قد يكون من الصعب تقديم محمد أركون للقارئ العربي عموما وللقارئ الخليجي بشكل خاص. والصعوبة تعود أولا إلى أن الرجل يكتب أساسا باللغة الفرنسية وثانيا لأن أفكاره قد تبدو غير مألوفة لثقافة يندر أن تطرح على نفسها الأسئلة الصعبة كالتي يطرحها أركون. هذا مفكر جزائري يتميز بخصال لا تتوافر عند الكثير ممن يطلق عليهم اسم المفكرين وأهم هذه الخصال هي: - التكوين التراثي المنقطع النظير، فللرجل علاقة حميمة مع المدونة التراثية المطبوع منها والمخطوط بشتى تفرعاتها؛ مما يدفع عنه تهمة التغريب التي لطالما ألصقت به - التنوع اللغوي فقد بدأ أركون بلغته لغة النشأة الأمازيغية (لغة القبائل في الجزائر) ثم العربية والفرنسية والانجليزية وله اطلاع على الألمانية. هذا التنوع اللغوي جعله ينفتح على شتى أنواع الاستشراق الفرنسي والألماني والانجليزي والأمريكي - الاستيعاب لمناهج العلوم الإنسانية وتشربها من مصادرها في جامعة السوربون والفضاء الفكري الأوروبي - عبقرية التطبيق وجرأة طرح السؤال. فمحمد أركون يطرح الأسئلة دون أن يقدم إجابات نهائية، وعيا منه بأن كل من ادعى إجابة نهائية لأسئلة الثقافة إنما يمارس في النهاية سلطة إيديولوجية ما ما مشروع محمد أركون؟ في أواخر خمسينيات القرن الماضي كانت فرنسا تمثل مركز الجدل الفكري والفلسفي فقد لمع نجم خيرة المفكرين الفرنسيين في القرن العشرين فوكو وبارت وديريدا وبول ريكور وبيار بورديو وجاك بارك... وغيرهم ممن أسسوا المدرسة البنيوية في الفلسفة والعلوم الانسانية، وهم أنفسهم فككوها في إطار نقدهم للحداثة والتأسيس إلى ما بعد البنيوية. في هذه الفترة كان محمد أركون في فرنسا حاملا معه إرثا ثقافيا عربيا إسلاميا قد أفل نجمه ويستقبل إرثا ثقافيا جارفا وخلاقا في المجتمعات التي انتجته هذا التلقي الأول للثقافة الغربية في واجهتها الفرنسية والانفتاح المبكر على العلوم الإنسانية فجر لدى أركون إشكالياته الكبرى التي ظل يشتغل بها إلى اليوم اشتغل محمد أركون على المفهوم المركزي الذي شغل الفكر الفلسفي منذ الأزل وهو مفهوم الانسان فأراد ان يبحث عن بذور هذا التفكير الانساني عند المسلمين في أطروحته لنيل شهادة الدكتوراة فكانت عن التفكير الانساني l`HUMANISME من خلال فكر مسكويه. من هناك كانت البداية للغوص في التراث العربي الاسلامي والبحث عن مواطن الاخفاق والابداع. وهذه الانطلاقة كانت موازية للتفكير الأوروبي حول مفهوم التفكير الانساني الذي شهد ازدهارا كبيرا بعد الحرب العالمية الثانية إذا أردنا الحديث عن المشروع الأركوني يمكن أن نقول إن مشروعه اتخذ عدة اتجاهات في التأسيس الفكري والنقدي - نقد الأصوليات الفكرية والدينية، فطفق محمد أركون ينقد الفكر الأصولي الاسلامي باعتباره فكرا غير قادر على تقديم بديل ثقافي يحتاجه المسلم المعاصر. وقد استفاد في نقده لهذا الخطاب الفكري من نقد الفكر الغربي للأرتودوكسية المسيحية؛ لأنه يعتبر أن منطق اشتغال الارتودوكسيات واحد في جميع الثقافات. كما أن الأرتودوكسية تتخطى المجال الديني لتشمل