لعل ما تعانيه الشعوب في العالم اليوم من مآس لم يحدث مثلها في التاريخ أو هكذا يتهيّأ لنا، لأننا نكاد نعيشها لحظة لحظة وخبرا خبرا وصورة صورة. وأعني بالشعوب تلك المستضعفة المضطهدة والقوية المهيمنة على حد السواء، وتلك الفقيرة المهددة بالمجاعة والغنيّة التي ترمي بزائد انتاجها في البحر. وأخص بالذكر الشعوب وليس السلط، لأن بعض هذه السلط قد لا يعنيها استشهاد الابطال في سبيل حرية أوطانهم ولا تيتّم الاطفال ولا ترمّل النساء وموت الشيوخ والعجز والاصحاء والمعوقين، بقدر ما يهمّها كراسيها ورفاهيتها ونتائج الانتخابات القادمة. enter ولأنني انتمي الى أمة لا تعاني أقل مما يعانيه غيرها في هذه الايام، بل لعلها تشهد اكبر حملة حاقدة ضد كيانها ووجودها وأبسط حقوقها في الوجود، سأتناول تحت هذا العنوان ثلاثة مواضيع شديدة الارتباط ببعضها البعض ان لم تكن في حقيقتها واحدة وهي: المقاومة ليست ارهابا، ثم أصل المآسي في عالمنا اليوم، وأخيرا أقصر الطرق الى مقاومة المقاومة أو ما يسمّى تضليلا مكافحة «الارهاب». enter المقاومة ليست ارهابا enter لابد أن يكون لليد enter إرادة تمكنها من أن تنمو وتكبر على الحائط enter تنمو أكبر وأثقل وأقوى من الحائط enter ولاس ستيفنز (1941م) enter كثيرا ما رددت صحافات العالم «المتحضر» و»غير المتحضر» بما في ذلك الصحافة العربية، عبارة «ذراع اسرائيل الطويلة»، هذه الذراع الفولاذية التي دوّخت العالم واستطاعت بكل مهارات الحروب الخاطفة المعاصرة أن تهزم جيرانها على كثرتهم وكثرة عددهم وعدد جيوشهم وعتادهم وطول باعهم في فنون الحروب وتحمّلها، كما استطاعت اضافة الى المعارك الكبيرة الخاطفة التي فاجأت بها العرب وهزمتهم، أن تضرب بكلّ دقة الاساليب الحربية الحديثة على بعد مئات الكيلومترات والاف الاميال القوى الفلسطينية والعربية والاسلامية عامة، المهددة لما تسميه «أمنها» حيثما كانت. إنها الذراع التي تلوّح بها اسرائيل في وجه العرب متى شاءت والتي مازالت تزرع بها الرعب في قلوبهم في اللحظة التي تختار وفي المكان الذي تريد. إنها الذراع الطويلة التي مازال يتبجح بها الحكام في تل أبيب ومن وراءهم من الصهاينة المضللين الذين مازال الطمع يغريهم الى حين يصيبهم ما أصاب الضفدع حين أخذ يشرب ويشرب حتى أصبح في حجم الثور ولقي مصيره المحتوم. enter وهي فعلا، ذراع طويلة. وقد أثبتت ذلك أحداث كثيرة، بل جرائم مروّعة ارتكبتها، تجعل من الصفة التي أسبغت عليها لا مبالغة فيها. غير أن المسكوت عنه في وسائل الاعلام الغربية خاصة، هو أنها اكبر ذراع آثمة تمتد دائما الى حيث ما ليس لها، ولا تفعل إلا ما يحرم الاخر من حقه في الحياة على ارضه، الى ان كشف مؤخرا، ذلك الاستطلاع الاوروبي الشهير عن وجهها الحقيقي حين أدرك الرأي العام الاوروبي او هكذا يبدو، أن الخطر المؤكد المحدق بالعالم لا ينتظر من بلد عربي او اسلامي او آسيوي، وإنما يتوقع من هؤلاء الذين ذهب ضحيتهم يوحنا المعمدان والسيد المسيح، هؤلاء الذين لا يزالون يحاصرون كنيسة المهد الى يومنا هذا ويعيثون فسادا في الجليل والخليل والناصرة وحيثما حلوا... enter ولو سردنا ما اقترفته هذه الذراع سرا وجهرا من اغتيال وزهق أرواح ومجازر ومصادرة