ألمانيا تدعو لبدء عملية حل الدولتين مع الفلسطينيين وتدين هجوم الكيان على قطاع غزة    مستوطنون يقتحمون الأقصى المبارك مجددا    هزة أرضية بقوة 4.8 درجة تضرب تركيا.. #خبر_عاجل    29 ساعة في السماء.. أطول رحلة جوية مباشرة في العالم..!    البطولة الإسبانية : برشلونة يفوز على خيتافي 3-0 ويستعيد الوصافة    البطولة الفرنسية : موناكو يتفوق على ميتز 5-2    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    "السودان يا غالي" للمخرجة التونسية هند المدب يحصد أفضل وثائقي في مهرجان بغداد السينمائي    أول لقاء علني بعد الخلاف.. تأبين الناشط اليميني كيرك يجمع ترامب وماسك    عاجل: التيارات الباردة تدخل من طبرقة وعين دراهم.. بداية الاضطرابات الجوية    من برلين إلى لندن: الطيران الأوروبي في قبضة هجوم سيبراني    السينما التونسية تتألّق في مهرجان بغداد السينمائي... التتويج    الاستاذ سفيان بلحاج محمد رئيسا جديدا للفرع الجهوي للمحامين بتونس    قضية حاوية المخدرات بميناء رادس.. الاحتفاظ بموظفة بشركة خاصة وموظف بالديوانة    البرتغال تعلن رسميا اعترافها بدولة فلسطين    آفاقها واعدة .. السياحة البديلة سند للوجهة التونسية    مع الشروق : الطباشير في عصر "شات جي بي تي"!    قابس...انطلاق الاستعدادات للموسم السياحي الصحراوي والواحي    حافلةُ الصينِ العظيمةُ    لأول مرة في تاريخها ...التلفزة التونسية تسعى إلى إنتاج 3 مسلسلات رمضانية    الصينيون يبتكرون غراء عظميا لمعالجة الكسور    بطولة افريقيا لكرة اليد للصغريات (الدور النهائي): المنتخب التونسي ينهزم امام نظيره المصري 21-33    بعد جولة أوروبية راقصون من فرقة باليه أوبرا تونس يقدمون عرض "كارمن دانسي"    بطولة انقلترا: ارسنال يختطف التعادل مع مانشستر سيتي 1-1    الملعب التونسي سنيم الموريتاني (2 0) انتصار هام ل«البقلاوة»    هل تعرف أيهما أخطر على الصحة... نقص الوزن أم زيادته؟    في اليوم عالمي للزهايمر: هذه توصيات وزارة الصحة    الدورة السادسة من تظاهرة "الخروج إلى المسرح" من 26 سبتمبر إلى 2 أكتوبر 2025    عاجل: ثلاثية نظيفة للترجي على القوات المسلحة وتقدم كبير نحو الدور الثاني!    الحوت الميت خطر على صحتك – الهيئة الوطنية تحذر    الشمال والوسط تحت الرعد: أمطار قوية تجي الليلة!    مشاركة 1500 عداء وعداءة في ماراطون بالمرسى عائداته مخصصة لمجابهة الانقطاع المدرسي المبكر    عاجل/ هيئة السلامة الصحية للمنتجات الغذائية تحذر من خطورة استهلاك هذه الأسماك..    كأس الكنفدرالية الإفريقية: النتائج الجزئية لذهاب الدور التمهيدي الأول    بطولة سان تروبيه الفرنسية للتحدي: التونسي معز الشرقي يحرز اللقب    وزير الخارجية يترأس الوفد التونسي في أشغال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة    أسطول الصمود :هيئة التسيير تكشف اخر المستجّدات    المراقبة الاقتصادية تحجز 55 طنا من الخضر والغلال ببرج شاكير والحرايرية    قلة النوم تهدد قلبك.. تعرف شنو يصير لضغط الدم!    تونس تشارك في مؤتمر التعاون الثقافي والسياحي الصيني العربي    بحسب التوقعات: تونس الكبرى وزغوان تحت الخطر...