الخطاب السياسي والإيديولوجي بشكل عام. وانطلق في هذا النقد للأصولية الاسلامية المعاصرة من نظرة تاريخية حاول من خلالها رصد اللحظات التاريخية والثقافية لتكونها في التاريخ الاسلامي. والآن محمد أركون يطالب بعلم خاص بالارتودوكسيات يتناول أبعادها التاريخية والسياسية والدينية والسوسيولوجية عامة - نقد الاستشراق: لطالما اتهم أركون بالتغريب وبالانسلاخ عن الثقافة العربية الاسلامية ولكن من يطلع على بحوثه يرى جرأة علمية في نقد الاستشراق الاستعماري الذي لم يفهم الثقافة العربية الاسلامية. نقد تلك المركزية الثقافية للفكر الأوروبي. وكان نقده من داخل المنظومة الفكرية لهذا النوع من الاستشراق، بل نقده معتمدا آليات الفكر الغربي ذاته. وقد أراد بنقده هذا أن ينفي النظرة التبخيسية للثقافة العربية الاسلامية التي سادت في المرحلة الاستعمارية وهي تعود الآن. المجتمعات الاسلامية لها خصوصياتها ولكنها كذلك لها كلياتها التي تشترك فيها مع جميع الثقافات؛ لذلك كان يلح كثيرا على دراسة الثقافة الدينية الاسلامية ضمن الفضاء اللغوي والثقافي التوحيدي السامي. وهذا ما أهمله كثير من المستشرقين - نقد المؤسسات : لم ينفك أركون ينقد المؤسسات التعليمية والثقافية الدينية والمدنية في المجتمع العربي؛ لأن هذه المؤسسات لم تقم بالدور الذي كان من المفترض ان تقوم به منذ استقلال هذه الدول. ولعل فشل المؤسسة العلمية والثقافية العربية كان تارة نتيجة وتارة سببا لفشل مشروع التنمية الثقافية والاجتماعية في هذه المجتمعات. فعلى سبيل المثال يعيب أركون على هذه المؤسسات تغييبها الوعي النقدي وتدريس الفكر العقلاني، وفيما يخص المسألة الدينية ظل الفكر الديني يدرس دائما على أنه فكر مغلق تسيطر عليه عقلية التسليم وتحرم كل عملية نقد أو تساؤل. في حين ما نسميه بالفكر الاسلامي لم يكن سوى اجتهادات بشرية في قراءة النص القرآني لحل إشكاليات تاريخية لا تحل بالضرورة بنفس آليات تفكير المجتهدين القدامى. هؤلاء اجتهدوا وأسلافهم قدسوهم فأغلقوا أبواب الاجتهاد دونهم. ولتجديد المؤسسة التعليمية العربية يطالب محمد أركون بتدريس العلوم الانسانية في جميع المستويات الجامعي والثانوي وحتى الابتدائي. ولما كانت هذه العلوم غربية فلا بد أن نهتم باللغات الحية كالإنجليزية والفرنسية والألمانية؛ لأن المفاهيم العلمية الحديثة لم تكن نتاج لغتنا والعيب ليس في العربية كلغة وإنما العيب في العقل الذي يستعمل هذه اللغة وأعطى كلماتها شحنة من التقديس أصبح من المستحيل التفكير في إمكانيات أخرى لإنتاج المعنى - التجريب والتطبيق: استفاد محمد أركون كما أسلفنا من الثورة العظيمة للعلوم الانسانية في الغرب فترجم استفادته في الفهم الواعي لها ثم في التطبيق التجريبي على الفكر الاسلامي مع مراعاة خصوصية هذا الفكر. فعندما قدم دراساته عن القرآن وظف أركون الدرس اللساني والسيميائي (علم الدلالات) في تفكيك دلالات النص ورمزياته، درس القرآن باعتباره نظاما لسانيا يخضع لمعيارية اللغة العربية وسياقات اللسان العربي، ثم درسه