فحوى لقاء سعيّد بوزيري الشؤون الاجتماعية وتكنولوجيات الاتصال    سعيّد يؤكد لدى استقباله رئيسة الحكومة: لا أحد فوق المساءلة والقانون    انعقاد جلسة عمل اللجنة القطاعية للبيئة في إطار إعداد المخطط التنموي 2026-2030    ارتفاع أسعار النفط وسط تصاعد المخاوف من اضطراب الإمدادات    وزير أملاك الدولة يعلن عن الانطلاق في إعداد المخطط التنموي للفترة الممتدة بين 2026-2030    مطار طبرقة عين دراهم الدولي يستأنف نشاطه الجوي    هجوم إيراني جديد على تل أبيب وأميركا تنفي المشاركة بالقتال    السفارة الأمريكية تعلن تعليق عملها وتعذر إجلاء مواطنيها من إسرائيل    ملتقى تونس الدولي للبارا العاب القوى (اليوم الاول) : العناصر التونسية تحرز 9 ميداليات من بينها 5 ذهبيات    ماكرون.. ترامب أبلغ زعماء مجموعة السبع بوجود مناقشات للتوصل إلى وقف إطلاق نار بين إسرائيل وإيران    فوكس نيوز: ترامب طلب من مجلس الأمن القومي الاستعداد في غرفة العمليات    كأس العالم للأندية: التشكيلة الأساسية لفريق فلامينغو في مواجهة الترجي    عاجل: أمر مفاجئ من ترامب: على الجميع إخلاء طهران فورا    بالفيديو: مطار طبرقة الدولي يستعيد حركته ويستقبل أول رحلة سياحية قادمة من بولونيا    القيروان: إزالة توصيلات عشوائية على الشبكة المائية في الشبيكة    كأس العالم للأندية: تعادل مثير بين البوكا وبنفيكا    كأس العالم للأندية: التشكيلة الأساسية للترجي الرياضي في مواجهة فلامينغو    بعد تسجيل 121 حريقا في 15 يوما.. بن الشيخ يشدد على ضرورة حماية المحاصيل والغابات    انطلاق عملية التدقيق الخارجي لتجديد شهادة الجودة بوزارة التجهيز والإسكان    ميناء جرجيس يستقبل أولى رحلات عودة التونسيين بالخارج: 504 مسافرين و292 سيارة    يهم اختصاصات اللغات والرياضيات والكيمياء والفيزياء والفنون التشكيلية والتربية الموسيقية..لجنة من سلطنة عُمان في تونس لانتداب مُدرّسين    المندوبية الجهوية للتربية بمنوبةالمجلة الالكترونية «رواق»... تحتفي بالمتوّجين في الملتقيات الجهوية    في اصدار جديد للكاتب والصحفي محمود حرشاني .. مجموعة من القصص الجديدة الموجهة للاطفال واليافعين    الكوتش وليد زليلة يكتب .. طفلي لا يهدأ... هل هو مفرط الحركة أم عبقري صغير؟    أخبار الحكومة    بورصة: تعليق تداول اسهم الشركة العقارية التونسية السعودية ابتداء من حصّة الإثنين    تونس تحتضن من 16 الى 18 جوان المنتدى الإقليمي لتنظيم الشراء في المجال الصحي بمشاركة خبراء وشركاء من شمال إفريقيا والمنطقة العربية    طقس الليلة    إسناد العلامة التونسية المميزة للجودة لإنتاج مصبر الهريسة    تجديد انتخاب ممثل تونس بالمجلس الاستشاري لاتفاقية حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه لليونسكو    "تسنيم": الدفاعات الجوية الإيرانية تدمر مقاتلة إسرائيلية من طراز "إف 35" في تبريز    تونس تدعو إلى شراكة صحّية إفريقية قائمة على التمويل الذاتي والتصنيع المحلي    نحو إحداث مرصد وطني لإزالة الكربون الصناعي    جندوبة: اجلاء نحو 30 ألف قنطار من الحبوب منذ انطلاق موسم الحصاد    العطل الرسمية المتبقية للتونسيين في النصف الثاني من 2025    جندوبة: الادارة الجهوية للحماية المدنية تطلق برنامج العطلة الآمنة    "مذكّرات تُسهم في التعريف بتاريخ تونس منذ سنة 1684": إصدار جديد لمجمع بيت الحكمة    الدورة الأولى من مهرجان الأصالة والإبداع بالقلال من 18 الى 20 جوان    في قضية ارتشاء وتدليس: تأجيل محاكمة الطيب راشد    ابن أحمد السقا يتعرض لأزمة صحية مفاجئة    القيروان: 2619 مترشحا ومترشحة يشرعون في اجتياز مناظرة "السيزيام" ب 15 مركزا    عاجل : عطلة رأس السنة الهجرية 2025 رسميًا للتونسيين (الموعد والتفاصيل)    عاجل/ آخر أخبار قافلة الصمود..