أمطار بين 60 و90 ملم!    أمطار الخريف ''غسالة النوادر''.. شنية أهميتها للزرع الكبير؟    عاجل- تذكير: آخر أجل لإيداع التصريح بالقسط الاحتياطي الثاني للأشخاص الطبيعيين يوم 25 سبتمبر 2025    الجمعية التونسية للطب الباطني تنظم لقاء افتراضيا حول متلازمة "شوغرن"    انتشال جثتي طفلين توفيا غرقا في قنال مجردة الوطن القبلي    سوسة: جلسة عمل لمتابعة وضعية شركة الألبان الصناعية بسيدي بوعلي    فيتنام بالمركز الأول في مسابقة إنترفيجن وقرغيزستان وقطر في المركزين الثاني والثالث    قريبا انطلاق أشغال مشروعي تهيئة الملعب البلدي بمنزل فارسي وصيانة المحولات الكهربائية بالملعب الاولمبي مصطفى بن جنات بالمنستير    عاجل: إيقاف اكثر من 20 ''هبّاط'' في تونس    بنزرت: تنفيذ اكثر من 80 عملية رقابية بجميع مداخل ومفترقات مدينة بنزرت وتوجيه وإعادة ضخ 22,6 طنا من الخضر والغلال    غدا الأحد: هذه المناطق من العالم على موعد مع كسوف جزئي للشمس    عاجل/ بشائر الأمطار بداية من هذا الموعد..    تكريم درة زروق في مهرجان بورسعيد السينمائي    السبت: أمطار متفرقة بالجنوب الشرقي وسحب عابرة    استراحة «الويكاند»    ما تفوتهاش: فضائل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة!    وخالق الناس بخلق حسن    يا توانسة: آخر أيام الصيف قُربت.. تعرف على الموعد بالضبط!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عَوَامِلُ التأثُّر والتأثير في العلاقات الثقافية بين الشرق والغرب:العرب والألمان
نشر في الفجر نيوز يوم 11 - 02 - 2008


عَوَامِلُ التأثُّر والتأثير في العلاقات
الثقافية بين الشرق والغرب:
العرب والألمان نموذجًا[2/2]

د. علي بن إبراهيم النملة 5/2/1429
11/02/2008
المسلمون الغربيون:
من العوامل الفاعلة في منحى التأثُر والتأثير وجود مسلمين ألمان لهم أثرهم في القيام بدور الوسيط بين الدولة الألمانية والرأي العام الألماني من ناحية، وبين المسلمين من ناحية أخرى، ويتمُّ ذلك من خلال تنظيم يقترحه المستشرق الألماني فريتس شتيبات ويقيمه المسلمون الألمان، بحيث يفضي إلى اعتراف الدولة بهم اعترافًا كاملاً(1). يذكر يورغن نيلسن في: المسلمون في أوروبَّا أنه كان للمسلمين الألمان «دور بارز في إرساء الإسلام تجاوز من بعيد الأدوار المماثلة التي اضطلع بها المسلمون في أيِّ دولة أوروبية أخرى»(2).
ويكاد يجمع من يؤرِّخون للوجود الإسلامي في الغرب على مسألة ضرورة التنظيم القانوني للمسلمين من خلال الجمعيات والاتِّحادات، في سبيل الاعتراف بهم من قبل الدولة، مع ما يعتري ذلك من هواجس الخوف من الإسلام، التي زادت حدَّتها في الآونة الأخيرة، بعد أحداث يوم الثلاثاء 22/6/1422ه الموافق 11/9/2001م(3). ولا عبرة لما تظهر به بعض الصحف المحلِّية من إطلاق عبارات استفزازية من بعض الشخصيات المحلِّية، في الحملات الانتخابية أو نحوها، في بعض الولايات تنضح بالعنصرية والعرقية، فهذه لازمة يصعب التخلُّص منها بسهولة. العبرة بالقوانين التي تحفظ لهذه الجماعات حقَّها في العيش الهانئ، دون الخروج على القوانين المرعية في الدولة الألمانية وضرورة احترامها والتماشي معها(4).
