السيد المبروك الفجرنيوز:ليسوا أناساً عاديين، بل هُم من أبدعوا في الذود عن شعبهم وأرضهم، وخاضوا معركة "الفرقان" فقدموا أرواحهم رخيصة واستبسلوا في أكثر مناطق الرباط التي احتدمت فيها المعارك شمال قطاع غزة، تلك المنطقة التي عاث فيها مجرمو الصهاينة فسادا، وأثخنوا في أهلها وأطفالها ونسائها قتلا وتشريدا..بيد أن كتائب القسام كانت لهم بالمرصاد، وردت كيدهم، وصدت زحفهم، "صحيفة فلسطين" التقت باثنين من أسود الشمال، الذين تقدّموا صفوف المرابطين منذ أول أيام المعركة . دقّة التنفيذ لقاء شيّق بلغة بسيطة تخللتها مصطلحات عسكرية كان مع "أبو طلحة" وهو قائد ميداني في كتائب القسام في وحدة الهندسة، ونفّذ مع ثلاثة من مقاومي الشمال "كمين" للقوات المتواجدة شرق معسكر جباليا في المعركة، وقاد مجموعة مقاومين مكونة من 14 مجاهداً، وتنقّل بين نقطتي رباط يطلقون عليهما "جبل أحد" و"برمودا"، تحدّث بتواضع:"كان لدينا في نفس المجموعة رجال من جميع الوحدات، ومراسل نقوم بإرساله إلى المجاهدين لتسليمهم السلاح والذخيرة، وتجلت أهمية عمله عند انقطاع الاتصال عن طريق الجوال". وأضاف:"لم نعتمد في هذه المعركة على سلاحنا أو عتادنا، بل على الله عز وجل، ومن ثم بالسلاح الذي أعددناه وكانت معنوياتنا عالية، والجميع أصرّ على أن يخرج منتصراً ويكسر شوكة الاحتلال في غزة، وليعلمه بأن القطاع أصبح عصياً عليه"، وكانت هذه المعاني مغروسة لدى جنود القسام إلا أن تصريحات القادة ووجودهم في الميدان زاد من إصرارهم"، موضحاً أن إدارتهم للمعركة خضعت للقرارات الميدانية من القيادة العسكرية، التي تواصلت بشكل مستمر مع غرفة العمليات التي أعدتها كتائب القسام، ولم يكن هناك مجال للتصرفات الارتجالية. المقاومة استغلت المدّة الزمنية الفاصلة بين أول أيام الحرب التي بدأت بالضربات الجوية والاجتياح البري للقطاع وهي "أسبوع"، فاستوعبت هذه الضربة قبل بدء الاجتياح البري عندما بدأ الهجوم على المقرات العسكرية والمساجد، فعمَدت إلى تحسين الخطة الدفاعية المعدة مسبقاً، وإعداد رجال المقاومة وتوزيعهم كل حسب الخطة. ورغم صعوبة التحرّك كان لكل مجموعة أساليبها في التواصل مع القيادة سواء في الاتصال اللاسلكي أو عبر المراسل، "وكان لدينا اجتماعات في مناطق بعيدة عن الخطة الدفاعية لضمان سلامة الأخوة المجاهدين في هذا الاجتماع". ورسم ابتسامة على وجهه قبل أن يقول:"كنّا نرقب تقدّمات العدو في جبل الكاشف، وكان الشباب بفضل الله يحملون العبوات ويسيرون بها أسفل الطيران ولم يصابوا بأذى، وكانت عناية الله تحفّهم"، مشيراً إلى أن بعضهم كانوا يخرجون من خلف خطوط العدو، وبين الآليات العسكرية، ويختفون بسرعة أدخلت الذعر في نفسه. وكما يقال "رب ضارة نافعة" فطبيعة المعركة والطيران الكثيف، دعا المقاومين لاكتساب مهارات وخبرات جديدة، حيث ابتكروا أساليب عدة في الإخفاء والتمويه، مما قلل حجم خسائرهم. حياة عشقوها! الشعور بالمسؤولية تجاه الشعب والأرض، كان له وقعه في نفس "أبو طلحة" وغيره من جنود القسّام، وعنه يقول:"أعلن العدو أن من ضمن أهدافه القضاء على حركة حماس وإضعاف قوة كتائب القسام، فأيقنّا بأننا سنمثل شعبنا الذي التف حولنا وساندنا ونصرنا، وهي أمانة عظيمة حافظنا على حملها، وكنا نستشعر بثقل هذه الأمانة التي حملنا إياها شعبنا علينا الشعب، فكانت الرِّيادة لنا في الذود عنه". وتابع يقول: "مضت أيام عجاف والمعركة تزداد ضراوة وتطول أيامها، فتنزلت سكينة الله تعالى على الجنود في الميدان، ورغم شدة المحنة، إلا أننا كنا نستشعر السكينة الإلهية في قلوبنا، فكان أحدنا يشعر بالخوف عندما يذهب إلى بيته أما حينما يكون في مواقع متقدمة من الرباط فلا خوف ولا وَجل فثبتنا في أماكننا، وحوّلنا تلك الأيام إلى حياة ممتعة من دون أن نتخلى عن الحيطة والحذر الشديدين". ولكن هذه المسؤولية التي تتحملها ألم تثقل كاهلك؟