باحث تونسي مقيم في ألمانيا في هذا الجزء الأخير من هذا البحث نحاول عرض الجانب الميداني للعمل الدعوي من خلال ممارسة يوسف عليه السلام له ، مع تقديم أمثلة عن المواضيع التي يمكن أن تتكون مواضيع للحوار مع غير المسلمين. ثم نقرأ تجربة يوسف وهو على رأس الدولة ليس في جانبها التنموي الإقتصادي لأن هذا تم التعرّض له في الجزء الثاني من بحثنا وإنما في جانبها السياسي أساسا. ثم نقدّم في الخاتمة النتائج التي يمكن الخروج بها من تجربة يوسف عليه السلام وأهميتها للمهاجر المسلم. 1 المنهج العملي للدعوة أ التحبب إلى المدعو والرفق به "يَا صَاحِبَيْ السِّجْن" بعد التمهيد الرقيق اللّطيف واللّين يوجّه يوسف الحديث إلى الفتيين وهو يتخذ منهما صاحبين، ويتحبب إليهما هذه الصفة المؤنسة، ليدخل من هذا المدخل إلى صلب الدعوة وجسم العقيدة، وهو لا يدعوهما دعوة مباشرة وإنما يعرضها قضية موضوعية يمكن الحوار حولها. وهذا المنهج لم يكن خاصا بيوسف عليه السلام وإنّما هو سمة عامة وصفة ثابتة للقرآن الكريم وللدعوة الإسلامية. فالله سبحانه وتعالى عندما أرسل موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون أمرهما ان يجادلاه باللين والرفق "فَقُولاً لَهُ قَوْلاً ليّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى"1 ، كما أن إبراهيم كان يتحاور مع النمرود بكلّ موضوعية وحيادية في قضية خطيرة جدّا وهي الربوبية، "قَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّي الذِي يُحْيِي وَيُمِيت، قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيت"2 ولمّا تبيّن لإبراهيم عليه السلام أن مخاطبه لم يفهم مقصود الحوار أو أنّ لديه اختلالا في المفاهيم، إذ أن الملك يفهم من خلال إحياء الموتى قدرته على قتل من يشاء والعفو عمن يشاء، لم يغضب ولم يسخط وإنّما غير المنهجية إلى أسلوب أبسط يستطيع محاوره أن يفهمه، فقال : "فإنّ الله يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِب" عندها أفحمه إبراهيم عليه السلام وألزمه الحجة "فَبُهِتَ الَّذِي كفَر" كما أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يحاور قريشا ويخاطب من جاء يسفّهه بأحب الأسماء إليه قائلا :"أوقد فرغت يا أبا الوليد" ثمّ يتلوا عليه ما تيسّر من سورة فصّلت.3 ب إيراد البشرى والثّناء عليها وغضّ الطرف عن الزلّة أو الخبر المفزع "يَا صَاحِبَيْ السِّجْنِ أَمّا أحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا، وَأَمّا الآخَر فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ، قَضِيَ الأَمْرُ الذِّي فِيهِ تَسْتَفْتِيان" (يوسف، 41) جمعت هذه الآية الكريمة بين مجموعة من القواعد: 1 إيراد البشرى في البداية وهي هنا الخلاص والعودة إلى خدمة العزيز. 2 التلطّف في إيراد الخبر السّيء دون تعيين 3 الحسم في الحكم والثقة في العلم وبالتالي في النتيجة التي تحصل عنه، فالموضوع حسم بشكل لا يترك مجالا للجدل ولكن بطريقة ليّنة سلسة. هذه القواعد الثلاث جمعها قول المصطفي صلى الله عليه وسلم : بشروا ولا تنفّروا ، يسّروا ولا تعسّروا". وهذا هو حال الداعية في كلّ عصر وأوان فإنّه صبور ليّن المعشر، حسن اللفظ، يختار كلامه كما يختار أطيب الثمر فحتى عندما يرميه الناس بالحجر يرميهم بأطيب الثمر. ولكنّه حاسم وواضح وصريح لإنّه إذا استهزئ بالله وآياته لا يخوض مع الخائضين في هذا الحديث ولا يحاور في مثل هذه الأجواء. بل يهجر هذا الحوار ويبحث عن مكان