ويقدَِم صلاح عبدالرزَّاق جملة من الرؤى حول تأثير المفكِّرين الغربيين المسلمين، ومنهم المفكِّرون المسلمون الألمان، تسهم هذه الرؤى في تحسين الوجود الإسلامي في أوروبَّا، وتشارك في إيجاد مجتمع إنساني متجانس تجانُسًا واقعيًّا بعيدًا عن المثاليات الطُرُقية، بحيث لا يقتصر تأثير هذه الفئة على المجتمع المسلم، بل إنَّهم مطالبون بتقديم ما لديهم من حلول لمواقف آنية سياسية واجتماعية واقتصادية وتربوية هي بحاجة إلى الحلول الإسلامية، دون النزوع إلى جلد المجتمع الغربي ووصفه بما يصرف عن إمكانية التأثير فيه، ودون اتَّخاذ مواقف سلبية من ظاهرات تحتاج إلى الإسهام الإيجابي في التصدِّي لها من حكماء الأمَّة الغربية وعلمائها، المسلمين منهم وغير المسلمين.
يتأتَّى ذلك التأثير بعدَّة عوامل، تدخل في المفهوم الإسلامي: قال تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب" (المائدة: 2)، وليس من مفهوم بسط الوصاية على المسلمين الألمان أو غيرهم من المسلمين، فليسوا بحاجة إلى مثل هذه الوصاية. وهكذا يفهم بعض المسلمين في أوروبَّا أنَّ المسلمين في الشرق يرون أنهم هم أهلُ الإسلام، وبالتالي قصر فهم الدين عليهم. والحقُّ أنَّه يكثر العلماء المسلمون في الشرق، ولكنَّ هذا لا يلغي وجود علماء مسلمين في الغرب كذلك.
يأتي من هذه العوامل: الإنتاج العلمي في مجال الإسلاميات أو العلوم الإسلامية، علمًا وفكرًا، مما يقتضي التزيُّد من العلم بالإسلام وعلومه، والعودة إلى المصادر الإسلامية للتشريع والعلم والفقه، وفي قمَّتها القرآن الكريم وسنة المصطفى محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم- وكتب الأمَّهات في العقيدة والتشريع، والابتعاد عن الاجتهادات والتنظيرات الشخصية التي لا تقوم على قاعدة علمية صلبة(5)، والعمل على مأسسة الحراك الإسلامي في ألمانيا، واستخدام الإمكانات التقنية المتاحة، ونقل العلوم الإسلامية بالنقل والترجمة إلى اللغة الألمانية، والدخول في حوارات ومناظرات علمية موضوعية هادئة مع أترابهم علماء الكهنوت والاجتماع والسياسة والاستشراق والأنثروبولوجيا الغربيين(6).
الاستشراق:
النموذج الألماني:
تحفل الأدبيات العربية بالدراسات العميقة عن الاستشراق الألماني كما الاستشراقات الأخرى، مما يمكن أن يكوِّن موسوعةً جيدةً في هذا المجال، إذا ما قام أحد مراكز البحوث في إحدى البلاد العربية أو في ألمانيا، بنشر هذه الإسهامات كتبًا ومقالات، في عمل واحد، ويتمُّ تحريرها والتعليق عليها ببيان ما قد اعترى بعضها من أخطاء علمية أو منهجية. وعليه فإنَّ هذه الورقة لا تؤرِّخ للاستشراق الألماني بقدر ما تنظر إلى هذا الاستشراق على أنه عاملٌ مهمٌّ ومؤثِّرٌ في منحى التأثُّر والتأثير في العلاقة بين العرب والألمان. فقد تأثَّر الاستشراق الألماني أوَّلاً ثم أثَّر تاليًا. ولا يزال الاستشراق الألماني العميق يتأثَّر ويؤثِّر، رغم ما قد يقال إنه أصبح أثرًا من الماضي بفعل قلة الترجمات عن الألمانية، والتوجُّه إلى الاستشراق الفرنسي والإنجليزي في مجال الدراسات الجديدة عن "كلاسيكيات" الإسلام(7).
