لقد كان فكرة استعارت جسدا على حد التعبير البليغ للحبيب بولعراس في مقال له صدر في جريدة «العمل»، ولا قدر للفكرة إلا أن تتحرّك وتنمو، وتجاهد حتى الفناء. وكتب الحبيب بولعراس يقول : «كان بالنسبة لنا جيل الشبان الذين خاضوا الكفاح يافعين عام 1952 فكرة حية، تتحرّك، وتخطب، وتبثالحماس وتزرع النشاط في النفوس وتوقظ الوعي». فمن هو الرجل الذي أصبغ عليه الحبيب بولعراس هذه الصفات وجعله زعيما للشباب بلا منازع؟ وماذا عن دوره النضالي والسياسي الى أن وافاه الأجل المحتوم يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من شهر جوان 1965؟ مولده ونضاله ولد الطيب المهيري عام 1924بالمرسى، أما الأصل فمن جزيرة جربة. تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي بالمدرسة الصادقية. يقول الطيب المهيري عن هذه الفترة: «دخلتها عام 1938 أي عام التاسع من أفريل المشهور، وكنت بالقسم السادس وأستاذي المرحوم علي البلهوان». وتجدر الاشارة كما جاء في سلسلة مشاهير عن الطيب المهيري لمحمود بوذينة الى أن علي البلهوان عين أستاذا بالصادقية عام 1935 ولكنه لم يكن مجرد أستاذ فقد كان يولي أهمية كبرى إلى تغيير ما كان في المدرسة من قهر مسلط على التونسيين، وما تتعرض له لغتهم وتاريخهم وقد بثّ في تلاميذه قيم الحق والدفاع عن الوطن. وفي عام 1938 انخرط الطيب المهيري في صفوف الحزب الدستوري التونسي، وكافح من داخل شعبة المرسى وكذا بفرنسا حيث كان يواصل دراسته العليا. ويتذكر الطيب المهيري ظروف عودته الى تونس: «في أكتوبر عام 1951 قبل حوادث 18 جانفي 1952، كنت في الجامعة الدستورية بباريس وفي الآن نفسه أواصل تعليمي في الحقوق، وعندما رجعت الى تونس انتخبت فور رجوعي كاتبا عاما لجامعة تونس الدستورية». الاعتقال وبعد اعتقال الزعيم الحبيب بورقيبة وأعضاء الديوان السياسي يوم 18 جانفي 1952 عيّن الطيب المهيري عضوا في الديوان السياسي الذي قاد حركة المقاومة من جانفي إلى ماي 1952، وفي ديسمبر 1952 ألقي عليه القبض ونفي إثر الحملة التعسفية التي شنتها السلطات الاستعمارية التي كانت تستهدف التقليص من حجم الغضب الشعبي المتنامي خاصة بعد أن قامت عصابة اليد الحمراد باغتيال الزعيم فرحات حشاد في الخامس من ديسمبر 1952. وعندما أعلن الاستقلال الداخلي ودخل المنجي سليم حكومة الطاهر بن عمار قام الطيب المهيري بتعويضه في ادارة الحزب من جويلية 1954 حتى أفريل 1956 ثم أسند إليه الحبيب بورقيبة في حكومة الاستقلال الأولى مهمة كتابة الدولة للداخلية. وانتخب الطيب المهيري عام 1955 عضوا بالديوان السياسي في مؤتمر صفاقس وعيّن كاتبا عاما مساعدا للديوان السياسي للحزب الحر الدستوري التونسي. كما انتخب علي التوالي لنفس الخطة في مؤتمر النصر بسوسة وفي مؤتمر المصير ببنزرت، كما انتخب عضوا بالمجلس التأسيسي في الانتخابات التشريعية الأولى وعيّن نائبا للرئيس وبالاضافة الى ذلك فقد كان نائبا في مجلس الأمة على مدى دورتيه الأولى والثانية الى جانب مهامه كرئيس لبلدية المرسى. مسؤولية جسيمة وفي حديثه للإذاعة الذي أشارت إليه سلسلة مشاهير تحدث الطيب المهيري عن ظروف استلامه وزارة في حجم وزارة الداخلية في بلد حديث العهد بالاستقلال وفي ظرف كانت فيه الثورة الجزائرية قائمة، يقول الطيب المهيري: «هناك صعوبات خاصة أثناء مباشرة مهام هذه الوزارة لا سيما بالنسبة للبلدان المستقلة حديثا، أما بالنسبة لتونس فأنتم تعرفون أنه بعد الاستقلال بقليل ، انصبّت علينا المشاكل والصعوبات المتنوعة، سواء المشاكل التي يمكن أن نسميها بمخلفات الاستعمار وطرق القضاء عليها، أو مشاكل الوزارة نفسها التي يجب في ذلك الوقت تغيير جهازها كليا حتى يتماشى مع عهدنا الحر المستقل.. وزاد الطين بلّة ما اكتسبته الحرب التحريرية الجزائرية من ردود الفعل والصعاب ليلا ونهارا حتى قال أحدهم ان مهمة كاتب الدولة للداخلية التونسية تنتهي بانتهاء حرب التحرير الجزائرية، فهذه المهام جعلت من الداخلية مهمة صعبة ودقيقة في آن واحد». وفاته وفي فجر يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من شهر جوان 1965 فجعت تونس بوفاة الطيب المهيري المناضل ورجل الدولة الكبير. وقال الصادق المقدم آنذاك: «إنّ الفقيد ا لعزيز لم يبال بما ألمّ به من مرض فتّاك فقد جاء في النشرة الصحية التي صدرت إثر الوفاة : كانت ظهرت عوارض الاصابة بمرض السكر لدى الأخ الطيب المهيري في فترة الكفاح السرّي في ماي 1952، وتطور المرض، أثناء اعتقاله بالمحتشدات عام 1952 وخلق هذا المرض مضاعفات خطرة مصحوبة بارتفاع الضغط الدموي وضعف نشاط الكلى، وتسببت هذه الحالة خلال السنوات الأخيرة في أزمات حادة استوجبت دخوله مرارا الى المستشفيات المختصة، سواء في فرنسا أو في ألمانيا. وظهر مرض جرثومي في الكبد منذ شهرين نتج عنه ضعف بالغ في نشاط الكبد وانضاف هذا العارض الخطر إلى مرض السكر، وضعف نشاط الكلى، فجعل حالة المريض فوق ما يستطيعه العلاج، وعلى الرغم من مساعي كبار أساتذة الطب الذين تداولوا على علاجه في الأيام الأخيرة فقد أجمعوا على أن الوفاة بعد التحسن الخفيف الذي سجل يوم الاثنين 28 جوان 1965 حدثت فجر الثلاثاء بسكتة قلبية». وقال عنه الزعيم الحبيب بورقيبة إثر وفاته: «وإذا كان الطيب المهيري قد فارقنا اليوم واختفى بجسده فإن روحه باقية في أعماله، وفي الذكريات الطيبة التي تركها في نفس كل من اتصل به وعرفه، وعاش معه، وفي الأسس، والسنن السليمة المتينة التي خلفها في ما اضطلع به من مسؤوليات في الدولة».