اراض ونسف بيوت وهدم قرى وتدمير مدن وجرف مزارع وحقول واقتلاع أشجار وافساد صابات زيتون وبرتقال في رؤوس اشجارها... لو سردنا ذلك أو بعضه لما اتسعت له مئات الاسفار والمجلّدات. غير ان اصحاب الحق من عرب ومسلمين يعرفون ذلك او من المفروض أنهم يعرفون، وأصحاب الباطل واحلافهم وأنصارهم ليس الردّ عليهم في نظرنا بتذكيرهم بعدوانهم المستمر وما اقترفته أيديهم وتقترفه يوميا من جرائم نكراء. الردّ عليهم بعد انغلاق سبل الحوار، حسب ما جاء في الشرائع السماوية وأيام العرب وتاريخ الأمم وقوانين البشر والطبيعة معا، لا يكون الا بالمثل والبادئ أظلم. enter في جميع الحالات لا حاجة لنا بأي تذكير من هذا القبيل. وإنما سنحتاج فقط الى أن نذكّر بأن مقابل تلك الذراع الطويلة التي يفخر بها الكيان الصهيوني وصحافات اصدقائهم أعداء العرب والمسلمين وهم كثر، هناك ذراع قصيرة، أثبت التاريخ مرارا، وسيثبت كلما اقتضت الضرورة، أنها على قصرها، هي في النهاية، الذراع الاطول. انها ذراع الدفاع عن الارض والعرض والمال، ذراع الدفاع عن الحق وانسانية الانسان. ولولا هذه الذراع القصيرة، لما امن انسان على وجه الارض من شرّ إنسان آخر، ولولا هذه الذراع القصيرة لكان الصهاينة، وأولئك الذين ارسلوهم الينا، ينعمون منذ عقود «بالأمن والسلام» بعد ان يكونوا قد ابتلعوا كامل فلسطين وما سوّلته لهم انفسهم لضمّه الى حوزتهم مما حولهم من «أرض الرب». enter لقد كان على صحافات العالم التي مازالت تتبجح بذراع الكيان الصهيوني الطويلة أن تشيد بهذه الذراع القصيرة ذات البطولات الاسطورية والتي لا يزال يذكرنا بها كل مقاوم وكل فدائي في فلسطين وجنوب لبنان والعراق وافغانستان وفي اي مكان من العالم يعلو فيه صوت الكفاح من أجل الحرية. enter صحيح أن هؤلاء جميعا لا يملكون الاساطيل وحاملات الطائرات وأسلحة الدمار الشامل وأحدث المدرعات والقاذفات وجميع الات القتل والتنكيل الحديثة. لا يملكون ما تملكه امريكا واسرائيل من أسلحة اليورانيوم المستنفد القادرة على تدمير الدبابة واختراق المدرعة. هذا لا نزاع فيه. ولكن ما لا نزاع فيه ايضا، هو ان لهؤلاء العزّل وطنا وحسا وطنيا وحضارة وتاريخا ودينا، وأن الشرائع السماوية والقوانين البشرية تعطيهم ككل الشعوب حق الدفاع عن وطنهم وعرضهم وكرامتهم ومالهم. ولا يمكن لاي قوة في العالم ان تسلبهم هذا الحق. فاذا حدث ذلك، فلن يكون الا الى حين، أي الى ان يتاح لهم استرداده بأي طريقة ممكنة وبأي وسيلة، طال او قصر الزمان. enter ومن هذه الوسائل الذراع القصيرة، تلك الذراع التي يمتزج دمها بالجهاد والتضحية بالمال والنفس من أجل تحقيق توازن ما في الرعب والدمار الذي يلوّح به العدوّ في كل مكان وآن، توازن لا غاية منه سوى استرجاع الحق المسلوب. ونقول توازن الرعب حتى لا نسمي الاشياء بغير اسمائها فنقول الارهاب كما يحلو لهؤلاء القوم ان يسموه، فقد اصبحوا في هذه الايام لا يتورعون عن إلصاق تهمة الارهاب حتى بنملة تحاول استعادة قمحة من تحت رجل فيل. enter إن هذه الذراع القصيرة تتوهّج حياة وإيمانا بالوطن والحرية. والعدوّ صهيونيا كان أو في صف الصهيونية او وراءها، يدرك اهميّة هذه الذراع في حياة الشعوب وتاريخها، ولأنه يدرك ذلك