لم يعد المشهد العربي كله يوفر الا صور النعوش الخضر والأكفان البيض! ومع تعوّد أعيننا على مشاهد الموت، مات بالدواخل الاحساس بالموت ذاته. أصبح الموت صديقا وقرينا بل وحبيبا. اذا غاب انتظرناه واذا تأخر ناديناه واذا تمنّع أيقنّا أنه يمهلنا لحظات ليأتي بعدها يعصف بالحزن والانكسارات والدموع يعصف محمّلا بها طبعا ليذكّي ماتراكم فينا منها، وليس ليجلي عنا بعضا من ثقل حملها! تعوّدنا في هذا المشهد العربي القاهر على صور النعوش التي تحمل مواكب الموتى وعلى الأكفان التي تلف الضحايا وعلى الجثث التي اختلط لحمها المتناثر بشظايا الصواريخ وحديد القنابل وعلى قلوبنا المنهكة المرهقة وهي تقصف على الهواء مباشرة وعبر بلور شاشات التلفزيون التي تأبى الا أن تجعلنا كلنا وسط مأتم عام يموت فيه الضحية ويموت فيه الشاهد! ولا خلاص لأحد حتى فراشنا تحوّل الى نعش نطلق عليه جزافا صفة السرير وحتى ما يغطينا ونحن نطلب نوما لا يأتي، تحوّل الى كفن يلف جثثا تنبض بالموت بأقصى حالاته أن تموت حيّا وأن تقضي نحبك وجفونك مفتوحة على مشهد من عذاب مستطير ومن تعذيب لم يكتشفه بعد أي جلاّد! فليس هناك أمرّ من هزيمة بلا معنى ومن انكسار بلا سبب ومن هوان بلا ذنب الا من عبث يسلب منك كل قوة وأنت القوي ويهدر فيك كل قدرة وأنت القدير. وذلك حال أمة بحالها تطوعت عن طيب خاطر لهزيمة وتطوعت بلا إكراه لكل ما تكره، لعبت بشرارات من نار حتى حاصرها الحريق وعادت فيها جاهلية أولى حتى جهل عليها الجهل ذاته، ورفضت أن تكبر وتينع فحدث معها ما يحدث مع الأشجار في فصول اللقاح عندما ترفض كل ثمرة عنيدة أن تمتثل فتموت وسط ما أينع وتتحلل ثم تنحلّ قبل موسم جنيها! ممن يعادي هذه الامة حقا جلدتها التي تعاني من سرطان ذاتي أم سموم تلفح الجلد ثم تكوي العظام؟ من جعلها قرينة للموت قدور إرادي أم بلاء لا حول أمامه ولا قوة؟ من أهّلها لكل هذه القدرة الصناعية في انتاج كل هذه الكميات الوافرة من النعوش وكل هذه الأطنان من الأكفان البيض؟ لعله التشبث المبالغ فيه بالحياة ذلك الذي لا يطل في الاخر الا على الموت!