وهذه المستجدات..    عاجل/ هذا ما قرره القضاء في حق سنية الدهماني..    دورة المنستير للتنس: معز الشرقي يفوز على عزيز دوقاز ويحر اللقب    خبر سارّ: تراجع حرارة الطقس مع عودة الامطار في هذا الموعد    10 سنوات سجناً لمروّجي مخدرات تورّطا في استهداف الوسط المدرسي بحلق الوادي    فجر الثلاثاء : الترجي يواجه فلامينغو وتشيلسي يصطدم بلوس أنجلوس: إليك المواعيد !    كأس المغرب 2023-2024: معين الشعباني يقود نهضة بركان الى الدور نصف النهائي    باريس سان جيرمان يقسو على أتليتيكو مدريد برباعية في كأس العالم للأندية    صفاقس : الهيئة الجديدة ل"جمعية حرفيون بلا حدود تعتزم كسب رهان الحرف، وتثمين الحرف الجديدة والمعاصرة (رئيس الجمعية)    لطيفة العرفاوي تردّ على الشائعات بشأن ملابسات وفاة شقيقها    قابس: الاعلان عن جملة من الاجراءات لحماية الأبقار من مرض الجلد العقدي المعدي    تحذير خطير: لماذا قد يكون الأرز المعاد تسخينه قاتلًا لصحتك؟    من قلب إنجلترا: نحلة تقتل مليارديرًا هنديًا وسط دهشة الحاضرين    قافلة الصمود فعل رمزي أربك الاحتلال وكشف هشاشة الأنظمة    ملف الأسبوع .. أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس    طواف الوداع: وداعٌ مهيب للحجيج في ختام مناسك الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من هي المستشرقة الألمانية آنا ماري شيمل؟
نشر في الفجر نيوز يوم 27 - 09 - 2012

تعد أنا ماري شمل نموذجًا للذين أحبوا بصدق الحضارة الإسلامية، ووقفوا على الإسهامات العظيمة التي قدمتها للإنسانية، وقدموا من خلال دراساتهم وأبحاثهم خدمات رائعة للإسلام، بل وقدم بعضهم تضحيات باهظة لأجل الثبات على مواقفهم.
إنها عميدة الإستشراق الألماني بلا منازع، كما تتميز عن جل المستشرقين لقد نجحت في إدراك الكثير من الأهداف السامية التي عجز عن تحقيقها غالبية نظرائها.. مرده إلى الخلفية التي تعاملت بها المستشرقة الألمانية مع الحضارة الإسلامية التي درستها؛ فقد ارتكزت هذه الخلفية على الكثير من الحب والرغبة في اكتشاف الجوانب المضيئة فيها.
سيرة علمية وعملية حافلة:
ولدت "أنا ماري شمل" في مدينة "إيرفورت" الألمانية، يوم 7 أبريل 1922، وكان والدها يعمل موظفا في البريد. نشأت وترعرعت في حقبة حرجة من تاريخ ألمانيا الحديثة، فقد تزامنت نشأتها مع بداية قدوم الاشتراكية القومية (النازية) إلى الحكم، ولكنها في هذه الأجواء المملوءة بالشعارات العرقية التي كانت تمجد «العرق الآري»، وتعلي من أهمية «أن يكون المرء ألمانيا»؛ بدأت أنا ماري شيمل بتلقي دروس خاصة في العربية، وأقلعت في اتجاه عالم اللغات السامية. ترى أكانت تعي يومها أي عالم متطرف غادرت؟
وقد بدأت تتعلم اللغة العربية في سن الخامسة عشرة، وحصلت على درجة الدكتوراة في الاستشراق من قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية في جامعة برلين سنة 1941 عن "دور الخليفة والقاضي في مصر الفاطمية والمملوكية"، وهي لم تتجاوز سن التاسعة عشرة، وبعد 3 سنوات حصلت على درجة الأستاذية من جامعة "ماربورغ"، وتُعد شمل أصغر من حصل على مثل هذه الدرجة العلمية في هذا الوقت. كما حصلت سنة 1951 على درجة دكتوراة ثانية في تاريخ الأديان.
