لا شك لدي في أن ما قامت به المجموعات المنسوبة إلى حركة النهضة المعروفة برابطات حماية الثورة، من إفساد لاحتفالية ذكرى استشهاد الزعيم النقابي هذه السنة هو عمل وضع تلك الحركة في مأزق سياسي حقيقي لا يمكن نكرانه إلا أن يكون ذلك العمل أُريد به النتيجة التي وصل إليها وهي خلق تصدع عميق في البلاد هي أبعد ما تكون حاجتها إليه في هذا الظرف التاريخي الصعب والمعقد، قد يعود بنا لا شاء الله إلى نزعة الانقسامات الحادة والصفوف العنيفة التي انتشرت معها رائحة الدم في كل مكان في زمن الباشية والحسينية أو في زمن البورقيبية واليوسفية بقطع النظر عمن هو المخطئ ومن هو صاحب الحق. إن رابطات حماية الثورة التي لا تتبناها حركة النهضة علنيا ورسميا ولكنها تستميت في الدفاع عن سلوكها السياسي وعن دورها في حماية الثورة ودفعها إلى تطهير البلاد على حد تعبير قيادات الحركة في مناسبات كثيرة، هي من حيث تدري النهضة أو لا تدري، أو هي ترغب في ذلك أو لا ترغب باتت محسوبة على الفعل السياسي النهضوي وشكلت امتدادا له. لست ميالا للغلو لأنكر -كما يحلو لغيري- أن تلك الرابطات التي هي الصيغة المتأخرة من مجالس حماية الثورة التي نشأت كإفراز طبيعي لأطر شعبية احتاجها الشعب يوم 14 جانفي 2011 لتعويض الفراغ الأمني الذي حصل بسبب هروب الرئيس السابق وانهيار المنظومة الأمنية آنذاك جزئيا أو كليا. وهي لا تختلف كثيرا عن الصيرورة التي انتهى إليها مركزيا مجلس حماية الثورة الذي تشكل آنذاك من مجموع الأحزاب والتنظيمات السياسية "الثورية" لما كانت تلك الصفة ترمز إلى مقاومة نظام بن علي بما في ذلك حركة النهضة الإسلامية قبل أن يصيبها الصدأ الذي هو الضريبة الطبيعية لممارسة الحكم، بمشاركة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان تحت خيمة الاتحاد العام التونسي للشغل. لقد انتهى ذلك المسار إلى الانقلاب على مجلس حماية الثورة في صيغته الثورية والشعبية من قبل حكومة الباجي قائد السبسي وحولته إلى ما عُرف لاحقا بهيئة تحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي فبقي من بقي وأُقصي من أُقصي وقاطع من قاطع تلك الهيئة مما أفقدها المصداقية التي كان يتمتع بها المجلس القديم بعد أن سيطر عليها لون سياسي بعينه حولها إلى ورشة للتدرب البرلماني ووضع التشريعات لكوادره معتقدا أن نصيبهم من التأسيسي سيكون هو نفسه في تلك الهيئة. لم يختلف الأمر كثيرا من الناحية الشكلية بالنسبة لمجالس حماية الثورة محليا وجهويا بعد أن تسارعت وتيرة بعثها حتى تحولت إلى موضة سياسية.وقد استحالت تلك المجالس من ظاهرة عفوية تشارك فيها مختلف القوى السياسية والمدنية في المدن والقرى والأرياف هدفها توفير الأمن للمواطنين بعد أن لعبت دورا مركزيا في اعتصامي القصبة الأول والثاني وفي مختلف الاعتصامات الجهوية الموازية، إلى تنظيم يتمتع بقيادة مركزية وبفروع جهوية ومحلية اكتسب الصبغة القانونية وفق القانون المنظم للجمعيات بعد أن أُقيمت له جلسات عامة تأسيسية أفرزت في غالبها مكاتب إشراف أو هيئات تنفيذية لها لون سياسي نهضوي أو هي قريبة من