لما خرج أحفاد «ثورة القرنفل» إلى الساحات العامة رافعين شعار «زاب باز Zap-Paz» السلم يازاباتيرو. كانوا يبتغون من وراء ذلك إبلاغ من منحوه أصواتهم تحيّة اعتراف لا لشيء إلاّ لأنّه كان عند كلمته وعهده. ذلك العهد الذي قطعه على نفسه أيام الحملة الانتخابية بسحب القوات الإسبانية من العراق. وأنا أتابع المشهد تهيّأ لي أنني استعدت الأندلس تملّكتني فكرة أن في ما قام به ذلك السيد الإسباني شيئا من جينات عروبة لم تتفطّن لها حركة الاسترجاع الصليبية La Reconquesta لا تزال مرابطة على مشارف غرناطة تزرع نبتة الصدق ووحدة الكلمة مع الرقبة. هاجمتني نسائم عودة الصدق إلى أسراب الكلام ومصالحة الدال والمدلول نكالة في ترسانة «كلمات الأسبوع» الكاذبة وتقارير التفتيش المزيّفة ووعود التحرير المسلح باسمنت ثكنات الاحتلال. قد لا ينبُتُ الجلنار في التكساس ولا القرنفل يعيش في الصحراء (عنوان رواية الهادي ثابت جائزة كومار الأخيرة). لكن القارة العجوز ظلت مؤمنة إيمان العجائز بديمقراطيتها التي تحترم صندوق هدايا زفاف الحرية ديمقراطية قد يقول فيها المتجذّرون في بيع الأحلام المجمّدة أنها شكلية ونخبوية ومصلحية لكنهم لا يجرؤون على الطعن في تماسكها. إنها ديمقراطية قادرة على تحقيق تماسك ما بين القول والفعل بين المبادىء والمصلحة وإنه لمن السذاجة بمكان أن نعتقد أنّ أوروبا التي اتخذت موقفا معاديا للغزو قد فعلت ما فعلت فقط لسواد عيون العرب هذا إن بقيت للعرب عيونا قادرة على أن ترى ما يحدث عند أقدامها. إن الأوروبيين يدافعون عن أنفسهم خوفا من أن تدوسهم جرافة العولمة الأحادية القطب ويذودون عن مجال حيويّ يرون أنهم الأولى باستثمار خيراته لاعتبارات عديدة منها القرب الجغرافي والأهمية الاستراتيجية والروابط التاريخية والثقافية... ولمّا حدث وتطابقت المصلحة مع القناعة جاءت المواقف أكثر عروبة من عروبة كثير من العرب الذين أعلنوا تواطؤهم مع الاحتلال وزينوا له وافتخروا به بغير جزاء ولا شكور. في كل الأحوال لا مفرّ لسلالة طارق بن زياد من الربط والالتقاء مع إحدى الديمقراطيتين ديمقراطية القارة العجوز أو دم قراطية العالم الجديد. ديمقراطية المصالح التي يمكن أن تكون مشتركة وتتدرّج بفعل نهوض عربيّ مأمول نحو التكافؤ والندية أم دم قراطية الحرب الوقائية وإلغاء السيادة والدوس على «الأخضر الإبراهيمي» واليابس من القوانين الدولية. إنّ أوروبا الطاعنة في شرعية عقلانيتها الضاربة بجذورها في تربة سيادة الشعب والمهتدية بشمعة الموقف القائل ب»أختلف معك في رأيك لكنني أدفع حياتي من أجل أن تعبّر عنه» لتختلف حقّا عن لغو عثرات اللسان الطافح برايات الحرب الصليبية. والشاهر لسيف دموقليس الذي لا مجال معه لمن هم ليسوا معي لأنهم حتما ضدي. فذراع دمو قليس التي استلّت في قفزة زمنية عجيبة الكرة البلورية لشيطان الخير الشامل أصبحت لا ترى في الآخر سوى تلك الحلقة المفقودة من حكاية داروين حول النشوء والارتقاء. أو رزيّة لعبد مارق تتقاذفه براثن السباع في طوان Arène الملعب الروماني LصAmphithéatre «جادك الغيث إذا الغيث هما...» يا زمانا حدّثه مطر السياب بإيقاعات نقر قطرات الإخاء البشريّ على قرميد أخضر.. ورديّ لا زوردي.. قرنفلي.. المطر كتعميد لرجس الخراب مطر يتعطّر من ريح بحرية يتجمّل بحرير الغيمات المُجهشة رقصا بين فجوات جبال البيريني وأسنة نحيل السواد وأحضان زعروس. (جبال شمال شرق العراق) كيف يا مطر السياب سأتطهر من كل هذا الخراب؟ هكذا تساءل الجنديّ القُرطبيّ وهو يركب فرح العودة كيف؟ فما كل من خراب خرابا. إن خرائب الحدائق المعلقة والمتاحف البابلية المهرّبة ولبن طير الكوفة وأقبية بغداد المؤلفة لياليها وقلوبها ديار صلاح الدين المتحفزة تعرف طريقها إلى أنامل الذاكرة وإلى دربة الطمي الرافدي على إعادة الخلق.. أما الخراب الذي أشكوه يا مطر الدمع المنساب هل يكفي طوفان من الفرحة لكي يُخفيه. إلى كم من مياه «الوداي الكبير» Gvadelkévir أحتاج لأغتسل من ذنبي العراقي وكم يلزمني من أغنيات «الطرب يدور» Troubador لكي أنسى لعنة الأمهات واستغاثة الأطفال وأوجاع الصبايا وفرقعة القنابل الصوتية؟ أيّ باقات الورد سترضى بمُرافقتي الذهاب إلى شاهدة قبر لصديقي الذي سقط متأثرا بجراح نيران صديقة وقتال غير شريف؟ في حرب لسيت حربهُ وفي وطن ليس له؟ يا مطر السياب أيّ إكسير يجعلني أمحو من ذاكرتي صور تلك الفصول التي كان فيها المطر فولاذيا.. من يمنحني راحة المحارب بغير قضية؟ لقد حل الإسبان وأول الغيث قطر ثم.. يندحر الآخرون.