قامت "شمل" سنة 1952 بأول زيارة لها إلى العالم الإسلامي، وبالتحديد إلى تركيا التي عادت إليها في عام 1956 لتستقر بها 5 سنوات؛ حيث عملت كأستاذة مساعدة في العلوم الإسلامية واللغة العربية في جامعة أنقرة؛ لتشغل لاحقا منصب أستاذة كرسي تاريخ الأديان في كلية العلوم الإسلامية بذات الجامعة، حيث كثفت دراساتها في تلك الفترة عن الإسلام في شبه القارة الهندية.
رجعت المستشرقة الألمانية إلى بلادها سنة 1961؛ لتشغل في جامعة "بون" منصب مستشارة لشؤونها العلمية في مجال الدراسات الإسلامية، إلى جانب عملها كأستاذة للغة العربية والعلوم الإسلامية، ورئاستها تحرير مجلة "فكر وفن" حتى سنة 1973، وهي مجلة علمية، نشرت من خلالها الكثير من أبحاثها عن الأدب الإسلامي، كما تنقلت "شمل" بين العديد من الجامعات العالمية المرموقة كأستاذة زائرة؛ فقد حاضرت لسنوات طويلة في جامعة "هارفارد" وجامعة نيودلهي في الهند، والمجلس الأمريكي للعلوم، وجامعة "إيوا" في نيويورك، ومعهد الدراسات الإسماعيلية في لندن. (طالع إسهاماتها الفكرية).
نالت المستشرقة الألمانية نظير مسيرتها العلمية الحافلة الكثير من الجوائز وأوسمة التكريم، لعل أهمها جائزة "فردريش ركارت" الألمانية سنة 1965، ووسام القائد الأعظم لجمهورية باكستان الإسلامية سنة 1966، ووسام الاستحقاق الألماني من الدرجة الأولى سنة 1982.
بالإضافة إلى نيلها جائزة السلام التي فتحت عليها نيران الاعتراضات من قبل المؤسسات اليهودية مثلما ذكرنا.
وكانت قد ترددت أنباء عن إسلام شمل، غير أنها لم تشهر إسلامها حتى وفاتها، ويصفها المفكر الإسلامي "عبد الحليم خفاجي" في معظم كتبه ب"مؤمنة آل فرعون".
بالإضافة إلى تكريمها من قبل الرئيس محمد حسنى مبارك؛ حيث منحها وسام الاستحقاق قبل 3 أعوام، فيما منحتها جامعة الزهراء الإيرانية درجة الدكتوراة الفخرية قبل رحيلها بأربعة أشهر؛ تقديرا لجهودها في خدمة الإسلام، وفي ألمانيا كرمها المجلس الأعلى للمسلمين عام 1998 في احتفال خاص.
دكتوراه قبل العشرين
وكانت المسيرة العلمية للدكتورة شيميل قد بدأت في سن مبكرة بإتقانها اللغة العربية في سن الخامسة عشرة، وبحصولها عام 1943 وهي في التاسعة عشرة على الدكتوراه الأولى من جامعة برلين عن "دور الخليفة والقاضي في مصر الفاطمية والمملوكية"، وقد ألقت النازية إضافة إلى الحرب بظلالها؛ إذ كان عليها أن تعمل في المصانع على نحو إجباري، كما توجب عليها وهي في السابعة عشرة من عمرها أن تمضي نصف سنة كخدمة إجبارية. ومنذ هذه الآونة بدأ الإسلام وحضارته يمثلان لشيمل طريق حياة. وقد بدأت تتعلم اللغات بالسرعة التي يقرأ المرء الروايات بها فأتقنت العربية والفارسية والتركية.