النهضة بما في ذلك هيئتها القيادية على المستوى الوطني وقد أدى ذلك إلى انسحاب صامت من قبل بقية الألوان السياسية من ذلك التنظيم بسبب عجز الكثير منها على تولي مناصب قيادية خاصة وأن عمليات الانتخاب والفرز تمت في فترة المد النهضوي الذي سبق الانتخابات ومكن حركة النهضة من تصدر المشهد السياسي في تونس، ودون أن يكون ذلك عائقا أمام تسرب بعض المنتمين إلى هياكل النظام السابق لجزء من تلك الهيئات في إطار البحث على الحماية أو التموقع في المشهد السياسي الجديد. إن التذكير بالصيرورة التي انتهت إليها " التنظيمات الثورية"التي تلا ظهورها سقوط نظام بن علي والتي لم تستطع أن تحافظ على حياديتها تجاه الفرقاء السياسيين بسبب العطش والتصحر السياسيين اللذان عرفتهما تونس قبل 14 جانفي مما أدى إلى ضعف في الخبرة الديمقراطية، يهدف إلى تبيان تنامي نزعة الأدلجة والتحزب والتقوقع المفرط والقاتل لكل روح للعيش المشترك الذي تقتضيه ضرورات الانتماء إلى البلد الواحد . ووفق تلك النزعة يتحول المنافس والخصم السياسي إلى مجرد عدو لا بد من التخلص منه مهما اقتضى الأمر. ومن مقتضيات الموضوعية القول أن تلك النزعة المقيتة القاتلة غير مقتصرة على أنصار حركة النهضة أو الكثير منهم ومن قياداتهم وإنما تشمل نشطاء مختلف الأحزاب السياسية وحتى القيادات التي لم تقبل بما أفرزته الانتخابات الأخيرة من نتائج دون أن تعلن ذلك. ولا أفهم سلوك رابطات حماية الثورة ومجمل النهضاويين بالتوجه إلى الاتحاد في يوم عرسه ورفع الشعارات المناوئة له حتى وإن لم يفرز ذلك أحداث عنف كما جرى إلا ضمن سياق استبطان الكره السياسي وفشل التكيف مع المشهد المتعدد الديمقراطي والرغبة في التخلص من هذا الآخر الذي يعطل سياسات الحكومة ويؤلب عليها الناس حسب اعتقاد من ذهبوا للاحتفال في البطحاء التاريخية في ذكرى اليوم المشهود وهم يضمرون إفساد تلك المناسبة بأقل الوسائل إذا افترضنا حسن النية وهي رفع الشعارات المناوئة. سيقول أنصار الرابطات إن الاتحاد هو ملك ورأسمال رمزي مشترك وأن حشاد هو رمز وطني للجميع ولكن هذا الكلام مردود عليه لأن الرابطات لم تظهر في شكل فرادى وإنما ظهرت كجماعة منظمة شديدة التنظيم وكان يمكن لها أن تطلب من قيادة صاحب الشأن وهو الاتحاد تشريكها في الاحتفالية وإذا هو رفض ذلك أن تقيم احتفالها الخاص في مكان آخر يمكن أن يكون ضريح الزعيم الشهيد في القصبة نفسها. لكن ضعف الثقافة الديمقراطية والالتزام بالأجندة الحزبية لحركة النهضة أو لأحد تياراتها المؤثرة المنعوت بالمتشددين من قبل الرابطات التي لم يعد خافيا على أحد لونها الإسلامي الغالب قد دفع بالأنصار إلى تلك المعركة الخاسرة التي تحيل مرّة جديدة على غياب الحكمة السياسية لمن خطط لها أو نفذها حتى وان نجحت في تكريس تقسيم البلد إلى فسطاطين فكيف تقنع حركة النهضة نفسها بتصنيف الاتحاد في خانة الفسطاط المناوئ وتجعل منه قوة احتياطية لدعم منافسيها وشدّ أزر معارضيها الذين تشتد شوكتهم يوما بعد يوم، إن هذا لعمري لا يسلكه إلا غشيم. هناك مقولة كثيرا ما يرددها اليساريون ويبدو أنهم