تتمثَّل هذه الوقفة مقولة جونتر شودل منذ أكثرَ من ثلاثةٍ وثلاثين عامًا: «ليس من السهل على المرء أنْ يقول أمام محفل من العلماء والمدركين بشؤون العلاقات بين الشرق والغرب ما هو جديد حول الارتباطات المتنوِّعة والإخصاب المتبادل بين هاتين المجموعتين الحضاريتين»(8). ويعدِّد شودل وجوه تأثُّر الألمان ثقافيًا بالعرب، معيدًا البدايات الحقيقة لهذا التأثُر بالترجمة المباشرة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة الألمانية سنة 1694م، عندما أصدر قسِّيس من هامبورج يدعى هينكلمان الطبعة الأولى، فأيقظ هينكلمان اهتمام الغرب بالإسلام والعرب(9)، وما قبل ذلك من اتِّصال بين الشرق والغرب، لاسيَّما في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين، فقد كان طابع الاتِّصال قد سيطرت عليه حروب الفرنجة أو الحروب الصليبية، التي انطلق بعضها من ألمانيا نفسها، وقد كان يخضع لرقابة شديدة من قبل الكنيسة. «ولم تظهر أبحاث الاستشراق الحرَّة إلا من خلال التغيُّرات الفكرية التي رافقت القرنين الخامس عشر والسادس عشر»(10).
انطلقت العلاقة بين الألمان والمسلمين استشراقيًا في القرن السادس عشر الميلادي عندما تحمَّس بعض المستشرقين الألمان وسعوا إلى تعليم اللغة العربية (ياكوب كريسمان 1554 1613م) بتأليف نبذة مختصرة لفنِّ الخطِّ العربي. ثمَّ عمدوا إلى ترجمة مخطوطات عربية في الفلك والطبِّ مباشرة أو عن العبرية إلى الألمانية، مثل كتب الفرغاني وأبي الفداء وأبي الحسومي ومختصر المجسطي في الفلك لبطليموس.
«إنَّ لقاءات العرب والألمان كانت على مدى اثني عشر قرنًا من الزمان متميِّزةً ومتأثِّرةً بشكل فريد من أشكال المشاركة الوجدانية ومشاعر الاستلطاف والودِّ. وما ذلك قطعًا دون سبب. فإننا في الحقيقة نجد في طبيعة كلٍّ من العرب والألمان بعض السجايا والسمات المتشابهة منذ العصور الوثنية وقبل أوَّل لقاء بينهما بزمن طويل؛ فبالرغم من الفروق العرقية لا يخفى هذا الانسجام الفريد وذلك الارتباط النادر الذي لا وجود له البتةَ في العلاقات بين الشعوب الأخرى. ولا تزال هذه السمات قائمة حتى الآن، ودون أنْ تطمس أو تنكر التراكيب العرقية والسلوك وأساليب الإدراك والوعي لدى كلٍّ من هذين الشعبين، فإننا نرى بالتأكيد أنَّ كلاهما قد طوَّر انطلاقًا من خالص طبيعته ودون أية مسالك مشتركة، بعض المفاهيم والنماذج السلوكية المتشابهة التي لا تتمتَّع بها كلُّ شعوب أوروبا ولا كلُّ شعوب المشرق؛ ناهيك عن أن تكون سماتٍ عاليةً أو إنسانيةً عامَّةً»(11).
لا يغفل مؤرِّخو الاستشراق الألماني جهود ألبرت الكبير (1193 1280م) وج. ج. رايسكه(12) (1716 1774م)، «أوَّل مستشرق ألماني جدير بالذكر في عصر مشغول عن العربية بالتوراة»(13). وفي المرحلة الثانية سعى بعض الرهبان إلى ترجمة الإنجيل إلى العربية «كي ينهل سكَّانه من (الدين الحقِّ) وليصدِّقوا بنور الإنجيل الصادق»(14). والواضح أنَّ الدافع لهذه الترجمة كان تنصيريًّا.
