الاعلام الوطني الحرّ , النزيه والمحايد هو عبارة عن مؤسسة تربويّة إصلاحية تلقن مفهوم المواطنة و ترسخ مبادئ الديمقراطيّة واحترام الرأي الاخر . ففي المجتمعات المتحضّرة ينظر للإعلام على أنه ضمير الأمّة الناطق باسمها ولهذا اطلق عليه اسم السلطة الرابعة التي تقف بالتساوي جنبا إلى جنب مع السلطات الثلاث الباقية ( التشريعيّة والقضائيّة والتنفيذيّة ) لما يقوم به من دور الرقيب بامتياز والمنبه والموجه لسياسة البلاد الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة . أمّا في مجتمعاتنا العربيّة المتخلفة , أنظمة الاعلام السائدة قد نشأت وترعرعت في أحضان انظمة استبداديّة أذاقت شعوبها الويلات وسقتها ولازالت كؤوس الذلّ والمهانة وداست على كل القيم الإنسانية ومارست القهر والظلم والإقصاء . وكان الاعلام شاهد زور إذ لعب دور المتفرج السلبى عامة إن لم نقل دور المحرض و المؤيد للسياسات الظالمة التي انتهجها الحكام المستبدون معتمدين طرق عدّة ومسخرين كلّ الوسائل السمعيّة والبصريّة والمكتوبة للتظليل والتعتيم والتضخيم والكذب وتزييف الحقائق إن لم نقل قلبها رأسا على عقب . فالأنظمة الشموليّة تدرك خطورة الإعلام فعند تسلمها زمام الحكم تسارع قبل كلّ شيء لوضع قبضتها عليه وتعمل على تطويعه وتدجين المشرفين عليه وذلك باستعمال جميع وسائل الإغراء المادي والأدبي ونظم الحوافز والتشجيعات لشراء ذمم الانتهازيين وضمائر الإنتفاعيين من رجالات الإعلام البارزين . وبتشغيلهم لماكينة الدعاية والتعبئة والتعتيم المتمثلة في الفضائيات والإذاعات والجرائد لحجب الحقائق وتزييف الوعي بالواقع الأليم تحوّل الإعلاميون في النهاية إلى أبواق دعاية ملئت الدنيا صخبا تسبح ليل نهار بحمد القائد البطل المغوار منقذ البلاد من الانهيار , تمجّد فضائله وتعدّد خصاله وتثمن افعاله وتردد توجيهاته لنصدّق أقواله وتطهّر أتباعه وترفع من قيمة أقرانه على انهم صفوة القوم وأخياره . نعم دأب الإعلام طيلة عقود مضت على تبييض وتلميع صورة النظام القبيحة بتغطية فضائحه والسكوت على تجاوزاته وغض الطرف على مظالمه . أمّا بعد سقوط النظام المدوّي وهروب الطاغية على اثر الانتفاضة الشبابيّة والغضبة الشعبيّة والتي سماها الغرب بثورة "الياسمين" و سماها آخرون ثورة "الكرامة " بعد أن ركبوا الأحداث ركوب الملهوفين الطامعين في الظفر بمقاعد في مراكز القيادة ( وزراء أو مسؤولون كبار أو ... ), والتي لم تستكمل إلاّ بتطهير إعلام العار والذي يعدّ من مخلفات العهد البائد الذي أورثنا إعلاما بنفسجيّا هابطا متخلفا ورديئا محتوى وأداء والذي لم تهبّ عليه بعد رياح التغيير ولم تطله مكنسة التطهير . إذ أنّ المشرفين عليه هم بقايا ازلام النظام السابق المنهار الذين كانوا بالأمس يطبقون التعليمات الرشيدة وينفذون التوجيهات الحكيمة التي تصدر من قائد التغيير( عفوا التدمير) وحاشيته أي أن الاعلام المرئي والمسموع والمكتوب كان منحازا للقصر ويأتمر بأوامره ويقف عن بعد من قضايا العامة ويلعب دور المظلل المتعمد والمغالط غير المتردّد وهذا عيبه المقيت . والغريب أن عددا غير قليل من الإعلاميين البارزين الموالون للنظام السابق هم "يساريون" أصيبوا بالإرباك والغثيان بعد هروب المخلوع ولم يستوعبوا الصدمة لأن كثيرا من الأشياء ستتغير غصبا عنهم . فآثروا الاستمرار في نفس النهج المتبع سابقا مع تغيير الاتجاه بانحيازهم الأعمى لمذهب سياسي مرفوض جماهيريّا جاهر بعدائه السافر لحكومة الترويكا . وبرز ذلك فيما يكتب ويسمع ويقرأ ويشاهد من أخبار لاتعتمد نشر الحقائق المجردة ,وهذا ما دأبت عليه بعض الفضائيات ومن بينها " القناة اللاوطنيّة 1 " و"نسمة" بل كل المشاهدين لاحظوا باستمرار وفي كلّ مناسبة جنوحا من طرف مقدمي البرامج سواء كانت إخباريّة أو غيرها إلى الدعاية المغرضة والتشويه المتعمد والتهويل والتحريض والانحياز الفاضح لمذهب سياسي معروف ألا وهو " اليسار " بكلّ أطيافه . والذي لا همّ له سوي تعطيل عمل الحكومة وتدمير اقتصاد البلاد بتشجيعه للإضرابات والإعتصامات وقطع الطرق ... بنيّة إسقاط الحكومة الشرعيّة . ومثل هذا الإعلام التحريضي والمظلّل والمنحاز , فقد كلّ مصداقية واهتمام وبالأخصّ ثقة المتفرجين , ولو تضمنت عروضه بعض " الحقائق " فإن جلّ المشاهدين ينظرون إليه بعيون الريبة والشك والحذر. أي باختصار شديد كلّ المشاهدين الذين ضاقت صدورهم من الأكاذيب و التعتيم والتزييف يطالبون وبإلحاح الإسراع في عمليّة تطهير هذا الإعلام غير المحايد من رموز الفساد وتهيئته ليقوم بدوره على أحسن وجه , كالإسهام في عمليّة التحوّل الديمقراطي لمؤسسات الدولة والمجتمع والذي يتطلب إعادة هيكلة شاملة للمؤسسات الإعلاميّة العامة أو الخاصة وسنّ "ميثاق" شرف يلزم كلّ الإعلاميين مستقبلا بالحياديّة والشفافيّة والنزاهة ووضع مصلحة وأمن البلاد والعباد فوق كلّ اعتبار , وفي الختام , كل أمانينا أن يختفي مثل هذا الإعلام البائس التعيس نهائيّا من المشهد السياسي ونبني لإعلام وطني حرّ ومسؤول يعمل على النهوض بالإنسان والوطن دون إقصاء لأيّ أحد . الأستاذ :محمد علي القايدي باجة في 16 أفريل 2012 تونس