آخر للحوار والدعوة. ج العفو الجميل الداعية ليس مطالبا بأن ينصّب محاكم للتفتيش لقطع الرؤوس ولا لإصدار بيانات الكفر وفتاوى القتل وإنما الداعية سائر على خطى الرسول صلّى الله عليه وسلّم رحمة للعالمين وهاديا إلى الصّراط المستقيم مثله مثل يوسف الذي جسّد ذلك على أحسن ما يكون فهو يعفو عن إخوته الذين كانوا السبب الظاهر في المصائب التي تعرّض لها "لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُم" ويعفو عن زوجة العزيز التي أمرت بسجنه رغم أنها اعترفت بكل وضوح بما نسب إليها "الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ"(يوسف، 51). وطابع الرحمة والعفو يظلل السورة من أوّلها إلى آخرها، فصور العفو ومشاهد السماحة تجدها في كلّ مشهد. فيعقوب عليه السلام عفا عن أبنائه برغم أنهم حرموه من فلذة كبده لسنين طويلة، كما أنّ بعضهم تطاول عليه وقال له "قَالُوا تَاللهِ إِنّكَ لَفِي ظَلاَلِكَ الْقَدِيم"(يوسف، 95) وهي كما قال ابن عباس لا تقال للأب، بعد كلّ ذلك يقول يعقوب "سَأَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي" وهو نفس المنهج الذي اعتمده الرسول صلى الله عليه وسلّم مع قريش بقوله "اذهبوا فأنتم الطلقاء". وقد قال الشاعر: سامح صديقك إن زلّت به قدم فليس يسلم إنسان من الزلل د الجدال بالتي أحسن: اللغة والدعوة تقودنا السورة إلى لطيفة أخرى قد يغفل عنها الداعية وهي اللغة والتعبير، فيوسف عليه السلام اختار خطابا تميزت لغته بالوضوح والدقة والبساطةكقوله "يَا صَاحِبَيْ السِّجْن"،وهي لغة تحبب تفتح أبوابا للصداقة والحوار، ثم عندما فقد صواع الملك نادى منادي يوسف "أَيَّتُهَا العِير إِنَّكُم لَسَارِقُونَ"(يوسف، 70) فلم يعمد إلى الخطاب المباشر الركيك الذي يحدث فجوة وقطيعة يصعب رتقها بعد ذلك. فلو قال المنادي "أيها اللصوص، قفوا مكانكم، أنتم موقوفون على ذمة التحقيق" ومعلوم وضع الإيقاف على ذمّة التحقيق في المجتمعات المعاصرة، فحتى بعض الدول الديمقراطية فشلت في احترام حقوق الإنسان في أول اختبار حقيقي لها، وما معتقل غوانتناموا “ الذي قرر الرئيس الأمريكي الجديد إغلاقه، وما حدث في سجن أبو غريب إلا خير دليل على ذلك. هذا الأدب الجم والخلق الرفيع كان مصاحبا ليوسف عليه السلام أينما حلّ. فهو يدعو زوجة العزيز التي تراوده عن نفسه إلى التعقّل والإتزان ويقول لها "قَالَ مَعَاذَ الله، إنّهُ رَبّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ، إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ"(يوسف، 23) يريد أن يثير فيها ما خفت من قيم وأعراف مجمع عليها في كل ثقافة وحضارة. ولم يتهمها بالخيانة ولم يقل لها كلاما جارحا. كما أنّ يوسف عليه السلام قال عند اجتماع شمله بوالديه وإخوته “وَقّدْ أَحْسنَ بِي إِذْ أَخْرَجّنِي مِنَ السِّجْن وَجَاءَ بِكُم مِنَ الْبَدْو” (يوسف، 100) فلم يقل يوسف عليه السلام “أخرجني من البئر” مثلا ولم يتعرّض لذلك وهذا أدب جم وخلق رفيع منه فهو لا يريد أن يفسد فرحة اللقاء. كما أنّه لم يتحدث عن الفقر الذي عليه أهله وإنما قال “جَاءَ بِكُمْ مِنَ البَدْو” ، ثم تحدث عن صفاء القلوب “مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي” وأعاد ما تعرض له من ابتلاء إلى كيد الشيطان ولم يحمّل إخوته أي مسؤولية. وهكذا تمثل اللغة قيمة هامة في الدعوة إذ هي الوسيلة والأداة المركزية التي يتم بها التخاطب مع الآخر وعن طريقها يستطيع الداعية أن يعبّر عن