تمام الادراك، يحاول أن يلصق بها تهمة التخريب والارهاب. لقد أصبح الكفاح من أجل التحرر ارهابا، تماما كما يعتبر قانون الجنايات ارهابا اختطاف احد المجرمين شخصا، ليطالب بفدية مقابل اعادته. وإذا كان الدفاع عن الوطن ارهابا ففي أي فصيلة نصنف جماعات الكلو كلاكس كلان تلك المنظمة الارهابية الامريكية التي زرعت الرعب ولا تزال، في قلوب السود الامريكان وانتهكت اعراضهم وشرّدتهم وذبّحتهم ومثلت بهم دون رحمة ولا أي رادع اخلاقي؟ كيف يسمح هؤلاء لأنفسهم بأن يطلقوا صفة الارهاب على مقاوم لا يملك سوى جسده وروحه وحياته لدفعها فداء للوطن المغتصب والعزّة والعرض. والأدهى والأمر، كيف نسمح لهم ان يفعلوا ذلك؟ كيف لا نخجل عندما نردد وراءهم في صحفنا وتلفزاتنا وجميع وسائل اعلامنا أمرّ الاكاذيب وأوقح التهم في حق النخوة والرجولة ونكران الذات؟ هكذا راحوا يطلقون على شهدائنا الابرار دون حياء، جميع الاباطيل، على مرأى منّا ومسمع، وربما بتزكية منا وامتنان، فهم مجرمون ومخربون وحقودون وأعداء «للحضارة والتحضّر». بينما يسمحون لأنفسهم ونسمح لهم ويسمح لهم «المتحضرون الديمقراطيون المدافعون عن حقوق الانسان» بقصف المدن بكل ما ملكت يمينهم من آلات الحرب الحديثة والتوغّل في الشوارع والأزقة ومداهمة البيوت ودور الحضانة واغلاقها، والسطو جهارا على المصارف والبنوك، وتقتيل الرجال والنساء والشيوخ والاطفال، وآخر ما تفتقت عليه قرائحهم، عزل الملايين وراء جدران خراسانية مسلّحة بدعوى الحاجة الى الأمن والسلام. enter إذا كانت ذراع العدوّ الطويلة مدججة بالسلاح من رأسها لاخمص قدميها، فإن ذراع حركات المقاومة والجهاد القصيرة لن تنتظر قرونا حتى تتدرع بالاساطيل والأقمار الصناعية وطائرات الاواكس ولا حاجة لها الى مليارات الدولارات التي تنفقها دول متحضرة كبرى من اجل المزيد والمزيد من سفك دماء الشعوب المستضعفة، وهي غنية عن جميع رادارات العالم «المتحضر» والمخابرات الصهيونية والامريكية وغيرها، بل يكفيها ان امامها شمعة، شمعة الايمان بالنصر والأمل في حياة حرة ووراءها شمعة الارادة. وحتى نحدثهم بلغة القادرين على التفريق بين الخيط الابيض والاسود من أبنائهم، نذكر قول الشاعر الامريكي ولاس ستيفنز (1879 1955م) الذي يبدو أنه تنبأ منذ سنة 1941م بحائط برلين ومصيره وجدار شارون ومآله: enter اليد بين الشمعة والحائط enter تنمو تكبر على الحائط enter لابد أن يكون لليد enter ارادة تمكنها من أن تنمو وتكبر على الحائط enter تنمو أكبر وأثقل وأقوى من الحائط enter ولذلك أثبتت هذه اليد القصيرة أنها بدون جميع تلك المعدات والامكانيات الحربية الخيالية التي تفيض حقدا وكراهية، قادرة هي ايضا ان ترد بما استطاعت في اللحظة التي تريد وفي المكان الذي تختار، ما دامت تمتد كما قلنا في ضوء شمعة الارادة والايمان والأمل. يقول اراغون في احدى قصائده الوطنية إبّان المقاومة الفرنسية للاحتلال النازي: «إن الأمل يخفق في غياهب السجون». ويخرج هذا المعنى بلغة التراب الفلسطيني على لسان محمود درويش كأقوى ما يكون: enter سدّوا عليّ النور في زنزانة ... فتوهّجت في القلب شمس مشاعل enter لن يبصروا الا توهّج جبهتي ... لن يسمعوا الا صرير سلاسلي enter