في هذا المقال يصف الدكتور و الباحث سامي براهم بعضا من الجهل و المغالطات و حتى الكذب الذي يمارسه عبد المجيد الشرفي (أو « مفكر بن علي » كما يُلَقّبْ) في محاضراته أمام طلبته في الجامعة التونسية. لكم أن « تتذوقوا » هذا المقال الرائع و الذي في نظري لا يعد ردا علميا فحسب على عبد المجيد الشرفي، بل هو دواء له حتى يبرأ من إقحام آراءه الخاصة و عداوته مع الإسلام في محاضراته التي كان يجب أن تكون علمية و بيداغوجية فحسب ... لا دمغجة لعقول طلبته. إليكم المقال كاملا : إنتاج الجهل في عصر العلم بقلم سامي ابراهم واكبت اليوم الجمعة 11 أكتوبر 2013 الدّرس الافتتاحي للسنة الدّراسيّة 2013 / 2014 بكليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس الذي قدّمه الدّكتور عبد المجيد الشّرفي أستاذ الحضارة العربيّة بقسم اللغة والآداب العربيّة سابقا وكان الدّرس الذي واكبه جمع من الأساتذة والطلبة بعنوان إنتاج الجهل في عصر العلم. وفي تعريفه للجهل في ما يتعلّق بتدريس الفكر الإسلامي حصره الأستاذ المحاضر في تقديم العلم الجزئيّ المبتور. وتجوّل بنا بين مسائل عقائديّة وأخرى تعبّديّة وأخرى تتعلّق بالمعاملات والسّلوكات. وعدّد جملة من الأمثلة التي تدلّ على تأويليّة القرآن في مسائل يتوهّم المؤمنون قطعيتها من قبيل إلزاميّة أداء الصّوم في مقابل تخيير من يطيقونه بين أدائه وبين إطعام المساكين واعتبر أنّ الصّوم لا يتلاءم مع المجتمعات الصناعيّة حيث يستحيل النّوم بالنّهار والعمل بالليل كما كان عليه الأمر في المجتمعات الزراعيّة التي فرض فيها الصّوم ومسألة الخمار التي تقتصر على تغطية فتحة الصّدر والمهر الذي ينتمي لمجتمع ذكوريّ وهو عبارة عن عقد شراء للمرأة وكذلك مسألة العدّة الخاصّة بالمرأة دون الرّجل والتي لم يعد لها من معنى مع تقدّم العلم الحديث الكفيل بإثبات الحمل بعد وفاة الزّوج مباشرة حيث لم تعد المرأة تحتاج للاعتداد لإثبات براءة الرّحم فانتفت علّة العدّة. كما اعتبر الأحاديث النبويّة أداة استعملت لإضفاء الصفة الدّينيّة على المؤسّسات النّاشئة وتكريس قيم اجتماعيّة تمييزيّة أبويّة قبليّة لا صلة لها بالدّين واعتبر الإجماع لم يتحقّق قطّ بين المسلمين كما اعتبر تدريس علم أصول الفقه خالقا للجهل والازدواجيّة والفصام بين الواقع الرّاهن والمثال الأعلى الطّوباوي المرتبط بأنماط الانتاج القديمة ومستوى المعرفة الوسيطة. وكلّ هذه المسائل وغيرها والأمثلة التي أوردها في الدّرس الافتتاحي سبق أن تناولها الأستاذ عبد المجيد الشّرفي كتبه باستفاضة ودرّسها لأجيال من الطّلبة والباحثين مشدّدا على الحسّ النّقدي والبعد التّاريخي والتّأويليّ البشري الاجتهادي للنّصوص التّأسيسيّة وكلّ ما نشأ حولها من معارف. قد نوافق الأستاذ الشرفي في بعض تلك الاستنتاجات ونختلف معه في بعضها أو في مقدّماتها وأسسها المنهجيّة مع إيماننا الرّاسخ بالحقّ في التفكير والتّاويل والتعبير والحريّات الأكاديميّة وعدم الحجر على الفكر وترسيخ تقاليد المحاورة واحترام الحقّ في الاختلاف. لقد انتقد أستاذنا في نهاية درسه الافتتاحي منع العلم عن العامّة واستشهد بقول الإمام مالك إذا منع العلم عن العامّة فلا خير فيه للخاصّة » واعتبر أنّ المدرسة عليها أن تبلّغ المعلومات بأمانة وأن تصدع بالحقيقة كاملة حيث الجهل المركّب ينشأ عن الضنّ بالعلم على غير أهله وكتمانه دونهم وتركهم يعيشون في أوهام المسلّمات التي