منذ ستين عاما أو يزيد،بل منذ كتاب علي عبد الرّازق قبل قرابة المائة عام،عن الإسلام وأصول الحكم،والنخبة العربية في حالة احتراب حول هذه المسألة. وانقسمت الساحة السياسية والفكرية بين فريقين كبيرين:جماعة يدّعون انتصارهم للدولة المدنية،وهم المدنيون والديمقراطيون والعقلانيون والحداثيون.....وما انفكّوا يستثمرون كل طاقاتهم وفعالياتهم لإثبات احتكارهم لتلك الفضائل،ولنفيها عن خصومهم [اللاديمقراطيين]، في عملية استئناف، واعية أو لا واعية،لعمل المستشرقين خلال قرنين أو ثلاثة. وقد استخدموا لذلك كل وسائل الدولة،من إعلام وتعليم وتشريع وتمويل....ومن عنف أيضا،رمزيّ طورا،ومادّي أطوارا ؟ وجماعة آخرين،انشغلوا خلال نفس الفترة،بردّ التّهم وإطفاء الحرائق المشتعلة في حجورهم من "إخوانهم" الديمقراطيين،دون أن يغفلوا،بين الحريق والحريق، عن أن يرسموا بعض المعالم،ويحبّروا بعض المقالات،ويؤصّلوا بعض الرّؤى. حتّى أذِن الله بارتداد تلك النيران والحرائق في وجوه الذين أشعلوها. ... هذا،وبقطع النّظر عن هذا الفاصل التاريخي،الذي كان فيه بعض النخبة يتآمر على البعض،ويساهم في إبادته،فإنّ مراجعةً علميّة،وعمليّة لأدبيات هؤلاء المتّهين باللاديمقراطية،تثبت أنهم أشد الناس حرصا،على القيم المدنية،وعلى الدولة المدنية،ليس فقط منذ المودودي ومحمد عبده وعبد العزيز الثعالبي وراشد الغنوشي وسليم العوا،وإنما منذ دولة أبي بكر وعمر...بل منذ صحيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة،لمن أراد الاحتكام للعلم وللتاريخ وللأمانة. وفي تونس تحديدا،تبدو المفارقة في أقصاها،حيث ترى "الرّجعيين" يتمسّكون بالقيم الديمقراطية،ويحترمون الشرعية،وينادون بالوفاق ويعملون له وبه،ويكرّسونه في وثائقهم وأدبياتهم،الداخلية منها والمنشورة،فيما ترى "الديمقراطيين" لا يألون جهدا في الإطاحة بالثورة،وبمنجزاتها المدنية والسياسية،من أجل أن يظلّ "الديمقراطيون والحداثيون" ديمقراطيين وحداثيين أبدا،و"الرّجعيون الإرهابيون" رجعيين إرهابيين أبدا ؟؟؟. ... ولكن قضى الله،وسُنن التاريخ،أنّه "لكلّ أجل كتاب". ولم يعد ممكنا بعد اليوم الاكتفاء بشِعار...إنما العبرة،بالعمل والدليل،الذي يمارَسُ في وضح النهار. 03 ماي 2012