رَوَى مُسْلِمُ عن بُرَيْدَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عن زِيَارَةِ القُبُورِ فَزُوروها". ووروى الحاكم عن أنس مرفوعًا صيغة أخرى تبيّن المغزى من الزيارة: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزورها فإنها تُرقّ القلب، وتُدمع العين، وتذكر الآخرة، ولا تقولوا هَجْرًا"... فللزّيارة إذن منافع كثيرة ولولا المنافع ما دعا إليها صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم!... ورغم المنافع فقد يتغافل المنتبه إلى الدنيا المنشغل بها عن الزيارة، ويظلّ على ذلك مددا طويلة لا سيّما في البلاد التي تقلّ فيها المقابر أو تبعد فيها المقابر عن الثنايا المستدعية للمارّة أو في البلاد التي ينعدم فيها سماع الأذان المذكّر النّاس الفلاح!... وقد كتب الله لي بالأمس – الجمعة 9 مارس 2012 - زيارة "إجباريّة" إلى المقبرة التي أوقفها العمل الإسلامي الذي توحّدت فيه جهود كلّ الجمعيات الإسلاميّة بكوبنهاغن - العاصمة الدّنماركية -، شيّعت فيها ريحانتي يوسف، ابن عصام بن أخي يوسف بنحميد وابن إيمان بنتي؛ فقد ابتليا بموت باكورة أبنائهما (يوسف) وقد وفّقهما الله تعالى ووفّقنا إلى التمسّك بحبله والكرع من الصبر الذي أفرغه علينا جميعا والاستظلال بالسكينة التي أنزلها مليّنة مهوّنة المصاب!... وقد كان للظروف التي يعيشها أهلنا في سوريّا الشهيدة الأثر الواضح في تثبيت الأمّ والأب، فقد كانا ينظران إلى ما قدّما ويقارنانه بالذي قدّمه النّاس فيتقالاّنه وإن كان هو أحبّ ما أحبّا!... فاللهمّ عفوك ونصرك وتثبيتك ورحمتك يا كريم!... وقد لاحظت في المقبرة - وأنا أزورها أوّل مرّة - أنّ سكّانها وقد تجاوروا وانتضموا في صفوف روعيت فيها الأعمار، قد اكتفوا بحيّز بسيط من الأرض لا يتعدّى المترين مربّع، وقد توحّدت مظاهرهم إلاّ ما كان من الاختلافات التي تحدثها اجتهادات بعض الأهل الأحياء!... ولاحظت أنّ مجتمعهم الفتيّ - وقد انطلق إنشاؤه سنة 2006 - قد بدأ يشهد الكثير من التوسّع، فقد كان رقم ريحانتي يوسف 160، أي أنّه قد سبقه إلى المكان مائة وتسعة وخمسون صغيرا؛ ناهيك عن الكبار الذين فاق عددهم هذا العدد كثيرا... وهي ملاحظة لا بدّ أن تذكّر أنّ هذا التوسّع إنّما هو قائم على حساب الأحياء، وهي تذكرة تندرج ضمن الفوائد المذكورة في الحديث الشريف أعلاه!... فمن كان اليوم زائرا كان غدا مُزارا ومن كان اليوم مشيِّعا كان غدا مشيَّعًا، ويتمّ ذلك كلّه في إطار القانون الرّبّاني القاضي "مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى"!... وعليه فمن كان كيّسا أعدّ ليوم لا شكّ آت!... وبعد الدفن، وقد كان في المقبرة ثلاث جنائز (إنّا لله وإنّا إليه راجعون)، استرعى انتباهي صوت عبدالباسط عبدالصمد رحمه الله، يخترق سكون المكان!...سرّحت النّظر فألفيت رجلا ممتشقا سحابته يحتمي بها من درر السحاب قد وقف إلى رأس قبر يسمع ساكنه من مسجّل في يده القرآن الكريم!... لم أسبح كثيرا مع البحث الفقهي المتعلّق بإسماع القرآن الموتى (والموتى يسمعون)، ولكنّي دخلت في صراع غريب مع نفسي أصبّرها على تحمّل المشهد وقد استعانت بالقلب الذي أذن للعين بالجود بما فيها من ماء حارّ مالح تسقي به لحيتي البيضاء!... وصدق الحبيب صلّى الله عليه وآله وسلّم "فإنها تُرقّ القلب، وتُدمع العين"!... سرت إلى الرّجل... سلّمت عليه... تسمّرت أمام القبر أقرأ الاسم على اللوحة الرّخاميّة... التاريخ حديث جدّا لم يكمل السنة!... أهيّ ابنتك!... نعم هي ابنتي!... ترحّمت ثمّ فررت بنفسي لا أريد أمامه إظهار ضعفي!... نظرت إلى ابني معي وسألت: أفهمت ما معنى أن يأتي أب في هذا البرد القارص الذي لا يقوى عليه أهل الجلد إلى المقبرة كي يسمع ابنته المتوفّاة القرآن!... تهدّج الصوت وكثر البكاء، وما كثر إلاّ لوجود خلل في أبنائنا الذين قد مالت أعينهم عن مجالات آبائهم وأمّهاتهم وقد انصرفت اهتماماتهم إلى ما لا يخدم برّهم آبائهم وأمّهاتهم!... ألا فزوروا المقابر أيّها الإخوة والأخوات، ففيها ما لا نملك نحن في دنيا يحسب الكثير منّا أنّه قد ملكها، والحمد لله ربّ العالمين وإنّا لله وإنّا إليه راجعون... الدّنمارك في 10 مارس 2012