تصوّراته ومواقفه، وهو المنهج الذي دعى إليه القرآن الكريم دائما حيث أكّد على أهمية الكلمة في العملية الدعوية "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةُ طَيِّبَةٍ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا"(إبراهيم، 2425). ولقد قال رجل لهارون الرشيد أمير المؤمنين وهو بالطواف:"أريد أن أكلّمك بكلام فيه خشونة فاحتمله." فأجاب أمير المؤمنين:"لا ولا كرامة، فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شرّ مني فقال:"فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا". وما قال هارون الرشيد ذلك إلا عن علم بقيمة الكلمة وأثرها في النفس فهي بمثابة السلاح الفتّاك الذي إذا استعملت ذخيرته في غير الهدف المحدد لها دمّرت كل شيء. وتأسيس خطاب دعوي مواكب للعصر، محافظ على أصوله ومتوازن في مضمونه يجب أن يكون ديدن المسلمين في الغرب بحيث يستطيعون تأسيس الأرضية الأساسية للحوار. فنحن نعتقد أن للغة قوّة لا تمتلكها أعتى المؤسسات الأمنية والعسكرية، وهي أثبت وأدوم وأصلح من موقف الإنزواء والإنغلاق. فالتجربة أثبتت أنّ نتائج الإنزواء والإنغلاق الإنفجار مثلما ينفخ الإنسان في بالون فإنّه يتمطط ويتمطط ولكنه لا يقدر على المقاومة فينفجر، وأما اللّين المتسامح فإنه كالماء ينساب ويتسلل بهدوء ولو حاولت أن تقيم في وجهه الصخور العاتية، إلا أنّه على لينه يقطع الحجر الصلب. ولهذا فإنه على الداعية أن يتكلّم بلغة أهل البلاد ولا بد أن يتقنها ويتمّ تكوين دعاة هنا في أروبا وفي الغرب يخاطبون الناس بلغتهم كما فعل يوسف. وهنا لا بد أن نشجع الجهود التي يبذلها أفراد أو مؤسسات تعليمية تكوينية لتخريج الدعاة وللتعريف بالإسلام دينا وحضارة وتاريخا. ه المواضيع المشتركة التي يمكن التعاون فيها الوحدانية أو الألوهية : "ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمْ الله الوَاحِدُ القَهَّارُ"(يوسف، 39) وقد أشرنا إليها سابقا باعتبارها أساسا نظريا ومركزيا للداعية وهي أيضا يمكن أن تكون أهم مواضيع الحوار، والقرآن حافل بالحوارات في هذا المستوى وابرزها الحوار بين إبراهيم والنمروذ "إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيم رَبِّي الذِّي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ الله يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ"(البقرة، 258)، وحوار موسى عليه السلام مع فرعون ثم المناظرة مع السحرة الذين أسلموا في نهاية الحوار، ونوح مع قومه الذين دعاهم "ليلا ونهارا". القضايا السياسية والثقافية والإقتصادية : "قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنٍ الأَرْضِ" (يوسف، 55) وهذا الموضوع نعرضه هنا باعتباره من القضايا التي يمكن الحوار حولها والمساهمة فيها، أما كيف يمكن ممارسته عمليا فقد خصصنا له الفصل اللاحق أن شاء الله تعالى. قضايا الأخلاق والجريمة: "قَالَ مَعَاذَ الله، إنّهُ رَبّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ، إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ"(يوسف، 23) ثم بعد ذلك قول يوسف عليه السلام لرسول الملك "فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ"(يوسف، 50) ففي الآية الأولى يحاول يوسف عليه السلام أن يحيي في زوجة العزيز المبادئ والقيم الأخلاقية المتعارف عليها عند الجميع وهي عدم الخيانة، حتى للكافر غير المسلم، فيذكرها بأن العزيز أحسن إليه ومن تمام المروءة أن لا يخون