يلتزمون بها أكثر من غيرهم وهي أن القلاع الحصينة لا تفتك إلا من الداخل. وهذه المقولة هي الأنسب في رأيي بالنسبة للنقابيين "الإسلاميين" الذين يرغبون في أخذ مكان في المشهد النقابي المرتبط بالاتحاد العام التونسي للشغل. وهذا يتطلب العمل الهادئ الطويل النفس والبعيد عن الممارسات النقابية الغوغائية أو ذات الطبيعة الانقلابية كما يصفهم بعض غرمائهم السياسيين والنقابيين من اليساريين والقوميين. أما إذا هم أرادوا حرق المراحل والتعويض عمّا فاتهم من السنوات العجاف فيمكنهم الالتحاق بإحدى المنظمات النقابية الفتية التي لطالما اشتكى أصحبها من نكران الاعتراف بهم وتطعيمها بالقوة البشرية التي تمكنها من التحول من اتحادات ناشئة محدودة الفعل إلى ذات وزن، كما يمكن لهم إذا لم تعجبهم كافة التشكيلات النقابية الموجودة تأسيس منظمة نقابية جديدة وذلك على "الأرضية الثورية" الجديدة التي باتت تسمح بالتعدد النقابي على غرار التعدد السياسي. ورغم هول الواقعة التي عرفتها بطحاء محمد علي بالنسبة للنقابيين وأثرها في نفوسهم فإن ما انتهوا إليه من أن الظرف السياسي والحدث المؤلم شبيه بسنة 1978 ولذلك هم أعلنوا الإضراب العام كخيار أخير، نقول لهم بموضوعية الباحث وليس بأنانية السياسي وعاطفيته لا يمكن مقارنة حدث الاعتداء بأي حال من الأحوال بما عاشته الحركة النقابية سنة 1978 أو حتى سنة 1984 فحجم الاعتداء آنذاك أكبر من أن يوصف وحجم التضحيات لا تقل كثيرا عما قدمته الثورة التونسية والانتهاك بلغ مداه باحتلال الميليشيات الدستورية لأغلب مقرات الاتحاد بما فيها مقره المركزي بالعاصمة وامتلأت السجون بالنقابيين وأقيمت مؤتمرات صورية أنجزتها العصابات الدستورية لما كانت قيادة الاتحاد في السجن وتجرأت السلطة آنذاك على الاتحاد فقسمته إلى اثنين سنة 1984 ووضعت رجالها "النقابيين الشرفاء" على الاتحاد الثاني المعروف بالاتحاد الوطني للشغل. وفوق كل ذلك تحول العمل النقابي إلى عمل سري بداية من سنة 1978 في واقع أصبحت فيه الدولة ذات طابع بوليسي قمعي صرف، قبل أن يقع ترميم العمل النقابي وتوحيد الاتحاد من جديد في مؤتمر سوسة. وبالتالي فإن التهويل الذي نشاهده اليوم لا يخدم الاتحاد الذي هو خيمة كل القوى السياسية والنقابية والمدنية وهو رمز النضال التاريخي ضد الاستعمار والاستبداد وسيبقى كذلك بقطع النظر عن سياساته ومواقفه وتغيرات توازنات القوة في داخله من فترة تاريخية إلى أخرى وبين هذه المجموعة أو تلك، ففي المنظمة النقابية تتعايش كافة الألوان والاتجاهات. وقد أعطت المنظمة النقابية المثال على وحدة التونسيين رغم اختلافاتهم وحتى تناقضاتهم ولا نبالغ بالقول إن الاتحاد العام التونسي للشغل هو تونس مصغرة. لكن بالتوازي مع ذلك لا بد من الإقرار بأن الغلو قد يتسرب إلى سلوك قادة المنظمة النقابية أو جزء منهم كما ظهر قبل ذلك في مواقف بعض القيادات النهضوية مما قد يؤدي إلى ما لا يحمد عقباه، لأن العنف والدم سريع الالتهاب لكنه عصي عن الانطفاء. فلا تأخذكم العزة بالإثم أيها السادة القادة في النهضة والاتحاد العام التونسي للشغل.