، سألته، فأجاب:"هذه أمانة صعبة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، قاطعته:"ولكن إذا قامت القيادة بتكليفك بمهمة قد لا تناسب تفاصيلها نهجك هل كنت تقبل أداءها؟، قال:"لا يمكن أن أخذلهم فعندما أرى أنني أستطيع القيام بها على أكمل وجه أخبرهم بذلك وألبي أوامرهم"، مبيناً أن الأمر يخضع للمشورة من خلال مجالس الشورى التي يناقشون فيها جميع مشاكلهم، ويطرحون المواضيع فيها، ويختارون المجاهدين للمهام حسب الإمكانيات، وتابع:"نحن بايعنا على الجهاد والاستشهاد، عندما يختارونا لمهمة عمل جهادي أو كمين فهذا أقصى ما نتمنى، وهذا ما نريده فسمعاً وطاعة لقيادتنا". وتطرّق "أبو طلحة" إلى أن موقعه كقائد ميداني في المعركة لما له من مشقة على النفس فرض عليه أن يكون في المقدمة قدوة لجنوده، وأن يحثهم ويصبرهم ويذكرهم بالنصر والثبات، مستشهداً بالأحاديث النبوية والآيات القرآنية الكريمة، سيّما عند فقدانهم لأحبّتهم خلال المعركة، وحرص على السريّة "وهي في كل الأحوال ضمن الكلمات التي أقولها للإخوة المجاهدين: إن هذه الحرب هي حرب معلومات وسريّة، علينا الحفاظ عليها حتى لا تذهب جهودنا أدراج الرياح، وقد ساعدتنا خلال الحرب". ولم يكتفِ بذلك فقد حرص خلال أيام المعركة على تفقّد جنوده، والربط على قلوبهم، حيث يقول:"عندما كنت أتنقل بين الجنود كانت معنوياتهم عالية حتى أن أحد المجاهدين الذي كان في رباطه، قُصف منزله ولم يخرج من الرباط، فذهبت إليه وقلت له: "بيتكم قصف..اذهب للاطمئنان على أهلك فرفض، حتى أرسلنا مجاهداً آخر ليحل مكانه، فغادر المكان". لحظات واختلفت معالم وجه "أبو طلحة" بعدما سألته عمّا إذا استشهد أي من مجموعته، وتحشرج صوته قليلاً ومضى يقول:"ارتقى واحد من مجموعتنا خارج الرباط، وحزنّا لفقدانه، فقد كان من خيرة الشباب وكان يوفق بين عمله والرباط، إلا أننا كنا نستشعر أننا سنفقد مجاهدين كثر في هذه الطريق، وقد نال الشهادة، وأقسمنا أن نثأر لدمائه". جحيم الغزاة تم اختياره مع ثلاثة مجاهدين لتنفيذ مهمة جهادية، وهي عبارة عن كمين عسكري للقوات الصهيونية المتوغلة شرق مخيم "جباليا" في اليوم الخامس عشر من الحرب، وجلسوا مع القيادة العسكرية التي أخبرتهم بأن العملية تتطلب أربعة مجاهدين، مجاهدَين من وحدة "الهندسة" ومجاهد من وحدة "الدروع"، وآخر من وحدة "المُشاة"، واطلعوا على تفاصيلها، وهي عبارة عن ممر وطريق للآليات التي تتوجه من الخط الفاصل نحو جبل الكاشف. ويرى أن القيادة العسكرية وُفّقت في اختيار منطقة الكمين، لأن العدو يستفيد من طبيعة المكان ولن يقوم بتجريفه، لأنه كان يشكل لها ساتراً عن المناطق السكنية، مشيراً إلى أن العملية كانت مخصصة لخطف جنود ولكن تم تغييرها وفقاً لتكتيكات القيادة. وقال:"خرجنا وكنّا ننوي انجاح هذا الكمين والاستشهاد في سبيل الله، وانطلقنا إلى منطقة الكمين ووصلنا إليها رغم الصعوبات التي كانت تواجهنا بسبب الطيران وبُعد المسافة، وكانت الخطورة فيه تكمن في أنه يتواجد في "بيّارة" خلف خطوط العدو، وبالتالي يستدعي الحيطة والحذر والتسلل، حتى نصل إليه بسلام، وكانت الآليات العسكرية تمر فيها وتتعرض لقصف من