المرء من أحسن إليه. وهنا نرى الجانب المرن واللين في الحوار. ويرى الإمام الفخر الرّازي أن الترتيب في هذه الآية كان "في غاية الحسن"4 ويفسّره كالتالي "وذلك لأن الإنقياد لأمر الله تعالى وتكليفه أهم الأشياء لكثرة إنعامه وألطافه في حق العبد فقوله 'مَعَاذَ الله' إشارة إلى أنّ حق الله تعالى يمنع عن هذا العمل، وأيضا حقوق الخلق واجبة الرعاية، فلمّا كان هذا الرجل قد أنعم في حقّي يقبح مقابلة إنعامه وإحسانه بالإساءة، وأيضا صون النفس عن الضرر واجب، وهذه اللذة لذّة قليلة يتبعها خزي في الدنيا وعذاب شديد في الآخرة، واللذة القليلة إذا لزمها ضرر شديد، فالعمل يقتضي تركها والإحتراز عنها فقوله ' إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ' إشارة إليه، فثبت أنّ هذه الجوابات الثلاث مرتّبة على أحسن وجوه الترتيب" وهكذا المسلم في كل عصر وزمان فالمسلم المقيم في ديار الغرب سواء كان مهاجرا للعمل ليحسن من وضعه المالي أو لأسباب سياسية كلاجئ يجد الأمان أو لطلب العلم. هذا المهاجر هو فعلا في دار عهد وميثاق ينطبق عليه حكم يوسف، ويجب عليه أن يردد شعار يوسف عليه السلام "مَعَاذَ الله" عن الزنا أو الخمر أو الجريمة أو العنف أو الإرهاب لأن ذلك هو ما استعاذ منه يوسف. فقط حاولنا صياغته بلغة عصرنا، فالآية ليست فقط في غاية "الحسن في الترتيب" وإنما في غاية الدقة في التعبير عن الأخلاق الإسلامية. وأما الآية الثانية ما بال النسوة فهنا يريد يوسف عليه السلام أن لا يخرج من السجن بعفو "رئاسي" ولكنّ تبقى التهمة عالقة به، وإنّما أراد يوسف عليه السلام أن يتم الفصل في هذه القضية ببراءة واضحة لأنها قضية أخلاقية لها تبعات إجتماعية خطيرة. ويوسف يريد أن تكون هذه القضية مفصولا فيها بإعتراف من الجميع، ويقرّ الجميع بأن الموضوع برمّته تم تلفيقه وأنه اتهم فيه ظلما وعدوانا. وفي المستويين من الحوار، الحوار مع زوجة العزيز ثم رفض الخروج من السجن حتى تثبت براءته، في كلا الحوارين كان هناك ثبات على المبدأ وهو عدم التلاعب والتساهل بالقضايا الأخلاقية ولكنّ ذلك لا يمنع من الحوار حولها والنقاش فيها. و المساهمة في إيجاد حلوم لقضايا علمية واقتصادية وغيرها لئن كان هذا العمل الدعوي في هذا المجال يقتصر على المتخصصين من ذوي الكفاءات العلمية العالية على طراز يوسف عندما حل المشكل العلمي لعصره في مستواه الإداري والإقتصادي فإن ذلك لا يمنعنا من الإشارة إليه في هذا العنصر ودعوة أهل الإختصاص من المسلمين ، رغم قلّتهم مع الأسف في المهجر، إلى بذل ما في وسعهم من الجهد في مجالات تخصصهم في العلوم الإنسانية والنفسية والإقتصادية وغيرها خاصة في فترة الأزمات المالية الحادة. 2 يوسف على رأس الدولة أو العملية السياسية الدولية نظرا لأن المسلم يعيش في واقع غير إسلامي يثار سؤال مهمّ وهو هل يجوز للداعية العمل لدى السلطان أو الحاكم الكافر وما الدليل على ذلك؟ الحديث عن دور المسلم وبقائه في الغرب ضمن ما عرف بفقه الأقليات الإسلامية لم يعد جديدا وهناك جهود بذلت في هذا المجال لعل أهمها جهود العلامة القرضاوي والشيخ مولوي وغيرهم ولكننا نحاول هنا بالإعتماد على هذا المنهج دراسة تجربة يوسف عليه السلام وربطها بواقع المهاجر في الغرب. تقدم لنا تجربة يوسف عليه السلام حلا حاسما لهذا الموضوع فطلب يوسف عليه السلام : " قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنٍ الأَرْضِ، إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيم"(يوسف، 