وبعد ثلاث سنوات حصلت على درجة الأستاذية بعد حصولها على الدكتوراه الثانية حول "البنية الاجتماعية للطبقة العسكرية في دولة المماليك". وتعد شيميل أصغر من حصل على مثل هذه الدرجة العلمية في هذا الوقت.
بعد أن أنهت شيمل دراستها، توجب عليها كالكثير من زملائها أن تعمل بين عامي 1941و 1945 في وزارة الخارجية الألمانية كمساعدة في قسم الترجمة. وقد كانت بعض دوائر الخارجية الألمانية الواقعة في شارع فيلهلم مشغولة بترجمة كتاب «كفاحي» لأدولف هتلر، لتجيء ترجمة متشابهة للآيات القرآنية، وليتم توزيع تلك الترجمة أثناء موسم الحج بغية استخدامها في التحريض ضد الاستعمار الإنجليزي. وقد توجب على شيمل أن تكون جزءا من هذا المشروع الأحمق.
وفي الأول من نيسان عام 1945، أي قبل سقوط الرايخ الثالث بعدة أسابيع قدمت شيمل أطروحتها لما بعد الأستاذية للجامعة Habiliation، مستغلة توقف القصف على المدينة، وكان عنوان تلك الأطروحة: «بنية الطبقة العسكرية في الحقبة المملوكية المتأخرة».
وبعد نهاية الحرب ذهبت إلى زاكسن، وهناك بقيت عدة أشهر عند السلطات العسكرية الأمريكية. وبعد إطلاق سراحها اتجهت إلى جامعة ماربورغ لتستكمل إجراءات أطروحتها المشار إليها، وكان عمرها يوم ذاك ثلاثة وعشرين عاما.
أتقنت شيمل العربية والفارسية والتركية و اللاتينية واليونانية وكانت إضافة إلى إتقانها للإنجليزية والفرنسية والإيطالية والأسبانية تستطيع أن تقرأ أو أن تتحدث بالهولندية والسويدية والدينماركية والتشيكية.
حصلت شيمل مرة أخرى على الدكتوراه في تاريخ الأديان من كلية اللاهوت بجامعة ماربورغ بإشراف فريدريش هايلر Friedrich Heiler، وكانت بعنوان: «دراسات عن مصطلح الحب الصوفي في التصوف الإسلامي المبكر».
وعندما بدأت شيمل في بناء حياتها الأكاديمية واجهتها عراقيل ومصاعب، ويمكن القول: إن ثمة ملامح تصبغ أبعاد تلك الحياة العلمية:
- يجئ اهتمامها بالتدين بمثابة رد على الايديولوجيا النازية. لذا ربطت شيمل اهتماماتها العلمية بالتصوف، وبتحليل العلاقة بين الله والإنسان جوابا على ما تميزت به النازية من قسوة وعنف.
- يبين هذا الاهتمام كذلك سوء ظنها بالمشروع السياسي (لنظام هتلر) الذي يشاركها فيه الكثير من معاصريها، هذا المشروع الذي لم يفسد السياسة وحدها، ولكنه دمر مستوى العملية السياسية على الإطلاق.
- نشوء الرغبة العميقة من الجامعات الألمانية المدمرة يومها في التصالح مع الآخر، ومع الأعداء، سواء أكانوا حقيقيين أم متوهمين،.. وقد كانت شيمل يومها أصغر بكثير من طلابها، هؤلاء الشباب الذين كانوا يرددون شعارات ترى أن الحق في الحياة لهم وحدهم، وتنادي بالتخلص من الأجانب وطردهم، واحتقارهم وكراهيتهم.
لقد شهدت المرحلة الأولى من حقبة المستشار الألماني أديناور Adenauer تفتح مواهب علمية لمجموعة من النساء في الجامعات الألمانية. وقد كان من الممكن آنذاك أن تمنح المرأة اللقب العلمي دون أن يكون لها الحق في الحصول على الوظيفة.
اتجهت شيمل إلى عالم المخطوطات الشرقية في أنقرة واستانبول، وحصلت على لقب أستاذة خارج الهيئة، ولكن الأستاذية الفعلية لشيمل كانت في كلية الإلهيات (الاسلامية) في جامعة أنقرة.