صاغها أصحاب المصالح لتثبيت سلطتهم وضمان دوام مصالحهم. وإن كنّا نقرّ أستاذنا على هذه النّوايا المنهجيّة الطيّبة فإنّنا ندعو إلى اختبار الكثير من التّأويلات والنتائج الإطلاقيّة في ضوء ما دعا إليه هو نفسه من نبذ المسلّمات والعلم الجزئي المبتور والمعلومات المنقوصة وعدم القدرة على التّفكير الحرّ وعدم استقلال الشخصيّة المعرفيّة والارتهان لسلطة علماء الفترة الوسيطة وكلّ صاحب سلطة معرفيّة. ونلخّص كلّ ذلك في قاعدة منهجيّة ذهبيّة صاغها المتكلمون قديما حيث قالوا: حكمك على الشّيء فرع عن تصوّره وفي هذا السّياق نريد أن نتفاعل مع أستاذنا من منطلق التّحاور المعرفي والمثاقفة لا المحاجّة والمناكفة وتعميق النّظر والتفّكير لا الإفحام والتّبكيت. وقد تخيّرنا ممّا ذكره في درسه الافتتاحيّ من أمثلة ما أورده من شواهد تؤكّد: تاريخيّة أنصبة الإرث، حيث استشهد من القرآن بأوضاع تنصّص على فرائض لا تسعها التّركة أي غير قابلة للتّطبيق » القسمة » إلا بنوع من الحيل الفقهيّة والاحتيال على حدّ تعبيره ممّا أثار استخفاف بعض الحاضرين ونكتفي بذكر أحدها: - إذا مات رجلٌ وترك ثلاث بنات وزوجة وأبا وأمّا، * نصيب البنات = ثلثا التركة استناداً للآية : (فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ). * نصيب الأب والأمّ = السدس لكلّ واحد منهما = ثلث التركة استنادا للآية ( وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ). * نصيب الزّوجة = الثّمن استنادا للآية (فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ). .. مجموع الحصص مع توحيد مقامات الكسور = الثّلثان للبنات ويساوي 16/24 + الثّلث للوالدين ويساوي 8/24 + الثمن للزّوجة ويساوي 3/24 = مجموع ذلك 27/24 أي ما يفوق التّركة ولا يقبل القسمة. أي لو ترك المتوفّى 1000 دينار لاحتاج القاضي ل 1125 دينار ليوزعها عليهم حسب الأنصبة المنصوص عليها في لفظ الآية. واعتبر أستاذنا هذا المثال وغيره من الأمثلة المشابهة في أحكام الإرث دالا على أنّ هذه الآيات التي تنصّ على الأنصبة هي في الأصل قضايا ظرفيّة لم يقصد منها التّشريع اللانهائيّ ولا يمكن أن تفهم خارج التّاريخ وإلاّ كان ذلك تكريسا للجهل وإنتاجا لملايين الشّباب الذين يتوهّمون أنّهم يعرفون دينهم وأحكامه ولكن في الحقيقة يجهلون أنّ ما يعلمونه جزء من الحقيقة مقطوع عن أبعاده والرّهانات التي كانت وراءه. وقد كان أحرى بالأستاذ عبد المجيد الشّرفي أن ينقل لنا كامل الحقيقة أي » الاحتيال » على حدّ تعبيره الذي استعمله الفقهاء لتلافي هذا « الخطأ الحسابي » في نصّ القرآن وكيف فهموه وفسّروه وعلّلوه. خاصّة وأنّ المسألة معلومة لدى المفسّرين والفقهاء وعلماء الفرائض والقضاة وأهل الفتوى وتناولوها ضمن مسألة ( العول والردّ ) وهي معتمدة في تقسيم أنصبة الإرث منذ 14 قرنا إلى اليوم في كلّ الأنظمة القانونيّة للدّول العربيّة والإسلاميّة حتّى نتبيّن وجاهتها وأصالتها من عدمها. فما هو تأويل هذه النّسب الموجودة في القرآن ؟ يشير الكثير من علماء الفريضة أنّ القرآن نصّص على مقدار الأنصبة ولم ينصّص على أنّ مجموعها يجب أن يساوي الواحد الصّحيح 1/1 سواء في الزّيادة » العول » أو النّقصان » الردّ « . فلو أنّ صاحب التّركة المذكور في المثال الذي اختاره أستاذنا خلّف وارثا منفردا مع عدم وجود عاصب، فهل يُكتفى بإعطائه النّصيب المفروض له ؟ أم يضاف إليه باقي التّركة ردّا لعدم وجود وارثين آخرين أو عاصبين ؟ ممّا يدلّ على أنّ الأنصبة المنصوصة في الآيات هي لتحديد المقدار المستحقّ من التّركة لكلّ وارث ومقدار ذلك بالنسبة لبقيّة الورثة في حالتي الزيادة والنّقصان كما في الردّ والعول لذلك يزيد النّصيب وينقص عن المفروض بحسب مجموع التّركة لا بحسب مقدار الأنصبة الأصليّة المحدّدة ابتداء او ما يسمّى بمقدار » أصل السّهام « . ممّا يعني أن الورثة يستوون في سبب الاستحقاق وقد يختلفون في مقداره فيُعطوا عند التّضايق حكم الحصة في كامل التّركة لا الحصّة المنصوصة بعينها وهو ما أشار إليه ابن العربي في أحكام القرآن. ويسمي علماء الفرائض هذا النوع من المسائل ب « العَوْل » ومعناه عندهم زيادة في مجموع السهام المفروضة ونقص في أنصبة الورثة، أي أن يجتمع من السهام عدد أكبر من أصل المسألة. وفصلوا في هذه المسألة على نحو يقع فيه تنقيص نصيب كلّ واحد من الورثة بمقدار ما حصل به العول في المسألة لتحقيق العدل بينهم. وأوّل مرّة طرحت فيها هذه الوضعيّة كانت في خلافة عمر بن الخطّاب وهو أوّل من حكم بها قياسا على الدّيون التي تفوق التّركة، وتفصيل المسالة أنّ امرأة خلّفت زوجا وأختين، فقال عمر: فرض الله للزوج النّصف وللأختين الثلثين، فإن بدأت بالزّوج لم يبق للأختين من حقهما، وإن بدأت بالأختين لم يبق للزوج حقه، فاستشار الصّحابة في ذلك، فأشاروا عليه بالعَوْل، وقاسوا ذلك على الديون إذا كانت أكثر من التركة، فإن التركة تقسم عليها بالحصص، ويدخل النّقص على الجميع. وحتى نعود إلى المثال الذي أورده الأستاذ عبد المجيد الشّرفي ليؤكّد على تاريخيّة أنصبة المواريث. استنادا إلى وضعيّة العول نعرض الطّريقة التي ارتآها الصّحابة ومن بعدهم العلماء لحسم المسألة. يتم توزيع التركة على الورثة على النّحو التّالي: لا يمكن أن يحصل كلّ وارث سهمه كاملاً لأنّ التركة لا تفي بالقسمة ممّا يقتضي إنقاص نصيب كل وارث بمقدار ما حصل من العول في المسألة. فبدلاً من تقسيم التركة إلى 24 جزءاً متساوية، يتم تقسيمها إلى 27 جزءاً متساوياً، وهو مجموع سهام الورثة. فيكون التقسيم النهائي للمسألة: للبنات : 16/27 لكلّ واحد من الأبوين 4/27 للزوجة : 3/ 27 المجموع : 27/27 فيدخل بذلك النقص على سهام جميع الورثة لتحقيق العدل بالتّناسب مع مقدار الأنصبة الأصليّة أو أصل السّهام. وهي مسائل محدودة ومضبوطة في علم الفرائض بدقّة رياضيّة متناهية من خلال تحديد الأصول التي تعول كما يضبطها جهاز اصطلاحي يفصّل كلّ حالة ويفردها بما تتعلّق به من أحكام بل إنّ هذه المسألة كانت تلقى لدى طلبة العلم متعة عندما يُمتحنون فيها. وهذا التّحليل الذي أوردناه لا يعني أنّ كلّ تفاصيل علم المواريث ودقائقه توقيفيّة منصوص عليها لفظيّا بل العديد من المسائل استنتاجيّة احتاجت إلى عقول فذّة تفهم أسرارها وتحسن تنزيلها وإن كانت تعود في أصولها إلى ألفاظ النصّ ولم يمنع هذا الضّبط الاختلاف في تأويلها حيث يرفض الشّيعة العول ربّما لأنه اجتهاد وقع في عهد عمر بن الخطّاب وارتأوا شكلا آخر من التقسيم لا يحقّق التساوي التناسبي في الأنصبة بحسب المقادير المنصوصة. وقد كنّا أسلفنا أنّ القصد من هذا التفاعل الحواري ليس إقامة الحجّة أو التبكيت والإفحام بقدر تعميق المعارف المحيطة بالمسائل المثيرة للجدل والخلاف والالتباس لنقض ما نشأ حولها من مسلّمات قديمة أو حديثة على حدّ سواء. ولمناهضة ما دعا له أستاذنا من انتاج للجهل في عصر العلم.