55) قال الشوكاني : استدل بهذه الآية على أنه يجوز تولّي الأعمال من جهة السلطان الجائر بل الكافر لمن وثق من نفسه بالقيام بالحق"5. كما يعبر الأمام القرطبي عن نفس الفكرة بقوله: في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر، والسلطان الكافر، بشرط أن يعلم أنّه يفوّض إليه في فعل لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما شاء، وأمّا إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز ذلك. "ثمّ يناقش القرطبيّ رأي المعارضين لهذا الفهم يقول: "وقال قوم إنّ هذا كان ليوسف خاصّة، وهذا اليوم غير جائز" إلا أن القرطبي يعارض هذا الرأي ويؤكّد أن :" الأوّل أولى إذا كان على الشرط الذي ذكرناه. والله أعلم" بعد ذلك يورد أدلة الإمام الماوردي حول الموضوع :" قال الماوردي: فإن كان المولّى ظالما فقد اختلف الناس في جواز الولاية من قبله على قولين: أحدهما : جوازها إذا عمل بالحقّ فيما تقلّده ، لأنّ يوسف ولّى من قبل فرعون، ولأنّ الإعتبار في حقه بفعله لا بفعل غيره. الثاني : أنه لا يجوز ذلك، لما في تولّي الظّالمين بالمعونة لهم، وتزكيتهم بتقلّد أعمالهم، فأجاب من ذهب إلى هذا المذهب عن ولاية يوسف من قبل فرعون بجوابين: أحدهما أنّ فرعون يوسف كان صالحا، وإنّما الطاغي كان فرعون موسى. الثاني أنه نظر في أملاكه دون أعماله، فزالت عنه التبعة فيه. ثمّ يضيف الإمام الماوردي: والأصح من إطلاق هذين القولين أن يفصّل ما يتولاّه من جهة الظالم على ثلاثة أقسام : أحدها: ما يجوز لأهله فعله من غير اجتهاد في تنفيذه كالصدقات والزكوات، فيجوز تولّيه من جهة الظالم، لأنّ النص على مستحقّه قد أغنى عن الإجتهاد فيه، وجواز تفرّد أربابه به قد أغنى عن التقليد. والقسم الثاني: ما لا يجوز أن يتفرّدوا به ويلزم الإجتهاد في مصرفه كأموال الفيء، فلا يجوز تولّيه من جهة الظالم، لأنّه يتصرّف بغير حقّ، ويجتهد فيما لا يستحق. والقسم الثالث: ما يجوز أن يتولاه لأهله، وللإجتهاد فيه مدخل كالقضايا والأحكام، فعقد التقليد محلول، فإن كان النظر تنفيذا للحكم بين متراضيين، وتوسّط بين مجبورين جاز، وإن كان إلزام إجبار لم يجز."6 وبعد عرض هذه الآراء يبين القرطبي أنّ "يوسف طلب الولاية لأنّه علم انّه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم فرأى أنّ ذلك فرض متعيّن عليه فإنّه لم يكن هناك غيره، وهكذا الحكم اليوم، لو علم إنسان من نفسه أنّه يقوم بالحق في القضاء أو الحسبة ولم يكن هناك من يصلح ولا يقوم مقامه لتعيّن ذلك عليه، ووجب أن يتولاها ويسأل ذلك، ويخبر بصفاته التي يستحقها من العلم والكفاية وغير ذلك، كما قال يوسف عليه السلام، فأما لو كان هناك من يقوم بها ويصلح لها وعلم بذلك فالأولى ألاّ يطلب"7. وهذا الكلام ينطبق على تجربة المسلمين في مختلف المهاجر الأوروبية والذين يفتقدون إلى التمثيلية الحقيقية في البرلمانات أو حتى في مؤسسات المجتمع المدني، من نقابات ومجالس المدن والبرلمانات المحلية. وعزوف العديد من المسلمين عن المشاركة في انتخابات النقابات، التي تدافع عن العمال والمستضعفين، وكذلك في انتخابات المجالس البلدية التي تبلّغ صوت المسلمين إلى المسؤولين بشكل مباشر، حالة خطيرة، وعادة مَرَضِيَّةً سيئة. والمشاركة فيها أفضل وأجدى عندي من التصريحات الصحفية والتلفزية النادرة بطبيعتها والتي يتحدّث فيها أحد الممثّلين للمسلمين في قضية ما. وهذا بقدر ما يلفت نظر المشاهد إلى الحدث إلا انّ الصحافة