مما يميِّز الاستشراق الألماني أنه لم يخضع، كما خضعت الاستشراقات الأخرى، لغايات سياسية أو استعمارية أو دينية، ولم تكن الدراسات متَّصفة بروح عدائية، رغم وجود مستشرقين أتوا بآراء خاطئة تمامًا، مثل آراء تيودور نولدكه (1836 1930م) عن الشعر الجاهلي والقرآن الكريم، ومثل اتِّكاء بعض طلائع المستشرقين الألمان على الاستشراق الفرنسي ممثلاً في سلفستر دي ساسي (1758 1838م) (15)، ولكنَّها، على رأي صلاح الدين المنجِّد، آراء معدودة(16). هذا مع غلبة الروح العلمية والموضوعية في تقصِّي الحقائق والاهتمام بالقديم والتركيز على دراسة التراث العربي الإسلامي(17).
واقع الحال أنَّ هناك فئةً معتبرة من المستشرقين كانت لهم جهود واضحة في صناعة الوئام بين الثقافات، وكانوا وسائط لتعريف الغرب بالثقافة الإسلامية تحديدًا، من خلال الدراسات والبحوث والترجمة والنقل وحفظ التراث العربي الإسلامي وفهرسته وتصنيفه وترميم المعطوب منه. ولا ينبغي التغاضي عن هذه الجهود الواضحة، كما أنَّه لا ينبغي الالتفاف على هذه الجهود والحطُّ من قدرها(18)، والزعم بأنَّها لم تكن صادرة عن قصد نبيل، والزعم بأنَّ ما قام به المستشرقون من جهود موضوعية كان لخدمة أغراضهم الأخرى(19).
وإنْ وجد هذا الهاجس فقد تمخَّض عنه نفع للتراث المخدوم. يقول مُحَمَّد عوني عبدالرؤوف، وهو يترجم للمستشرق الألماني الشاعر فريدريش ريكرت: «واهتمَّ المستشرقون الإنجليز آنذاك أيضًا بعد احتلال كلكتَّا عام 1757، بعلوم الاستشراق اهتمامًا كبيرًا، فنشطت حركة الترجمة وحركة تحقيق النصوص الإسلامية والهندية القديمة، كي يعرفَ رجال الإدارة الإنجليزية طبيعة الشعب الذي يحكمونه وعقليته»(20).
مع هذه الروح العلمية والموضوعية والاهتمام بالتراث العربي الإسلامي إلاَّ أنَّ ساسي سالم الحاج لا يبرئ الاستشراق الألماني من النزعة السياسية والاستعمارية، فقد حيل بين الألمان والاستعمار، رغم محاولات قامت لاستعمار بعض البلدان في أفريقيا. ومع هذا لا يُغفل ساسي سالم الحاج جملة من الميزات للاستشراق الألماني تثبت أنه كان من عوامل التأثير الإيجابي في الثقافة الغربية عمومًا والثقافة الألمانية خصوصًا(21).
المراجع للأدبيات العربية التي تناولت نقد الاستشراق الألماني يجد التفاوت في الحكم عليه إيجابًا أو سلبًا، فالكتابات ذات الصبغة الإسلامية ترى أنَّ موقف الاستشراق الألماني من الخلافة العثمانية لم يكن إيجابيًا، لاسيَّما في القرن التاسع عشر الميلادي وانخراط السياسة الألمانية في المسألة الشرقية وموقفها من فلسطين ولبنان، وإنْ سعت ألمانيا في القرن العشرين إلى توظيف الإسلام في جلب دعم المسلمين، وإعلان الخليفة الجهاد ضدَّ أعدائها. أمَّا الكتابات ذات النزعة القومية فقد وظَّفت موقف الألمان من المسألة الشرقية والخلافة العثمانية لمصلحتها، وتناست موقف الألمان من فلسطين ولبنان، حينما كان فكرها يدعو إلى الاستقلال عن الخلافة العثمانية إلى درجة أنْ يعدَّها بعضهم شكلاً من أشكال الاستعمار(22).
