وتشقّها نزاعات عرقية وطائفية مدمّرة زادت في تعميق مأساة شعوب عديدة وباتت تتطلب حلولا عاجلة... هذه الحلول العاجلة لم تكن بعيدة عن التصور التونسي... حيث تحركت بلادنا على اكثر من صعيد لاستكشاف السبل الكفيلة بوضع حد لهذه الصراعات العبثية وذلك على واجهتين... الاولى سياسية وتمثلت في الدعوة والسعي الى ايجاد آلية لفض النزاعات واحلال السلم بالقارة على اعتبار تلازم التنمية والأمن والاستقرار... وهذه معادلة بلورها ويدافع عنها الرئيس بن علي بشدّة وأصبحت تحظى بالتفاف قاري ودولي كامل حولها... والثانية عملية وتتمثل في استعداد تونس الدائم للمشاركة في بعثات السلام الاممية في القارة حيث يشارك الى الآن مئات من أبناء تونس في مهمات لحفظ السلام في الزايير مثلا... هذا علاوة على الجهود الجبّارة التي تقوم بها كوادر وخبرات وأدمغة تونسية في عديد الدول الافريقية للاستفادة من هذه الخبرات ولمساعدة شعوب هذه الدول الصديقة على تفجير امكاناتها وشق طريقها على درب التنمية الشاملة. *** وبالفعل فإن لدى تونس الكثير مما تقدمه الى القارة السمراء... وعلى رأس القائمة يأتي نموذج ناجح للتنمية بني بتصميم الرجال وكدحهم وقهر عامل شح الموارد وقلة الامكانيات المادية... نموذج صيّر الحديث عن معجزة تونسية حديثا عاديا تتناقله السن شخصيات من وزن عالمي وتتداوله تقارير مؤسسات دولية مختصة لا تعرف للمجاملة ورمي الورود سبيلا... وفي هذا الباب فإن النموذج التونسي الذي جعل بلادنا وفي ظرف سنوات معدودات تغادر صف الدول المتخلفة وتقف قاب قوسين أو أدنى من صف الدول الناهضة المتقدمة، يرسم للقارة طريق الخلاص... المتمثل في حكمة القيادة وصواب مشروعها والانخراط الشعبي الكامل واللامشروط في هذا المشروع... وهي وصفة مكنت بلادنا من تحقيق وتائر تقدم عالية ومنتظمة رغم قلة الموارد ورغم تقلبات العالم وتتالي العواصف والأزمات الدولية وما ألحقته من أضرار بالاقتصاد العالمي اجمالا... وسط هذا النموذج نجد أيضا قواعد ومرتكزات بامكان دول عديدة في القارة استنساخها والاستفادة منها... ومن بينها الرهان على التعليم والتكوين والتأهيل لتمكين العنصر البشري من احتلال موقعه بجدارة واقتدار كوسيلة وغاية للعملية التنموية... ومن بينها ايضا بعث منظومة متكاملة لادماج اصحاب الشهادات العليا في الدورة الاقتصادية... وتمكين الراغبين منهم في الانتصاب لحسابهم الخاص وبعث مشاريع صغرى تسهم من جهة في خلق مواطن الشغل وتسهم من جهة أخرى في دعم النسيج الاقتصادي وتنويع مرتكزاته. وسط هذا النموذج نجد كذلك عنصر تحرير المرأة وصون حقوقها بمنظومة متكاملة من القوانين ا لتي تمكنها من لعب دورها كاملا كشريك كامل الحقوق والواجبات وتمكّن نصف المجتمع او اكثر من فرصة المشاركة في معركة النماء والبناء... كل هذا علاوة على تجارب تونس في مقاومة الامية ومحوها وفي بعث الآليات اللازمة لدعم التنمية الجهوية بالاعتماد على قيم التآزر والتكافل الاجتماعي... وفي هذا المجال يقف الصندوق الوطني للتضامن هيكلا شامخا يروي للقارة وللعالم المعجزات التي يمكن ان يصنعها المدّ الانساني عندما يوظّف لمقاومة الحرمان... كل هذا دون ان ننسى التركيز الخاص للرئيس بن علي على توفير عنصر الامن الغذائي لحفظ استقلال القرار الوطني على اعتبار أنه لا أمن فعلا لشعب يأكل من وراء البحر. *** هذه وغيرها كثير من الانجازات التي حققتها بلادنا وحوّلتها الى نموذج يحظى بالتثمين والاكبار دوليا صنعت لبلادنا صيتا كبيرا في القارة الافريقية... وحوّلت الرئيس بن علي الى رمز للجدية والواقعية واسلوب قيادة رائد يصلح لأن يكون قدوة لدول القارة في توقها الى الخروج من حالة التخبط التي تلازمها منذ عقود والانطلاق على سكّة العمل والتغيير لما فيه خير الانسان الافريقي حيثما وجد. هذا الرصيد الكبير الذي تثمنه عاليا كل دول القارة وشعوبها كان حاضرا بامتياز في قمة سرت للاتحاد الافريقي (27 و28 فيفري 2004) والتي شهدت توافد ما لا يقل عن 30 رئيس دولة افريقية الى الجماهيرية الليبية علاوة على رئيس المفوضية الاوروبية رومانو برودي والمدير العام للمنظمة العالمية للأغذية والزراعة (الفاو) جاك ضيوف... وقد كان بامكان العين المجرّدة ان ترصد حجم ذلك الرصيد وأن تقيس حجم ما تتمتع به بلادنا وقيادتها الحكيمة من احترام من خلال تلك الحفاوة التي استقبل بها الرئيس بن علي في الجماهيرية ومن خلال تلك الحميمية الكبرى التي طبعت لقاءاته بأشقائه العرب وأصدقائه الافارقة على هامش القمة وفي كواليسها... وهي حفاوة تأتي لتشكل شهادة اعتراف جديدة بتميز التجربة التنموية لتونس وبصواب اختيارات قياداتها التي حملت منذ البداية راية التغيير وراهنت على قدرة المواطن التونسي على صنع المعجزة متى وجد المشروع الذي يعكس آماله واحلامه وانتظاراته... وهو ما حصل في زمن قياسي بفعل نبل مشروع التغيير وابعاده الانسانية وبفعل انخراط الشعب التونسي في هذا المشروع بالعمل والكد... وهي الوصفة التي قدّمتها بلادنا للقارة السمراء... وهي الوصفة الكفيلة بنشر أنوار النماء والرخاء في كل الارجاء... *** انه التاريخ يعيد نفسه.... تونس التي اعطت اسمها لافريقيا تعود لترسم لها الخلاص... وافريقيا التي اخذت من تونس الاسم لا تتردد في اعتماد النموذج وتطبيق وصفة الخلاص تأمينا لحاضرها ومستقبلها بين الأمم والتجمعات والفضاءات الكبرى... وهي عديدة وباتت تحتم على المارد الافريقي النهوض دون ابطاء.