أذكر أنّي لمّا كنت قائدا لسريّة قتال أو لمّا كنت مدرّبا فيما بعد لمجموعة ضبّاط الصفّ أو مجموعة الضبّاط، كنت أصرف الكثير من الوقت لتحسيس المرؤوس الصغير - تحوّطا - بألّا يمنعه أحد من الاتّصال بي مباشرة لإيصال مظلمة لم يتمكّن مَن هم دوني من الإنصاف فيها أو كانوا هم - لا سمح الله - أبطالها!... واعلم أيّها المسؤول حيثما كنت أنّه لا غرابة في أن يكون مَن هم دونك – والوا أم بعدوا - سبب البلايا والرّزايا، وأنّ ذلك - إن حصل - يكون سبب الكثير من المفاسد. حتّى لتجد مَن يُجبر أبناءنا من الجنود على الانحراف الأخلاقي كي ينجيه من عقوبة يقنعه بأنّه يستطيع تسليطها عليه... يوقعه بتهديدها بأقساها وهي الحرمان من الخروج بعد انقضاء المدّة القانونية (فقد كان يمكن الإبقاء مدّة تقرّر بعد المدّة القانونية كنوع من العقاب الاستثنائي)، فيتهالك في دنيا الرّذيلة!... فإن لم يقم المسؤول بحماية مرؤوسيه الصغار بتجرئتهم على الوقوف في وجه الانحرافات، باتت المجموعة بين مستغِلّ ومستغَلّ، وعمّ الخبث فهلك الجميع صالهم وطالحم!... أحسب أنّ هذه الأجواء وهذه التصرّفات لا يخلو منها ميدان ولا ينجو منها إنسان، إلّا إذا سمت قيمنا وكملت أخلاقنا وسرنا على طريق الحقّ والهدى، وبتنا نخشى الرّقيب! وعليه فقد كان يجب على الوزراء - الذين أذكّر بأنّي نصحت ذات يوم بالتقليل من عددهم في الحكومة "المؤقّتة" كي لا تُحارَب بهم الحكومة وإن كانت مؤقّتة - أن يبدأوا منذ اليوم الأوّل بتطهير وزارات ورثوها عن واحد من أفسد خلق الله، زين العابدين بن علي، الذي ثار ضدّه وضدّ أجهزته الشعب التونسي الذي شعر متأخّرا وبعد عشرات السنين بما ظلّ يلاقيه على امتداد تلك السنين فصيل منه من ظلم وحرمان كبيرين... كان يمكن لوزير الدّاخليّة مثلا أن يستعين بأناس وطنيين طردوا من الخدمة لعدم انسجامهم مع التغيير "المبارك"، يُرجعهم لأعمالهم ويتعرّف بهم على زوايا الوزارة المظلمة ثمّ يضيئها بهم فيسير دون كثير خوف من ألغام كانت قد زرعت هنا وهناك، ولكنّه لم يفعل وأحاط نفسه بأيادي قد تكون قضمها أصحابها تغيّظا عليه!... وكان يجب عليه وعلى غيره من الوزراء أيضا مراجعة كلّ التعليمات الإداريّة، فإنّ قديمها ما كان أبدا خادما للتونسيين وما كان سالما من الفساد وإنعاش المفسدين... ثمّ كان عليهم بعد ذلك التأمين وإجراءاته أن يُحدِثوا بإنجازاتهم الفوارقَ، فيجعلوا الأفواه تلهج بسيرهم، تتحدّث عن زهدهم وعدالتهم وخوفهم من الشبهات وهروبهم منها!... كان عليهم أن ينبذوا السلوك القديم، فلا يستمرؤوا مبيتا في نزل أو أكلا في مطعم أو حفلا في مرقص أو سفرا إلى الجريد وقت جني التمور وآخر إلى الساحل عند جني الزيتون وثالث إلى سويسرا لتخزين حبّات العيون!... كان عليهم أن يتثبّتوا في كلّ شيء حتّى لا تكتب في حقّهم الفواتير الصادمة، أسانيد "المدافعين" عن الشعب، وحتّى لا يقذفوا أو يقذف بهم أقاربهم... كان عليهم أن يكونوا صارمين في تعليماتهم وتوصياتهم دقيقين في اختيار أفرادهم للمهمّات التي هي مهمّاتهم حتّى لا تقتل امرأة - كما حصل اليوم في دوّار هيشر – باسم الدّفاع عن النّفس ضدّ من لم تثبت الأبحاث أنّه اعتدى على النّفس. فليس من المسؤوليّة استسهال الرّصاص يُرمى دون ضابط على من أجرم ومن لم يُجرم، وليس ذلك من حسن التكوين والتدريب ولا كفاءة الأعوان. بل ولن يكون ذلك إلّا عنوان اللامسؤوليّة وعدم الكفاءة، ورسالة جدّ سلبيّة عن بلد لا يحسن "أمنها" المحافظة على أرواح من ائتمنوهم... وحتّى لا "ينتحر" رقيب أوّل – حسب إفادة النّاطق الرّسمي باسم وزارة الدّفاع – بوسائل وجدت بصورة "عفويّة" في مكان البحث والتحرّي، فما هكذا يتحوّط الأمنيون لل"إرهابيين" زمن ما بعد الثورة!... لو نظرنا إلى النتائج لوجدناها أكثر سوادا من لو ابتعد بعض أهلنا عن الوزارات في بلد ينقم فيه "النّاس" على الإسلاميين حتّى ما يروا لهم حقّا في الحياة ناهيك عن أن يكونوا فاعلين فيها، فإنّ ابن علي الهارب ما ساد إلّا بهم وما أفسد إلّا بفسادهم وما أوجد عبدة الشياطين والأمّهات العازبات إلّا بتفانيهم ورغبتهم في ذلك!... وأتساءل: بمَ أكون قد خدمتُ تونس والإسلام إذا جعلت النّاس - مكيدة أو جهلا - ينقمون بي على الإسلام!!!... ألم يكن يسعني البقاء في المعارضة، أصلح بمقاومة الفساد والفاسدين بدل أن أصنّف اليوم من "الفاسدين"!!!! إنّه ليعزّ عليّ أن أرى أهلي - وهم يحاولون العمل بإخلاص من أجل البلاد والعباد - يصبحون وقود المجلّات والصحف والفضائيات، يغذّيها بهم التافهون ممّن قلّ أو انعدم حياؤهم وتعاظمت جرأتهم على الله تعالى ثمّ عليهم... وإنّه ليحزنني أن أرى من الإسلاميين من يصطفّ بانضباط أبلهٍ متخلّف وراء الشائعات يناصر مجانا نافثي الكره والبغضاء!... وإنّه ليؤلمني أن أقول كلاما في وقت اصطفّ فيه الكثير من الوطنيين الصادقين محاولين إطفاء النّار التي لو أذكيت - لا سمح الله - لأكلت الأخضر واليابس... ولكنّي أبقى على يقين أنّه لن يصلح الشأن التونسي إلّا بإصلاح هؤلاء الرّاكضين وراء إشقاء غيرهم من أبناء بلدهم خدمة لأجندات خارجيّة لا تغيب عنها بصمات الصهيونيّة!... ويظلّ السؤال عالقا: بمَ يتحقّق الإصلاح؟ وعندي أنّه يكون بالإقناع فإن لم نستطع فبتطبيق القانون بصرامة استثنائيّة يصير بها الخائن بارّا ببلده وأهله!... حفظ الله البلاد وألهم أهلها مراشد أمورهم!... والله من وراء القصد