ففي عام 1954 عينت شيمل أستاذة لتاريخ الأديان. وكانت تدرّس باللغة التركية ظاهرة الأديان وتواريخها باستثناء الإسلام. وقد كان عدد أعضاء هيئة التدريس من النساء في جامعة أنقرة وفي غيرها من الجامعات في الشرق في تلك الآونة أكثر من عدد أعضاء هيئة التدريس من النساء في جامعة بون في التسعينات. وقد دأبت شيمل أن تشير إلى ذلك بوضوح وبخاصة عندما يكثر الحديث عن تهميش المرأة أو اضطهادها في البلدان الإسلامية. وهكذا فإن تحقيق شيمل لأستاذيتها -وهذه إحدى المفارقات- قد تم عن طريق تركي.
وتعبيرا عن إعجابها بالشاعر والمفكر الباكستاني ترجمت عام 1958 كتاب إقبال "الخلود" إلى الألمانية الذي يعد تفسيرا عصريا للإسراء والمعراج. وبعد عام ترجمت نفس الكتاب إلى التركية، كما أصدرت كتابين عنه عام 1974، الأول بعنوان "جناح جبريل" والثاني بعنوان "محمد إقبال شاعر وفيلسوف نبوي".
وتلا المرحلة التركية تنقل شيميل وعملها كأستاذة للدراسات الإسلامية واللغات الشرقية في جامعات ألمانيا وأوروبا وأمريكا إضافة لجامعات سوريا وتركيا وباكستان، وخلال هذه الفترة أصدرت مجموعة من كتبها الهامة حول الإسلام أهمها: "إن الملك لك.. أدعية من الإسلام"، و"عالم الإسلام رحلة من الأعماق".
وفي عامي 1981 و1985 صدر أهم كتبها "محمد رسول الله" بالألمانية والإنجليزية الذي عبرت فيه بصدق عن تقديرها للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ما أثار وسائل الإعلام الألمانية ضدها، فردت عليها بكلمات حازمة: "نعم إني أحبه".
"سيقهر الماء صم الحجر"
لقد وجدت "أنا ماري شمل" خلال مسيرتها الحافلة الكثير من المحبين والمدافعين، بقدر ما وجدت من الأعداء والمناوئين. وقد جاء الرئيس الألماني السابق "رومان هرتسوغ" على رأس المتعاطفين مع "السيدة الفاضلة"؛ حيث حرص على أن يسلم بنفسه جائزة السلام لعميدة المستشرقين، وأن يقول في حقها كلمته الشهيرة: "إنها هي من مهدت لنا الطريق للإسلام".
وتدافع ماري شمل عن الإسلام بقولها: إن الحضارة التي سارت على سُنة تحية "السلام"، تمر اليوم بأطوار من الانغلاق والتصلب الفكري وتبريرية المواقف. وإننا نجد أنفسنا اليوم إلى حد كبير أمام مظاهر صراع سياسي بحت وأيديولوجيات تستغل الإسلام كشعار، وهي أبعد ما تكون عن أسسه الدينية وأصوله.
وبصدد ردها على المعارضين لها ولمنهجها في الدراسة والبحث.. تقول أنا ماري شمل: إن طريقي ليس هو طريق التصريحات والبيانات، ولا هو طريق الإثارات والزوابع. إنني أومن أن الماء الصافي سوف ينتصر بحركته الدءوبة على مر الزمن على صم الحجر. إنني أتوجه مع رجاء العون من أجل خدمة السلام بالشكر أولا وأخيرا، إلى من توجه إليه "جوته" في الديوان الشرقي بقوله:
"لله المشرق..
لله المغرب..
والأرض شمالا
والأرض جنوبا
تسكن آمنة
بين يديه
هو العدل وحده
يريد الحق لعبده
من مائة اسم من أسمائه
تقدس اسمه هذا. آمين
شارع شيميل
وإلى جانب إتقانها لمعظم اللغات الأوروبية أتقنت المفكرة الألمانية بطلاقة العربية والتركية والفارسية والأوردية وعرف عنها حبها الشديد لباكستان التي عاشت فيها أكثر مما أقامت في وطنها. وتجلى هذا الحب في كتابها "باكستان قصر الألف باب".
وكما قدرت ألمانيا محمد إقبال بإطلاق اسمه على الشارع الذي أقام به في مدينة هايدلبرج التي حصل من جامعتها على درجة الدكتوراه في الفلسفة، أطلقت باكستان اسم آنا ماري شيميل على أحد شوارع لاهور الهامة.