المدفعية وإطلاق نار من الآليات، فكنا نسلك طرقاً صعبة وتعاملنا معها ميدانياً وفق للتدريبات التي مارسناها والأدوات التي كانت بحوزتنا وهي بدائية نوعاً ما، وتمكنّا من الوصول"، لافتاً إلى أن استخدامهم لبعض الأساليب العسكرية ساعدهم في الوصول إليه. لحظات حَرجة وقد بقوا في هذا الكمين وهو عبارة عن منزل، منتظرين تعليمات وحدة الرصد بالتفجير، ويكمل: "فجلسنا فيه، ومضى اليوم الأول، والثاني وكانت الآليات العسكرية تمر بجانبنا لا تبعد عنا عشرة أمتار أو خمسة، وأكثر صعوبة كانت تواجهنا عندما يحل الظلام لأن إمكانياتنا محدودة ولكن الله عز وجل ربط على قلوبنا وثبتنا، وفي النهار كنا نتناوب على تلاوة القرآن الكريم، وفي الليل نستمع إلى تعليمات القيادة ووحدة الرصد عن طريق سماعة أذن لأننا على مقربة من الآليات العسكرية، ومن ثم تلقّينا معلومات من القيادة بأن هناك آليات تتقدم نحو جبل الكاشف مدعّمة بآليتين عسكريتين، ولا بد من تنفيذ الكمين فيهم. وأردف:"كان الوضع صعباً والآليات كانت تحيط بنا، وكانت الجرّافات تجرف في محيط المكان الذي تواجدنا فيه، وقمنا بتفجير العبوات وضرب الآلية الأولى بقذيفة p29 المتطورة والقادرة على اختراق اعتى أنواع الدروع تحصينا، ثم انسحبنا مع الشخص الرابع من الكمين بسلام، وأثناء عودتنا إلى مركز الانطلاق رأينا آلية عسكرية وكان بحوزتنا ثلاث قذائف مضادة للدروع، واتصلنا بالقيادة وأبلغناهم بأننا سنفجرها فوافقوا، وتم استهداف هذه الآلية بالقذائف". قنص الهدف الحنكة والفطنة العسكرية تجلّت عندما غيّر "أبو طلحة" والمقاومين الثلاثة خطة الانسحاب، فلم يرجعوا من نفس الطريق التي أتوا منها للكمين وذلك لتوخي الحذر، حيث يقول:" بحمد الله انسحبنا بطرقنا الخاصة عبر الجدران والأسلاك والزحوفات والحذر الشديد، ولم يصب أي منّا بأذى، وعندما انسحبنا بأمر القيادة العسكرية، مباشرة أبلغت القادة بتفاصيل الكمين حتى يتم الإعلان عن هذه العملية، وسميت ب"جحيم الغزاة". وقد اعترف العدو الصهيوني بمقتل قائد لواء المظليين في "جحيم الغزاة"، وبإصابة 9 جنود بينها اصابتان خطيرتن، وقد فقد العدو صوابه إثرها فتقدّمت الآليات بعد العملية مباشرة في منطقة "الشنطي" وجرّفت الأراضي الزراعية. ولفت بلهجة ثوريّة إلى أنه تمنى بعد انقضاء المعركة لو تمكّن أكثر من العدو، "مع أن المقاومة بفضل الله عز وجل تصدت له رغم شراستها، ورغم أنها كانت فاقت التوقعات"، معتبراً أن الهزيمة لحقت بالعدو بعد فشله في تحقيق أهدافه من الإطاحة بحركة حماس، وإسقاط المقاومة وتحرير الجندي الأسير "جلعاد شاليط"، وعدم إكماله لمراحله التي تحدث عنها، وذلك بفضل صمود المقاومة ودعم الناس لها. وتابع:"المقاومة استطاعت أن تكبح جماح هذه الحرب بثباتها في الميدان والتفاف الجماهير حولها، فلو لم تنتصر لقام العدو الصهيوني باجتياح كامل القطاع، إلا أنه بقي يراوح مكانه طيلة فترة الحرب، ولم يستطع التقدم وكانت هناك مقاومة فعلية، وبعد انتهاءها يعترف أن أشباح كانت تقاتل في قطاع غزة". كرامات إلهية! وفي تعليقه على ما ردده المواطنون عقب انتهاء الحرب عن العديد من الكرامات الالهية التي كانت تتنزل على المجاهدين في المعركة، تحدّث "ابو طلحة"عمّا حصل مع صديقه في المنزل المجاور لمكان رباطه، وقال:"أخبرني أنه وبينما كان مع مقاوم آخر في المنزل، كان يأخذ قسطاً من الراحة وانتظره حتى يفيق وينام بدلاً منه "شفتات"، ليغفو هو الآخر من شدة الإنهاك، ويغرق كلاهما في النوم، فجاءه أحد لا يعرفه، وقال له: اصحو من نومك، فاستيقظ وصديقه، فسأله، هل أنت الذي أيقظتني من النوم، فضحك الآخر: وقال: لا..