باعتباره نظاما علاميا أي أنه مجموعة من العلامات التي تتجاوز دلالتها حرفية الكلام إلى معاني حافة. هذان النظامان يخفيان نظاما للعالم ورؤية للكون تتحكم فيها عدة أبعاد ثقافية وإيكولوجية وسوسيولوجية وهنا كانت الانتروبولوجية الرمزية. والانتروبولوجية الدينية مجال أركون الواسع فطبق مفاهيم من قبيل المخيال الجمعي والنسق الثقافي والرمزي ومفاهيم النماذج الأصليةArchetype وحدد بعض المفاهيم التي تلقى كثيرا من التهجين والتحريم لأنها لم تنقل النقل الصحيح من سياقها المعرفي بل اكتفي بالأصل اللغوي العربي، ومن ثم رفضت كمفهوم الاسطورة فعندما قال أركون إن القرآن ذو بنية أسطورية كفكرة محمد الغزالي ولم يكن يقصد بالاسطورة سوى القصة ولكنها القصص المؤسسة للفكر وللرؤية وهذا أحد التعريفات الانتروبولوجية للأسطورة. كذلك مصطلح المقدس المرتبط في لغتنا بمفهوم الحرام في حين يعني في العلوم الانسانية أبعادا رمزية أخرى لها علاقة بنظرة الإنسان للكون. مرحلة التجريب والتطبيق خصصها محمد اركون في مجملها لدراسة التراث العربي الاسلامي فدرس النصوص الأصول من قرآن وحديث وفقه وعلم كلام وفلسفة. ولكن كان ذلك مقدمات معرفية وثقافية تاريخية لقراءة الواقع الفكري والاجتماعي الراهن - التفكير الاشكالي: يعتبر أركون من العرب القلائل الذين حاولوا فعلا إرساء تفكير إشكالي في الثقافة العربية الاسلامية المعاصر. ثقافة السؤال هي الحل الوحيد لمجابهة ثقافة التسليم والقراءات التبجيلية للفكر. من هنا خرج محمد اركون على القارئ العربي بمفاهيم لم يألفها من قبل كمفهوم العقل الاسلامي والتفريق بين الحدث القرآني والحدث الاسلامي في إطار مساءلة أكثر الأمور تسليما وهي مفاهيم الفكر الديني ذاتها كمفهوم الاسلام ومفهوم الوحي والقرآن. وأدرج هذا كله ضمن ما يسميه اللامفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه في الفكر الاسلامي. واعتبر أن هذا اللامفكر فيه هو الذي يجب التفكير فيه اليوم لأنه يساعدنا على إعادة تأسيس ثقافتنا تأسيسا يقوم على مفهوم الانسان يمكن أن نقول إن محمد أركون من القلائل الذين قاموا بحفريات فكرية في الثقافة الاسلامية . هذا الجهد جعله يدافع في كثير من المناسبات عن فكر ابن رشد وابن خلدون وعلى كل فكر عقلاني في الثقافة الاسلامية. ولقد تحمل الكثير من دعوات التكفير والتخوين والمطالبة بحرق كتبه من بعض المسلمين وتحمل اتهامات مماثلة عند الغرب. ولكن ظل أركون يصدح برأيه بكل جرأة فقد خاطب الكونغرس الأمريكي بعد 11 سبتمبر وقدم صورة للإسلام لم يكونوا يعرفونها، كما قدم الكثير من الدراسات باللغات الاجنبية التي تنير فكر مسكويه وابن رشد وغيرهما وعلى الصعيد العربي نجح محمد أركون في تأسيس مدرسة خاصة في الفضاء المغاربي، مدرسة تحاول تقديم قراءة للتراث بعيدا عن الإيديولوجيا قدر الإمكان تؤسس للمعرفة التساؤلية ولا تخشى السؤال مهما كان محرجا. هذه المدرسة تحاول تجاوز عقم الفكر في ظل تصاعد التفكير اللاعقلاني في أرجاء الوطن العربي نقلا عن صحيفة مركز بابل العراقية