والإعلام سرعان ما توجهه في خدمة سياسة معيّنة أو لتزكية طرف أو مسئول سياسي. كما أنّ المسلمين يجب أن يشاركوا في الندوات الثقافية أو الجلسات الحوارية التي تجمع بين ممثلين للأديان وللثقافات وتضمّ وجوها بارزة في الدولة أو المجتمع المدني يمكن التعرّف عليها وربط علاقات معها ودعوتها للتعرف أكثر على المسلمين. خلاصات ونتائج وهكذا نخلص إلى القول أنّ مفهوم العلاقة مع الآخر محكوم بالنظرة المتبادلة بيننا وبينه، ومحكوم بتغليب نظرية أننا كلّنا في قارب واحد تتقاذفه أمواج العصر، وتعصف به أنواء المصاعب والتحديات التي تحيط بالجميع. كما نتعلم من تجربة يوسف الدعوية المبادء التالية: المبدأ الأول اعتبار الإسلام مكوّنا مركزيا من مكوّنات الهوية الأوربية باعتبار مساهمته المباشرة منذ القرون الوسطى في تطعيم الحضارة الغربية ومدّها بالوسائل المساعدة لبناء نهضتها بتأثيره على جهود الإصلاح الديني8 والسياسي9 والفكري والعلمي10. المبدأ الثاني اوهو لجدال بالتي هي أحسن وتأسيس جسور التواصل، ما لم تخل بأصل ثابت في الدين، وعدم الإنطلاق من مصادرة "أنه مجتمع كافر" ذلك أنّ هذه المصادرة تكبّل الداعية وتشلّ حركته وتجعل مساهماته الحوارية شكلية وتزويقية لا روح لها ولا طعم وبالتالي لا تثمر أي نتيجة. المبدأ الثالث وهو العلم فعلى الداعية أن يكون حائزا على القسط الأوفر من العلم، الذي يشمل العلم بالدين والعلم بالواقع، وأن يبني في نفسه 'الحصانة الذاتية' من خلال تشبّعه واقتناعه بدينه وإسلامه حتى يستطيع أن يتكلّم بلغة العصر وبلغة الشعوب التي يقوم بين ظهرانيها كما كان الحال مع يوسف عليه السلام. المبدأ الرابع الإسهام في البناء الحضاري لهذه المجتمعات. وبيان ذلك تأسيس الجمعيات والمشاركة في مجالس الأحياء ومجالس الأجانب والإنخراط في الحياة الثقافية والسياسية اليومية. المبدأ الخامس ويقوم على ضرورة دعوة القائمين على العمل الإسلامي في الغرب إلى تطوير أعمالهم والخروج من دائرة “الدرس الديني” الذي لم يعد وحده يستجيب لإحتياجات الجيل الثاني والثالث الذي يعيش أغلبه على هامش المجتمع الذي ولد فيه والذي يحس أنه ينتمي إليه وإلى نزوع فطري عنده للمحافظة على هويته ، وبالتالي على الجمعيات والمنظمات الإسلامية أن تركز أكثر على الجانب الإجتماعي والإلتفات إلى هؤلاء الشباب وتبني مشاكلهم. المبدأ السادس وهو المبدأ الجامع لكل المبادئ السابقة لأنه هو المنهج والطريق “قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى الله، عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ” (يوسف، 108) هذا المنهج قائم على “البصيرة” التي هي العلم واليقين عند الطبري وهي المعرفة والتحقق عند الراغب وأمّا الفخر الرازي فإن الآية تدل عنده على أن “حرفة الكلام وعلم الأصول حرفة الأنبياء عليهم السلام” (مفاتيح الغيب، ج 9، ص229) وهكذا تحيلنا التعريفات المتقدمة إلى معنى أساسي يمكن أن تلتقي عليه جميعها وهو أنّ نجاح الدعوة لا بد أن يقوم على العلم والفهم وبالتالي القدرة على تحديد الأولويات والمنهجية المناسبة. وهذا يجعلنا لا نقبل فكرة سيد قطب في شرحه لهذه الآية بقوله “ننفصل وننعزل ونتميز” (الظلال، ج 4، ص 2034) لأن في هذا الرأي خطر الدعوة إلى مجتمع مواز ومنعزل يأسس لهوية مزدوجة ومتصارعة لها نتائج سلبية على الفرد والجماعة، رأينا نتائجها على الصحوة في العشريات الأخيرة كما أشرنا إلى خطورتها في الجزء الثاني من هذا البحث. ويوسف عليه السلام