كيف لي أن أيقظك وأنت من أيقظتني؟!، وشعر بأن المنزل سيلحق به الأذى، فجلسا في غرفة في زاوية المنزل، وبعد ذلك قصف المنزل المجاور للذي تواجد فيه، وتهدم المنزل كله إلا الغرفة التي كانا بها، وِأصيب أحدهم إصابة طفيفة". السريّة من قلب الشمال التقينا بأسد آخر تواجد خلال المعركة في نقطة رباط متقدمة تسمى "برمودا" على خط صلاح الدين في وحدة "الدروع".."أبو البراء" تحدّث ببساطة عن مشاركته في المعركة، وقال:"كان الرباط بشكل مستمر خلال فترة التهدئة، وتوقعنا عدواناً كبيراً بعد انتهاء التهدئة وكنّا مستعدين له ولكن لم نتخيل بأن يكون بهذه الصورة، ومنذ اليوم الأول للحرب والضربات الجويّة على قطاع غزة جهّزنا أنفسنا بسريّة، وانتشرنا في مواقعنا وفقاً لتكتيكات القيادة كل حسب منطقته وفقاً للخطة الدفاعية المقررة قبل الاجتياح..فاستهدف العدو بعض مواقع الرباط المعروفة وبحمد الله عندما تم الاجتياح البري كنّا جاهزين"، فالقسّام استخدم أكثر من أسلوب في المواجهة ومنها "الكمائن"، والأنفاق التي أعدّها قبل الحرب على غزة، وعمليات الالتفاف على القوات الصهيونية، الأمر الذي ساند المقاومين الذين كانوا على تواصل مع القيادة التي تواجدت في الميدان بسريّة. وبيّن أن المقاومين تلهّفوا لملاقاة عدوهم والإثخان فيه معتمدين على قوة إيمانهم، وعناية الله لهم، وما كان بحوزتهم من عتاد، وأضاف:"كنا نتوق لقتالهم، والجميع ثبت في المعركة حتى استطعنا أن نصد هذا العدوان الغاشم وكنا كلنا استشهاديين في هذه المعركة، وتمنى جميعنا لحظة الاستشهاد، وتوقعنا تلقى خبر استشهاد أي صديق أو أي حبيب لنا، وكان نبأ استشهادهم يعبّد طريقنا إلى مواجهة هذا الاحتلال والانتقام، والجميع يعلم أنه لا مجال للتخاذل أو التخلف في هذه المعركة حتى لو كان استشهد أي من أهله وذويه، حتى نصد العدوان عن أهلنا". وتحدّث "أبو البراء" عن الاشتباكات المباشرة التي شارك فيها في بعض المناطق مع جنود الاحتلال في الشمال، متطرقاً بشموخ إلى تفجير الآليات عن طريق الكمائن والعبوات الناسفة التي كانت مزروعة في الأرض التي كانت تدفع المقاومين للاستبسال، وكذلك الكمائن الميدانية مثل عملية "الواد" حيث تم الانقضاض على آليات العدو من خلف خطوط الآليات المتقدمة. شرسة بحق وبقوّة إيمان كانت الغالبة على حديثه، قال:"استخدم العدو كل ما يملك من قوة وأساليب في هذه الحرب الشرسة، وشعرنا بذلك خلال تصدينا له، على خلاف المعارك السابقة فلم يكن يستخدم فيها كل إمكاناته، وكانت خاطفة ولم تدم سوى لبضعة أيام، ولكن وبفضل الله كانت الاستعدادات جيدة وتم التعامل معها بحنكة"، مؤكداً أن الخطط الدفاعية التي كانت معدة من قبل كتائب القسام لم يتمكن العدو من ضربها، وأن ما تم استهدافه هو بعض مواقع رباط والمواقع الأمنية، أما الخطط السرية التي تم إعدادها مسبقاً لمواجهته في حال حدوث أي حرب من هذا النوع لم تتأثر بفضل الله عز وجل، "والدليل أن الصواريخ كانت تنطلق من بين آليات الاحتلال، وكان جنود القسام يخرجون من خلفهم". وختم أبو البراء حديثه بقوله: "انتصرت المقاومة لأنها قاتلت لتكون راية الإسلام خفاقة فوق ربوع العالمين، واستمدت ثقتها بالنصر من كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم)، وهو ما كنا نذكّر بعضنا به، فخلال المعركة كنّا نتحدث عن أجر الشهادة والجهاد في سبيل الله، مما ساعد في رفع معنوياتنا، وإثخاننا فيهم".