منذ الصدر الأول للإسلام انقسم التّيار الشيعي إلى فرق كثيرة، منهم الغلاة الّذين خرجوا بمغالاتهم عن الإسلام ، ومنهم المعتدلون، ومنهم من هم بين هؤلاء و أولئك. وإنارة للقارئ، نحاول أن نأتي على أهمّ هذه الفرق من خلال ما توّفر لنا من مصادر. تيّار الغلاة: نذكر منهم : 1 السبئية : و هم أتباع عبدالله بن سبأ اليهودي من أهل ( الحيرة ) و أمّه سوداء ، و لذلك يلّقب ب(ابن السّوداء) أحيانا. كان قد أظهر الإسلام نفاقا. و كان من أشدّ النّاس عداوة لسيّدنا عثمان رضي الله عنه. عمل على نشر أفكاره و مفاسده بين المسلمين، و كان جوهر ما يدعو إليه هو أنّه وجد في( التّوراة) أنّ لكلّ نبيّ وصيّا، و أنّ عليّا وصيّ محمّد، و أنّه خير الأوصياء كما أنّ محمّدا خير نبيّ. و هو الّذي يقول ( عجبت لمن يقول برجعة المسيح، و لا يقول برجعة محمّد.) ثمّ ذهب إلى أكثر من ذلك عندما قال بألوهيّة عليّ رضي الله عنه. و لقد همّ عليّ بقتله عندما سمع عنه ذلك، ولكنّ عبدالله بن عبّاس نصحه بغير ذلك، قائلا له( إن قتلته اختلف عليك أصحابك، و أنت عازم على العودة لقتال أهل الشّام)، فاستبدل قتله بالنّفي إلى ( المدائن). ولمّا قُتِلَ عليّ رضي الله عنه، استغّل ابن سبأ محبّة النّاس للإمام و لوعتهم لفقده، فأخذ ينشر حول موته الأكاذيب و الأساطير إضلالا للنّاس و بثّا للفتنة بينهم، زاعما أنّ المقتول لم يكن عليّا، و إنّما كان شيطانا تجسّد للنّاس في صورته، و أنّ عليّا صعد إلى السّماء، كما صعد إليها من قبله عيسى بن مريم عليه السّلام. و قال : ( كما كذبت اليهود و النّصارى في دعواهما قتل عيسى بن مريم، كذلك كذبت الخوارج في دعواها قتل عليّ رضي الله عنه. و إنّما رأت اليهود و النّصارى شخصا مصلوبا شبهوه بعيسى، كذلك القائلون بقتل عليّ رأوا قتيلا يشبه عليّا فظنّوا أنّه عليّ، و قد صعد إلى السّماء، وإنّ الرّعد صوته، والبرق تبسّمه ) ، ومن سمع من السّبئين صوت الرّعد يقول السّلام عليك يا أمير المؤمنين. وقد روى عمر بن شرحبيل أنّ ابن سبأ قيل له : ( إنّ عليّا قد قتل فقال:إنّ جئتمونا بدماغه في صرّة لم نصدق بموته لا يموت حتّى ينزل من السّماء و يملك الأرض بحذافيرها)(1). و من السبئيّة من كان يدّعي أنّ الإله قد حلّ فيه و في الأئمة من بعده، و هو قول يوافق أقوال بعض الدّيانات القديمة الّتي كانت تقول بحلول الآلهة في بعض البشر، و أنّ روح الإله تتناوب الأئمّة إماما بعد إمام ، كما كان يقول المصريون القدماء في الفراعنة. و من السبئية أيضا طائفة كانت تقول عن عليّ : ( إنّ الإله قد تجسّد فيه، و قالوا له (هو أنت الله)، و قد همّ بإحراق هؤلاء كما كنّا قد بيّنا في شأن عبدالله بن سبأ. 2 الغرابيّة : و هي من الغلاة أيضا،وهي فرقة تؤله عليّا، كما فعلت السبئيّة، وهي تكاد تفضّل الإمام عليّا على النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم ، فزعموا أنّ الرّسالة كان المقصود بها عليّا رضي الله عنه، ولكنّ جبريل أخطأ، فنزل على محمّد صلّى الله عليه و سلّم بدل أن ينزل على عليّ رضي الله عنه. وسُمّيت هذه الفرقة بالغرابيّة لأنّهم قالوا إنّه ( أيّ الإمام) يُشْبه النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم كما يُشْبه الغراب الغراب. وهو في الحقيقة كلام لا يستوي موضوعيّا و لا علميّا و لا تاريخيّا، وقد أدحضه العلماء و منهم ابن حزم في كتابه ( الفصل في الملل و النّحل) ، إذ يقول : ( و في الواقع إنّ هذا الكلام جهل بالتّاريخ، و جهل بالحقائق فعليّ عند البعث المحمّدي كان غلاما، و ما كان في سنّ يتحمّل فيها الرّسالة، بل كان في التّاسعة، وهي ليست سنّ التّكليف، فضلا عن أن تكون سنّ التّبليغ، وأمّا كون هذا الكلام يتضمّن جهلا بالوقائع، فلأنّ عليّا في رجولته لم يكن مشابها للنبيّ صلّى الله عليه و سلّم في جسمه، بل كان لكلّ منهما كيان جسمي خاص على ما هو مدوّن في الصفة الجسميّة لكلّ واحد منهما. و على فرض أن التشابه الجسمي كان بينهما كاملا بعد أن استوى كلّ منهما رجلا، فإنّه من المؤكد أنّ ذلك التشابه حديث خرافة وقت البعث المحمّدي، لأنّه لا يمكن أن يكون التّشابه ثابتا بين غلام في التّاسعة ، و رجل مكتمل في الأربعين، فكيف يخطيء جبريل بين رجل و غلام، و كيف يكون التّشابه بينهما فيه بالقدر الّذي يشبه به الغراب الغراب... و هذه الفرق و أشباهها من المنحرفين في الاعتقاد لا يعدّها الشّيعة من بينهم، ويصفونهم بالغلاة، و لا يعدّون أكثر هؤلاء من أهل القبلة. هذه الفرق حُسِبت على الشّيعة في التّاريخ الإسلامي رغم أنّ الشّيعة يتبرءون منهم كلّ التبرؤ، وفي كلّ الأحوال فهذا النّوع من الفرق ليس له وجود في وقتنا الحاضر بين الشّيعة الآن. الحلقة القادمة نخصصها للكيسانيّة و الزّيدية و الحلقة الّتي بعدها للإماميّة الإثنى عشرية و الإسماعليّة مصطفى عبدالله ونيسي/ باريس 1) الفرق بين الفرق / عبدالقاهر البغدادي