الإشكالية في الذهنية الغربية في علاقتها مع الإسلام أنها عقلية لا تزال تستحضر حروب الفرنجة "الحروب الصليبية"، كلَّما قامت فتنة بين الشرق الإسلامي والغرب، فتُحدِّد بموجبها العلاقات المشتركة بين المسلمين والغربيين، كما يقول محمد أسد(23)، ويوافقه على هذا مراد هوفمان، ففي سبيل ترسيخ الكراهية أُريد لهذه العلاقة أنْ تقوم على معلومات مغلوطة عن الإسلام والمسلمين، لنشر الجهل بكل ما هو إسلامي، وحجب المعلومات الصحيحة، ونشر معلومات مغلوطة عن المسلمين(24).
المعلوم في تاريخ حروب الفرنجة كما سمَّاها المسلمون، الصليبية كما سمَّاها الغربيون، أنها اصطحبت معها على امتدادها لمئتي سنة (491 690ه الموافق 1089 1291م) المستشرقين الرحَّالة الذين كان لهم أثر في تصوير الشرق، إيجابًا أو سلبًا، من أمثال الرحَّالة فوشيه دو شارتر، وويلبراند الأولدنبوري، وثييتمار، وجيمس الفيتري، وبوركهارد، وبنيامين التطيلي، وغيرهم. وكان هؤلاء قد قدَّموا صورًا مشرقة عن التعايُش بين المسلمين وغير المسلمين في الحواضر الإسلامية(25)، رغم أنَّ بعض الرحَّالة المستشرقين، ومنهم رحَّالةٌ ألمان قد تأثَّروا بتلك الفترة التي غلبت عليها الصراعات فلم تكن تحمل شيئًا من الودِّ للعرب والإسلام، وتزخر بالغيرة على الأراضي المقدَّسة والخوف عليها من عبث الأيدي المعادية للمسيحية(26).ويستحضر هنا موقف الخليفة عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- عند دخوله كنيسة القيامة ورفضه الصلاة بها لئلا تتحوَّل إلى مسجد، ثمَّ إنه أزال القاذورات عنها بطرف ثوبه، فلم يكن هذا الفعل من عبث الأيدي المعادية للمسيحية.
يعني هذا التوكيد على عدم التعميم في مواقف المستشرق الواحد، ناهيك عن المستشرقين عمومًا، ففي هذا الجوِّ المشحون بالتحدِّي والعداوات والكراهية والحروب السجال يظهر مستشرقون الأصل فيهم أنَّهم مناصرون لبني قومهم في حملاتهم بفكرهم وعلمهم، وهكذا كانوا، إلا أنهم مع هذا لم يستطيعوا إغفال الواقع التعايُشي في تلك الحواضر الإسلامية.
مع هذا يبقى رهطٌ من المستشرقين عازفين عن هذا الأسلوب في طرح القضايا، وتظلُّ رؤاهم ثابتةً لا تؤثِّر بها الأحداث السياسية المتتالية، مما أوجد "تيَّارًا" من المستشرقين المتهجِّمين على المستشرقين ممَّن يزعمون أنهم على معرفة بالإسلام أو بالعرب(27). حتَّى أولئك المستشرقين الذين خدموا الاستعمار فإنَّه ينظر إلى بعضهم أنَّهم خدموا الإسلام أكثر من خدمتهم للاستعمار، فقد «كانوا علماء وفَّوا للبحث العلمي حقَّه ربَّما أكثر مما وفَّوا لخدمتهم للاستعمار. وانتهى الجانب السلبي من عملهم وبقي ما يمكن أنْ نسمِّيه الجانب الإيجابي»(28).
لا بُدَّ من التوكيد أنَّ هذا الهاجس محدود جدًّا في حال الاستشراق الألماني. والدراسات العربية وغير العربية العديدة التي تناولت نقد الاستشراق أثبتت ذلك بقدر عالٍ من التواتُر. مما يعني تقوية الصلة بالاستشراق الألماني دون سيطرة الهاجس التآمري على الإسلام والمسلمين من قبل هؤلاء المستشرقين، وإنْ وجد ذلك عند بعض المستشرقين، وهو احتمال قائم، فإنه يُتعامل معه على أنه حال منعزلة لا تحتمل التعميم على الاسنشراق الألماني كلِّه.
