اضطر بعض الأساتذة الذين يدرسون في المؤسسات التعليمية النموذجية بقابس إلى التغيب لمدة مطولة لأسباب قاهرة و هم يدرسون العربية و الفرنسية و الأنقليزية و هذا أمر مشروع افترضه القانون و نظمه نصوص واضحة. و قد جرت العادة في هذه الحالات أن تستعين الإدارة الجهوية ببعض الأساتذة المعوضين من بين غير المنتدبين رسميا للتدريس . و لكن ما حصل في هذه الفترة يدعو إلى الإستغراب فقد إقترحت الإدارة بناء على مذكرة وزارية على بعض الأساتذة المنتدبين المترسمين ممن يدرسون في الإعداديات و المعاهد الثانوية أن يتخلوا عن تلاميذهم و أقسامهم و أن يتحولوا إلى معوضين في المؤسسات النموذجية على أن تعوضهم الإدارة هم بدورهم بأساتذة معوضين . و الحكمة من كل هذه العملية أن تلاميذ النموذجي لا يجوز أن "يتضرروا" من أستاذ معوض لا تجربة له بينما يجوز ذلك بالنسبة لتلاميذ المؤسسات العادية . و قد رفض عدد من الأساتذة الذين عرض عليهم هذا الأمر و قبل به البعض الآخر ممن لم يدرك خطورة ما يحدث . و هذا يتناسب مع المذكرة الصادرة أواخر السنة الدراسية الفارطة التي تظمنت شروط الترشح للتدريس بالمؤسسات النموذجية و منها الشهادة العلمية و العدد البيداغوجي و الأقدمية و خاصة خلو ملف المدرس المهني من العقوبات . فالمسألة إذن تتعلق بتصور جديد يتأسس تدرجيا حول المؤسسة التعليمية النموذجية و يتجه أكثر فأكثر نحو تعميق الفوارق بينها و بين المؤسسات العادية سواء في نوعية التلاميذ أو في التجهيزات أو في إطار الإشراف أو في إطار التدريس أو في البرامج بالنسبة للإعداديات . بل إن الإنتماء لطبقي و الجهوي يشهد بدوره فرزا واضحا و متزايدا يختزل ما أضحت عليه مدرستنا العمومية . هذه المدرسة التي أنتجت كل ما حققته تونس من مكاسب تشكو اليوم من مشاكل تتفاقم يوما بعد يوم فالبنية الأساسية شهدت اهتراء حقيقيا و التجهيزات فقيرة و لا تفي بالغرض و لا تحقق حتى الغايات التي وضعتها وزارة التربية نفسها و هو ما يدفع بعض المدارس إلى استجداء أولياء التلاميذ أو أثرياء الجهة لإتمام أعمال الطبع و الصيانة. إضافة على ضعف فادح في إطار الإرشاد التربوي رغم تفاقم ظواهر العنف داخل المدارس و في محيطها. هذا دون أن نتحدث عن تخلي شبه كلي عن المطاعم و المبيتات المدرسية رغم وجود أعداد كبيرة من تلاميذ القرى و الأرياف الذين يجبرون على قطع مسافة حوالي 70 كلم يوميا و البقاء من السابعة صباحا إلى السادسة مساء على ذمة الدراسة لتعذر النقل و مثال ذلك منطقة "الهيشة" و غيرها . إن إحداث المؤسسات التعليمية النموذجية في إطار خطة وطنية إستراتجية تهدف إلى رصد ثروة الذكاء البشري لرعايته و تثمينه ليصبح خزانا تنهل منه مؤسسات البحث العلمي ذات الغايات الواضحة المسخرة لخدمة التنمية و الرقي أمر معقول و مطلوب و لكن الواقع غير ذلك فالمجموعة الوطنية تضحي و تنفق سنوات طويلة على خيرة شبابنا لتكوينهم و نسلمهم بعد ذلك هديه إلى أمريكا و أوروبا لتستفيد من ذكائهم و علمهم و تستقوي بهم علينا. ثم نخجل أن نفتخر بأحد أبنائنا العاملين في المخابر الغربية لأن بلاده لم توفر له فرصة ليخدمها. إن السياسية المتبعة في المؤسسات النموذجية تحتاج إلى مراجعة جذرية في إطار تصور إستراتيجي لإستثمار الذكاء في مخطط وطني و مغاربي و عربي يصبو إلى التنمية بإعتماد الطاقات البشرية. و لكن ذلك يعني ضرورة مراجعة الوضعية العامة التي آلت إليها المدارس و الإعداديات و المعاهد بنية أساسية و تجهيزا و إطارا تربويا و محيطا و غايات و برامج من أجل إعادة الإعتبار للمدرسة كوسيلة للإرتقاء الإجتماعي و كمحرك للتنمية و الرقي. أما أن يتواصل التمييز و الفرز و تتعمق الفوارق بين أصناف التلاميذ و بين الجهات و بين الشرائح الإجتماعية فهذا ما يهدد بخلق مؤسسات "ارستقراطية" تعلق عليها كل الآمال و تحوز كامل الإهتمام و تفوز بالتمويل و الإعتمادات و ينذر بمزيد الإهتراء و التدهور لباقي المؤسسات.
عبد الجبار الرقيقي جريدة الموقف لسان الحزب الديمقراطي التقدمي المصدر : بريد الفجرنيوز