تونس الشروق : الأغنية البديلة أو الملتزمة أو الهادفة أو الوطنية، كلّها أسماء لنوعية من الأغاني عبّرت عن هموم الانسان العربي وقضايا الوطن... كما مثلت هذه الأغنية الصوت الرافض للاحتلال والطغيان واغتصاب الأراضي العربية في فلسطين وسوريا (الجولان).. وقد استطاعت هذه الأغنية أن تشكل قاعدة جماهيرية على مستوى الوطن العربي خصوصا في السبعينات وبداية الثمانينات... وقد كان للأغاني السياسية رموزها و»نجومها» الذين كانوا أصحاب مشاريع فنية بديلة، وأصحاب رؤية وموقف مما يدور حولهم من أحداث، فغنوا لفلسطين والجولان، وقضايا الحرية والتحرّر والديمقراطية... الشيخ إمام عيسى، مصطفى الكرد، أحمد قعبور، مارسيل خليفة، سميح شقير، الهادي قلّة، حمادي العجيمي، الزين الصافي، «أصحاب الكلمة» «ايمازيغن»، محمد بحر، «الحمائم البيض».. «أولاد بومخلوف»، حسناء البجاوي، «البحث الموسيقى»، «أولاد المناجم»، و»ناس الغيوان» و»المشاهب» و»جيل جلالة»... كلّهم فنانون سخّروا حناجرهم وفكرهم وفنهم لقيم الحرية والديمقراطية والكرامة.. لا شيء تغيّر اليوم، فلسطين مازالت محتلة والمجازر مازالت ترتكب في حق الشعب الفلسطيني الأعزل، وهضبة الجولان مازالت ترزح تحت الاستعمار الصهيوني... وأكثر من ذلك بغداد سقطت بين أيدي الماغول الجدد.. ومع ذلك لانسمع صدى لكل هذه المآسي العربية... فلماذا اختفت الأصوات المناهضة للاستعمار؟ ولماذا استكانت لما يحدث في وطننا العربي؟ لماذا تراجع اشعاع الأغنية البديلة وآفل نجمها؟ هذه الأسئلة حملناها لبعض من كانوا ضمن رموز الأغنية البديلة ببلادنا. * حسناء البجاوي (مطربة): استقالة جماعية تراجع الأغنية الملتزمة أو البديلة أو الهادفة، له أسباب عديدة ومختلفة، ومسؤولية هذا التراجع يتحملها أكثر من طرف. في البداية أشير الى أن الجمهور لم يعد متحمسا لهذه النوعية من الأغاني، وصار يميل أكثر الى الأغاني الخفيفة الراقصة، وهذه مسألة لا تخص الجمهور التونسي، بل هي ظاهرة عربية وعالمية. لقد نجحت الفضائيات وشركات انتاج الكاسيت في تكييف أذواق الجيل الجديد حسب ما تمليه مصلحتها. ولأن ليس من عاداتي تحميل المسؤولية لغيري، أقول اننا قصّرنا كمبدعين في اظهار هذه الأغاني البديلة في شكل موسيقي وفني يليق بها. اعتقد أن من أسباب تراجع هذه النوعية من الأغاني يعود الى الاستقالة الجماعية، استقالة من المبدعين ومن الجماهير، ومن المنتجين.. وهذه الاستقالة تجد مبرّراتها في طغيان الجانب المادي على حياتنا، المادة سيطرت على تفكيرنا وصرنا نلهث وراء لقمة العيش وهذا أثر بشكل أو بآخر على الأغنية الهادفة، على الرغم من أن القضايا التي كانت وراء بروزها مازالت قائمة، ففلسطين مازالت ترزح تحت الاحتلال وكذلك الجولان مازالت تحت الاحتلال، وأضيف اليهما العراق، والمذابح في حق الشعب العربي ترتكب يوميا، لكن على الرغم من ذلك لا نجد صدى لهذه القضايا في أغنانينا العربية، النفس الثوري لدى الجماهير العربية غاب حتى في القضايا المصيرية والمركزية. * ابراهيم بهلول (موسيقي): قطيعة في الذاكرة لقد عايشت الفترة المزدهرة لهذه النوعية من الأغاني، وعايشت تكوين جلّ المجموعات الموسيقية والغنائية التي كانت تقدّم الأغنية البديلة أو الملتزمة، وكنت ضمن مجموعة «أولاد بومخلوف» ثم كونت صحبة المرحوم حمادي العجيمي ووناس خليجان مجموعة «عين». وقد شهدت فترة السبعينات ميلاد عديد الفرق مثل «الخماسي» و»الحمائم البيض» و»البحث الموسيقي بابس» و»أصحاب الكلمة» و»ايمازيغن» وقد كانت هذه المجموعات وراء بعث تظاهرات موسيقية مهمة لعل أبرزها مهرجان الموسيقى البديلة للشباب الذي كان يقام بدار الثقافة ابن رشيق في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، والذي بعث على أنقاضه مهرجان الأغنية التونسية، كما كوّنت برفقة المرحوم حمادي العجيمي ووناس