هذه ميزة من ميزات الاستشراق الألماني تؤيِّد الدعوة إلى استمرار الدراسات الاستشراقية العلمية، مهما اعتراها من هنات لا بُدَّ من تفهُّمها مع ردِّها وعدم الموافقة عليها من علماء الإسلام والفكر الإسلامي، فهذا المجال من الدراسات لا يخلو من الهفوات، نظرًا لأنَّ المستشرقين لا ينتمون للثقافة التي يدرسونها، بالإضافة إلى افتقار بعضهم إلى إجادة اللغة العربية التي جاءت بها الثقافة الإسلامية، ومن ثمَّ اتِّكاء بعض المستشرقين المتأخِّرين على إسهامات أساتذتهم السابقين.
|1|2|
--------------------------------------------------------------------------------
(1) انظر: نحو تنظيم موحَّد للمسلمين في ألمانيا. ص 115 117. في: فريتس شتيبات. الإسلام شريكًا: دراسات عن الإسلام والمسلمين. مرجع سابق. 206 ص.
(2) انظر: يورغن نيلسن. المسلمون في أوروبَّا/ ترجمة وليد شميط. بيروت: دار الساقي، 2005م. ص 53 76.
(3) انظر: ستيفان لاثيون. الإسلام والمسلمون في أوروبا المعاصرة. 2005م. (بالفرنسية). نقلاً عن: رضوان السيِّد. أوروبَّا المعاصرة والإسلام. التسامُح. ع 13 (شتاء 1427ه/2006م). ص 315 326.
(4) انظر: مراد هوفمان. الإسلام في الألفية الثالثة: ديانة في صعود. مرجع سابق. ص 252 258.
(5) يعمد بعض الذين يعتنقون الإسلام إلى الاستعجال في فهم الإسلام فهمًا شموليًّا، وبالتالي نراهم يتعجَّلون في إطلاق أحكام على الإسلام لا تقوم على قاعدة علمية راسخة، وقد تأخُذ منحىً تشدُّديًّا أو عكس ذلك. والمعروف لدينا أنَّ هذا الدين علم.
(6) انظر: صلاح عبدالرزَّاق. المفكِّرون الغربيون المسلمون: دوافع اعتناقهم الإسلام. مرجع سابق. 2: 283 406.
(7) انظر: رضوان السيِّد. تأثيرات المستشرقين الألمان في البحوث الأكاديمية العربية. التسامُح. ع 8 (خريف 1425ه/2004م).، ص 245 252.
(8) انظر: جونتر شودل. التبادُل الثقافي بين ألمانيا والعالم العربي. ص 103 113. والنصُّ من ص 103. في: مصطفى ماهر، معدّ. حوار بين الألمان والعرب: سجلُّ الأسبوع الثقافي العربي الألماني الذي أقيم في (توبينجن) عام 1974م. القاهرة: الهيئة المصرية العامَّة للكتاب، 1976م. 306 ص.
(9) انظر: جونتر شودل. التبادُل الثقافي بين ألمانيا والعالم العربي. ص 103 113. في: مصطفى ماهر، معدّ. حوار بين الألمان والعرب: سجلُّ الأسبوع الثقافي العربي الألماني الذي أقيم في (توبينجن) عام 1974م. المرجع السابق. 306 ص.
(10) انظر: جونتر شودل. التبادُل الثقافي بين ألمانيا والعالم العربي. ص 103 113. والنصُّ من ص 104. في: مصطفى ماهر، معدّ. حوار بين الألمان والعرب: سجلُّ الأسبوع الثقافي العربي الألماني الذي أقيم في (توبينجن) عام 1974م. المرجع السابق. 306 ص.
