- الدّيموقراطيّة كنظام سياسيّ ، كآليّات وفكر وثقافة ، تقوم على مبدإ التّنافس بين مختلف قوى المجتمع وحساسيّته . والتّنافس الإيجابيّ في الحياة السّياسيّة يشترط القدرة على التّنافس أوّلا – جماهيريّا ومادّيّا وتنظيميّا - ، ويفترض الإيمان بقواعد اللّعبة والتّسليم بآليّاتها ونتائجها .. الواقع في بلداننا العربيّة له خصوصيّة أخرى ، مكوّنات الثّقافة العربيّة الإسلاميّة ، مع نمط العيش البدويّ العشائريّ ، كلّ ذلك جعل المركّب النّفسيّ والذّهنيّ العربيّ لا يتقبّل بسهولة النّظريّات الوافدة إليه ممّا وراء البحار ... كما ارتبطت هذه النّظريّات بثقافة الكولونياليّة الّتي عانت منها شعوبنا طويلا ، وصار معتنقوها في اللاّوعي الجماعيّ وكلاء للمستعمر ... لذلك ظلّ الفكر اليساريّ فكرا نخبويّا حبيس التّشكيلات المنفصمة ، ولم يستطع أن يقدّم نفسه كرفيق حقيقيّ للإنسان العربيّ في محناته اليوميّة ، كما ظلّ الفكر اللّيبيراليّ بشكله العلمانيّ الفجّ ، مجرّد عُصاب نخبويّ بعيد عن النّزوع الثّقافيّ للإنسان العربيّ إلى استشعار البعد الدّينيّ في كلّ مناحي حياته ... ففكرة الحرام والحلال تبقى هي المحدّد الرّئيسيّ لمختلف ما يأتيه العربيّ من سلوك ، بقطع النّظر عن مدى التزامه أو تحلّله من ممارسة الشّعائر الدّينيّة ... كلّ هذا – وغيره كثير – جعل الحركات والأحزاب السّياسيّة الإسلاميّة هي الأقدر على الوصول إلى عصب الاستجابة لدى الإنسان العربيّ ، لأنّها تعبّر عن ثقافته وتركيبته ، وحتّى عقده وكوامنه وغرائزه ... كيف ينعكس ذلك على واقعنا السياسي ؟؟؟ الحقيقة أنّه بمجرّد انقشاع غبار الثورة في تونس ومصر ، بدأ الاحتكام إلى آليّات الدّيموقراطيّة لتحديد وزن كلّ طرف على ساحة الفعل السّياسيّ ... وهنا اصطدم العلمانيّون العرب ( ولا أقول الدّيموقراطيّين ) اصطدموا بحقيقة طالما تغاضوا عنها أيّام الدّيكتاتوريّة و تعاموا عن مواجهتها : حقيقة أنّهم لا يمثّلون شيئا يذكر في اعتبار النّاخب العربيّ ، جاءت النّتائج الصّفريّة في كلّ من تونس ومصر لتعكس صدمة الواقع ، وتكسر الشّرط الأهمّ في أيّة حياة سياسيّة ديموقراطيّة ، وهو القدرة على المنافسة ... وبالعودة إلى طبيعة هذه الأحزاب القائمة على فكر نخبويّ متعال بطبعه ، فكر يعتبر الإنسان العربيّ قاصرا عن مناقشة نظريّاته ، بل هو مجرّد وعاء أقصى ما يطمح إليه أن يستوعب أفكاره ويعكسها ... يضاف إلى ذلك يأسها من القدرة – في المنظور القريب ووفقا لآليّات الدّيموقراطيّة – يأسها من إحراز أيّ موقع فاعل في الانتخابات ... كلّ هذا جعل هذه الأحزاب تدرك أنّها لا تستطيع أن تعيش أو تفعل إلاّ في شروط الاستبداد ... الدّيموقراطيّة تحجّمها وتقزّمها وتجعلها مجرّد لاعب صفريّ لا أمل له في المنافسة الحقيقيّة والتّداول المؤسّسي على السّلطة ... عندما يكون لدينا مثل هذا الاختلال الفادح في موازين القوى الحزبيّة ، ينتج اليأس من العمليّة الدّيموقراطيّة ، وتصبح بعض أحزاب المعارضة كلابا مسعورة ووحوشا عمياء تضرب بالمخالب والأنياب والأظلاف ... وتصبح السّاحة السياسية غابة ( ديموقراطية) ، تستباح فيها كلّ قيم التّعايش المشترك ، فنرى من بعض المعارضات العربيّة ما نراه اليوم : تدمير ممنهج للمصالح الحيويّة للبلاد وتعطيل للخدمات العموميّة وتآمر على الدّولة في سبيل إسقاط الحاكم الشّرعيّ ومتاجرة بالأزمات وترهيب إعلاميّ على مدار السّاعة وافتعال معارك وبطولات وهميّة وتبرير للانقلاب على خيارات الشّعوب وتيئيس وتثبيط و دعوات لإسقاط كلّ المؤسّسات الشّرعيّة في البلاد ... باختصار : سعي محموم للانقلاب على الدّيموقراطيّة لأنّ هذه الأحزاب لا تستطيع أن تعيش إلاّ في عباءة الاستبداد وبعد إقصاء القوى الحقيقيّة في المجتمع ... للأسف ... أوّل دروس الدّيموقراطيّة في بلدان الرّبيع العربيّ كان قاسيا جدّا : كنّا نواجه الوحوش السّاديّة في السّلطة ، فصرنا نعاني وحوشا من نوع آخر في المعارضة .... لاديموقراطيّة بدون توازن حقيقيّ بين القوى الفاعلة داخل المجتمع السياسي ، وفي ظلّ هذا الغياب ، سنظلّ نمارس الديموقراطيّة بنفس آليّات الاستبداد وثقافته ... ******************* عبد اللّطيف علوي