خليجان تظاهرة رمضانية بقاعة الحمراء، لم تعمّر طويلا وحوصرت، وتلاشت، وبعث مكانها مهرجان المدينة الحالي. هذه العوامل تضاف اليها معطيات أخرى مثل عدم وجود مسالك توزيع، وانسلاخ بعض الأفراد عن المجموعات مثل الهادي قلّة ومحمد بحر وحمادي العجيمي، ساهم بقسط كبير في تراجع الأغنية البديلة. والحقيقة أن هذه الظاهرة لا تخص تونس فحسب، بل هي ظاهرة عربية وعالمية، هناك قطيعة في الذاكرة، فالجيل الذي كان يمثل القاعدة الجماهيرية لهذه النوعية من الموسيقى انقرض، وحل محلّه جيل الكليبات والاستهلاك. هناك توجه عالمي لصياغة أنموذج للانسان المرغوب فيه حاليا. * سميرة الكسراوي (شاعرة): تكريس «الإنسان الغرائزي» الأغنية الملتزمة نعني بها الأغنية الهادفة التي تحمل مضمونا، وهذا المضمون معبّر عن تطلعات شعبية وعن حركات نضالية في العالم الأجمع. ولذلك برزت الأغنية الملتزمة في أمريكا مع جون باز ومجموعات موسيقى الريي أبناء الحرب الفيتنامية، وفي أمريكا اللاتينية، وفي أوروبا مع أغاني الكلمة، وبرزت في الوطن العربي مع الشيخ إمام، ومارسيل خليفة وغيرهما. لكن هذه الأغنية شهدت تراجعا في منتصف الثمانينات في اطار انتكاس المعنى على المستوى العالمي، لأن العالم كله شهد ردة على مستوى المفاهيم والمصطلحات التي تمس جوهر الانسان ذاته. فمفاهيم ومضامين مثل العدالة والحرية والكرامة والاستقلال تم تغييبها، لتكريس معاني جديدة أو تكريس اللامعنى، ولخلق انسان جديد استهلاكي لا يفكّر. لهذا نلاحظ تراجعا على المستوى الابداعي عامة وليس على مستوى الأغنية فقط، في الرواية والشعر والفلسفة، فلم تفرز العشرين سنة الأخيرة اي روائي كبير في حجم ايمينغواي، وأي فيلسوف كبير. العملية معقدة، فغياب الحرية على مستوى العالم جعل الابداع البشري الذي يحمل مضمونا هادفا يختفي، إما بحصار فردي للمبدعين ذاتهم، أو بحصار شامل يمس الذائقة الجماهيرية. لهذا كله تكرّست أنماط جديدة من الابداع في الموسيقى والشعر والرواية... وهي أنماط تكرّس وتروّج للانسان الغرائزي الاستهلاكي الذي لا يفكر. وفي هذا الاطار يندرج غياب الأغاني ذات المضمون. * الزين الصافي (موسيقي مطرب): العولمة و»الهرسلة» الاعلامية تراجع الأغنية البديلة والملتزمة له أسباب ذاتية وأخرى معنوية، أسباب لها علاقة بجوهر تلك الأغنية وخصوصياتها، وأسباب خارجة عنها. ذاتيا، لم تتمكن الأغنية الملتزمة ان تحقق قفزة نوعية، ولم تشهد تطوّرا يذكر، على الرغم من بعض التجارب الناجحة لكنها قليلة، ووليدة مجهود شخصي. لم تشهد الساحة تكوين موجة لهذه الأغنية، ولم يتمكن ممارسوها من تشكيل قطاع غنائي قائم بذاته يقف بندية الى جانب القطاع الغنائي السائد. وكل ما تم في هذا المجال لم يتجاوز حدود الاجتهادات الشخصية، وهذا ما قلّص من حدود انتشارها. أما العوامل الخارجية التي أثّرت على الأغنية البديلة، فيمكن التأريخ لهامنذ سقوط الكتابة الشرقية، وتفكيك الاتحاد السوفياتي، ثم كانت رياح العولمة والتغييرات التي شهدها العالم على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. هناك أيضا الهجمة الشرسة للفضائيات التي تروّج لنمط معين من الموسيقى والغناء، فنحن نستمع الى نفس الأغنية ونفس الشكل الموسيقى وذات التوجه لكن بأسماء وأصوات مختلفة، هناك غياب للتنوّع وبالتالي غياب للثراء، فالتنوّع هو الذي يصنع الثراء في أي مجال من المجالات. هناك تقصير كبير من وسائل الاعلام العربية التي تروّج للنوعية التي نستمع اليها اليوم، وتغييب للأنماط الأخرى، فمن الطبيعي أن تغيب وتختفي الأغنية الملتزمة عندما تفتقر الى المنابر الاعلامية والى مسالك الترويج، شخصيا لا أعتقد أن الجمهور تراجع على مستوى الوعي، لكن هناك تركيز شامل على نوعية محددة، فمن الطبيعي أن يقبل الجمهور على تلك النوعية نتيجة الهرسلة الاعلامية والفضائية.