كان في تجربته خير مثل لذلك فهو بقدر ما اندمج في المجتمع والدولة بقدر ما حافظ على هويته ودعى إلى دينه على بصيرة وعلم ومعرفة، فأبدع في السياسة والإقتصاد والإجتماع... إننا نستقي هذه المبادئ الجوهرية من حياة يوسف المليئة بالعبر والتوجيهات لأولي الألباب فهي بمثابة القسطاس المستقيم أو الميزان العادل الذي توزن به تحركات الداعية، والسورة نفسها تختتم بهذا المعنى للتأكيد على أهمية العبر الواردة في القصص القرآني، فهي ليست قصصا للترف الفكري أو للتلاوة قبل النوم وإنّما هي عبرة لأولي الألباب "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِم عِبْرَةٌ لأُِولِي الأَلْبَابِ، مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الذِّي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ” ( سورة يوسف ، 111) انتهى بفضل الله الموافق 30/01/2008 حسن الطرابلسي باحث تونسي مقيم في ألمانيا التفاسير والمصادر ابن تيميّة، الإمام العلامة تقيّ الدين أحمد بن عبد السلام: التفسير الكبير . تحقيق وتعليق عبد الرحمان عميرة، الجزء الخامس، دار الكتب العلميّة، لبنان بيروت، الطبعة الأولى 1408ه / 1988 م. ابن كثير: تفسير القرآن العظيم . المجلّد الثاني، الطبعة الثانية، مكتبة المنار الأردن، 1410 ه / 1990 م. ابن كثير: مختصر تفسير بن كثير . إختصار وتحقيق محمّد علي الصّابوني، المجلّد الثاني، دار القرآن الكريم، بيروت الطبعة السابعة 1402 ه / 1981 م. الرّازي، محمد فخر الدين، تفسير الفخر الرازي المشتهر بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب، المجلّد التاسع، الجزء السابع عشر، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت لبنان 1415/1995 الشوكاني، محمد بن علي بن محمد: فتح القدير الجامع بين الرواية والدراية من علم التفسير، الجزء الثّالث، دار الفكر، الطبعة الثّالثة، 1393 ه / 1973 م. الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير . جامع البيان في تفسير القرآن، المجلّد السابع، الجزء الثّاني عشر والجزء الثالث عشر، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت لبنان، الطبعة الرابعة 1400 ه / 1980 م عبد الباقي ، محمد فؤاد: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم . المكتبة الإسلامية، تركيا. الغزالي، الشيخ محمد، التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، الأجزاء العشرة الثانية، دار الشروق، الطبعة الأولى القاهرة 1414ه 1993م الغزالي، حجة الإسلام الإمام أبي حامد، مجموعة رسائل الإمام الغزالي.ويحوي (معراج السالكين، قواعد العقائد في التوحيد، فيصل التفرقة، أيها الولد، مشكاة الأنوار، إلجام العوام عن علم الكلام، بداية الهداية، الأدب في الدين، كيمياء السعادة، المنقذ من الظلال،...وغيرهم) دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت لبنان 1421 ه/ 2000 م القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري: الجامع لأحكام القرآن . حقّقه أبو إسحاق إبراهيم اطفيش، الجزء التّاسع. القطان، منّاع: مباحث في علوم القرآن، مؤسسة الرسالة، الطبعة الرابعة والعشرون، 1413 ه / 1992 م. قطب، سيد: في ظلال القرآن . الجزء الرّابع، دار الشروق، الطبعة 17، 1412 ه / 1992 م. الهوامش 1 سورة طه، 44 2 سورة البقرة، 258 3 نص الحديث كاملا كما ورد في المصادر: لماّ رأى المشركون قوّة المسلمين وشوكتهم بعد إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما اجتمعوا للشورى بينهم. وليفكّروا في أنسب خطوة يقومون بها في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمسلمين. فقال لهم عتبة بن ربيعة العبشمي من بني عبد شمس بن عبد مناف، وكان سيّدا مطاعا في قومه يا معشر قريش! ألا أقوم لمحمّد فأكلّمه، وأعرض عليه أمورا لعلّه يقبل بعضها، فنعطيه إيّاها ويكف عنّا؟ فقالوا: بلى يا أبا الوليد! فقم إليه فكلّمه. فذهب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس في المسجد وحده. فقال: يا ابن أخي! إنك منا حيث قد علمت، من خيارنا حسبا ونسبا، وإنّك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقت به جماعتهم، وسفّهت أحلامهم، وعبت آلهتهم ودينهم، وكفرت من مضى من آبائهم، فاسمع منّي أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضها. فقال عليه الصلاة والسلام: قل يا أبا الوليد اسمع. فقال يا ابن اخي إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من اموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك. وإن كنت تريد به ملكا ملّكناك علينا، وإن كان بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوّجك عشرا. وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا من الجنّ لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا، حتى نبرئك منه. فإنّه ربّما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه. فقال عيه الصلاة والسلام:"أوقد فرغت يا ابا الوليد". قال: نعم. قال:"فاسمع مني". قال: أفعل. فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بسم الله الرحمان الرحيم. حم، تنزيل من الرحمان الرحيم، كتاب فصّلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون، بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون، وقالوا قلوبنا في أكنّة ممّا تدعونَا إليه وفي آذاننا وقرٌ ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إنّا عاملنا (فصّلت، 110) ومضى رسول الله صلى الله عليه يقرأها عليه، وهو يستمع منه، وقد ألقى يديه خلف ظهره معتتمدا عليهما، فلمّا بلغ رسول الله عليه وسلّم إلى قوله تعالى:" فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود" وضع عتبة يده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وناشده الله والرحم مخافة ان يقع ذلك، وقال: حسبك. ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى السجدة سجد، ثمّ قال: "سمعت يا ابا الوليد؟". قال: سمعت. قال:"فأنت وذاك". فقام عتبة إلى اصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أنّي سمعت قولا والله ما سنعت مثله قطّ. والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة. يا معشر قريش! أطيعوني واجعلوها لي. وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه. فالواللّه ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزّكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا سحرك والله يا أبا الوليد! قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم. 4 الفخر الرازي، فتوح الغيب، مجلّد رقم 9 ، تفسير سورة يوسف، ص 117 5 الشوكاني ، ص 35 6 نقلا عن القرطبي ، ص 220 وما بعدها 7 نفس المصدر السابق، ص 222 8 التأثير الإسلامي على مارتن لوثر على سبيل المثال 9 تأثير ابن رشد خاصة في مسألة الدين والسياسة أو الحكمة والشريعة 10 تأثير الأطباء المسلمين على رأسهم ابن سينا والرازي