وفي أكتوبر من عام 1995 وأثناء تسلمها لجائزة السلام الألمانية من الرئيس الألماني السابق هيرتزوج التي منحها لها اتحاد الناشرين الألمان تعرضت شيميل لهجوم شديد من بعض وسائل الإعلام الألمانية التي اتهمتها بالأصولية ومناصرة التطرف الإسلامي بسبب هجومها على سلمان رشدي، إضافة لاتهامها بتأييد النظم الديكتاتورية عندما رثت الرئيس الباكستاني الراحل محمد ضياء الحق حيث قالت: "إن التاريخ العادل سينصفه يوما ما".
وكانت قد ترددت أنباء عن إسلام شيميل غير أنها لم تشهر إسلامها حتى وفاتها، ويصفها المفكر الإسلامي عبد الحليم خفاجي في معظم كتبه ب "مؤمنة آل فرعون".
إن وساطتها بين الثقافات لا تتجلى في نقل النصوص من ثقافة إلى أخرى؛ ففي أنقرة علمت الطلبة الأتراك تمييز رودلف أوتو في الظاهرة المقدسة بين الجليل والجميل، كما أن دراساتها عن التصوف الإسلامي وأشكاله المتعددة تمتلئ بالإشارات إلى دارسين من أمثال: مايستر إيكارت، وتيريزا فون أفيلا، ويوهانس فون كرويتس.
لقد أعلت أعمال شيمل من أهمية التصوف بوصفه «الحياة الباطنية للإسلام». أما الفقه ومذاهبه ومدارسه فلم ينل إلا يسير من اهتماماتها. فعندها لا تنبع خصوصية الإسلام من الشريعة بكل ما تنطوي عليها من تنوع وتفصيلات، بقدر ما تنبع من البعد الفردي الأصيل للتصوف، الذي ظل يقع في صلب اهتمامها.
لقد ظل المتصوفون المسلمون، والمتصوفات المسلمات -كما وضحت شيمل- حياتهم وأبعادهم الروحية طريقا لاكتشاف الذات. وقد رأت في الكثير من النصوص الأوروبية المتأخرة التي تعلي من قيمة الحرية الفردية للإنسان تقليدا للتصوف الإسلامي.
ولا شك أن موسوعيتها، واحترامها للآخر هو سر من أسرار شهرتها التي طوفت الآفاق؛ فصار اسمها معروفا في العالم الإسلامي من استانبول إلى سمرقند. وقد أفرحها حقا إطلاق اسمها على أحد شوارع مدينة لاهور في باكستان أكثر مما أفرحتها الأوسمة الكثيرة التي نالتها من جميع أرجاء العالم.
وفاتها :
توفيت في أوائل العام 2003 المستشرقة الألمانية البروفسورة آنِّه ماري شيمِّل عن عمر يناهز الثمانين عامًا.
وقد أوصت الأستاذة شيمل أن تتلى سورة الفاتحة على قبرها، وقد رتل السورة الكريمة بالعربية يوم دفنها الشيخ أحمد زكي اليماني.
وهي للحق قد تركت العشرات من الدراسات والمؤلفات المختصة في الاستشراق وتاريخ الأديان. وفي مسيرتها الأكاديمية حازت على العديد من الجوائز والأوسمة وتسلمت الكثير من المناصب في جامعات عالمية.
تستحق البروفسورة الألمانية الراحلة أنِّه ماري شيمِّل أكثر من الألقاب الأكاديمية بكثير. فهي صاحبة مشروع ضخم وتجربة فريدة في مجال الاستشراق والتصوف الإسلامي. وهي من المستشرقين الأوروبيين القلائل في القرن العشرين الذين أرسوا قواعد صحيحة في الدراسات. فقد وهبت الرؤية الاستشراقية حقَّها، ونطقت بحقيقتها، بلا أدنى مغالطات أو تشويه. وبعيدًا عن استعلاء الغرب على الحضارات الأخرى، كما هو سائد لدى العديد من المشتغلين في حقل الاستشراق، استطاعت هذه العالمة أن تكون نموذجًا راقيًا، وأن تؤلِّف، عبر إبحارها المعرفي، ما يفوق الثمانين كتابًا ومجلدًا، بلغات مختلفة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.