(11) انظر: زيغريد هونكه. التوجُّه الأوروبِّي إلى العرب والإسلام حقيقة قادمة وقدر محتوم/ ترجمة هاني صالح. تقديم إسماعيل مروَّة. بيروت: مؤسَّسة الإيمان، 1419ه/1998م. ص 285.
(12) انظر: يحيى مراد. معجم أسماء المستشرقين. بيروت: دار الكتب العلمية، 1425ه/2004م. ص 55 61.
(13) انظر: نجيب العقيقي. المستشرقون: موسوعة في تراث العرب، مع تراجم المستشرقين ودراساتهم عنه منذ ألف عام حتَّى اليوم. 3 مج. ط 4. القاهرة: دار المعارف، 1980م. 2: 354 355.
(14) انظر: يوهان فوك. تاريخ حركة الاستشراق: الدراسات العربية والإسلامية في أوروبَّأ حتَّى بداية القرن العشرين/ نقله عن الألمانية عمر لطفي العالم. ط 2. بيروت: دار المدار الإسلامي، 2001م. ص 55 57.
(15) انظر: أحمد حسن عبدالسلام. تاريخ الاستشراق الألماني. الفكر العربي. مج 5 ع 31 (كانون الثاني (يناير آذار (مارس) 1983م. ص 188 202.
(16) انظر: صلاح الدين المنجِّد. الاستشراق الألماني في ماضيه ومستقبله. ص 80 88. في: مصطفى ماهر، معدّ. حوار بين الألمان والعرب: سجلُّ الأسبوع الثقافي العربي الألماني الذي أقيم في (توبينجن) عام 1974م. مرجع سابق. 306 ص.
(17) انظر: ميشال جحا. الدراسات العربية والإسلامية في أوروبَّا. بيروت: معهد الإنماء العربي، 1981م.
(18) انظر: السيد مُحَمَّد الشاهد. الاستشراق ومنهجية النقد عند المسلمين المعاصرين. الاجتهاد. ع 22 (شتاء العام 1414ه/ 1994م). ص 191 211.
(19) انظر: يحيى مراد. معجم أسماء المستشرقين. مرجع سابق. ص 55 61.
(20) انظر: مُحَمَّد عوني عبدالرؤوف. فردريش ريكرت: عاشق الأدب العربي. ط 2. بيروت: مكتبة الآداب، 2006م. ص 20.
(21) انظر: خصائص الدراسات الاسشتراقية في ألمانيا. 1: 129 146. في: ساسي سالم الحاج. نقد الخطاب الاستشراقي: الظاهرة الاستشراقية وأثرها في الدراسات الإسلامية. 2 مج. بيروت: دار المدار الإسلامي، 2002م.
(22) انظر: عبدالرؤوف سنُّو. الألمان والإسلام في القرنين التاسع عشر والعشرين. بيروت: الفرات، 2007م.
(23) انظر: صلاح عبدالرزَّاق. المفكِّرون الغربيون المسلمون: دوافع اعتناقهم الإسلام. مرجع سابق. 2: 264.
(24) انظر: مراد هوفمان. الإسلام في الألفية الثالثة: ديانة في صعود. مرجع سابق. ص 70.
(25) انظر: قاسم عبده قاسم. ماهية الحروب الصليبية. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1410ه/1990. ص 200 201. (سلسلة عالم المعرفة؛ 149).
(26) انظر: محمد علي حشيشو. الرحَّالة الألمان إلى البلاد العربية. ص 79 92. في: صلاح الدين المنجِّد. المستشرقون الألمان: تراجمهم وما أسهموا به في الدراسات العربية. بيروت: دار الكتاب الجديد، 1982م. 192 ص.
(27) انظر: سمير قصير. تعليق/ ترجمة محمد صبح. ص 107 113. في: يوسف كرباج ومنفرد كروب، مشرفان. تأمُّلات في الشرق. مرجع سابق. 140 ص.
(28) انظر: عبدالكريم غلاَّب. العرض التمهيدي. ص 17 36. والنصُّ من ص 36. في: المغرب في الدراسات الاستشراقية. مرجع سابق. 229 ص.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.