يبدو الرئيس الأميركي باراك أوباما مولعاً بفكرة الحوار مع الجميع، وذلك إلى درجة يكاد فيها الحوار يتحول إلى أيديولوجيا بحد ذاته. وهو بدأ ولايته الرئاسية بالدعوة إلى إعادة النظر في عدد من الملفات التي فشلت معها سياسة الإقصاء التي اتبعتها إدارة سلفه جورج دبليو بوش، وفي مقدمتها ملفا إيران وسوريا. وما كان لأحد أن يتخيل أن تصل استراتيجية «الحوار» التي يتبعها أوباما إلى أعتاب حركة «طالبان» الأفغانية. فقبل أيام قليلة أشار عديد من التقارير إلى استعداد إدارة أوباما فتح حوار مع «معتدلي» حركة طالبان وذلك في إطار عملية إعادة تقييم الاستراتيجية الأميركية تجاه أفغانستان، والتي يجري العمل عليها حالياً للانتهاء منها قبل انعقاد قمة حلف شمال الأطلسي «الناتو» التي ستعقد في فرنسا وألمانيا خلال شهر أبريل المقبل. لم تكن المشكلة يوماً في الحوار، فهو أقصر السبل للتفاوض، بيد أن المشكلة تكمن في استغلال أحد الأطراف لمسألة الحوار وتفسيرها باعتبارها علامة ضعف للطرف الداعي للحوار، وبالتالي محاولة ابتزازه في إطار العملية التفاوضية دون الاستعداد لتقديم تنازلات حقيقية للطرف الآخر. بل تبدو بعض الأطراف مستفيدة من مجرد طرح فكرة الحوار وتحاول توظيفها، ليس فقط في إلحاق الخسائر بالطرف الراغب في الحوار، وهو هنا الولاياتالمتحدة، وإنما أيضا في إطار الصراع الداخلي مع المنافسين، وذلك على نحو ما هي الحال مع الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، الذي يرى في دعوة الولاياتالمتحدة للحوار معه نصراً لسياساته المتشددة تجاهها ومكافأة على صموده في وجه المجتمع الدولي. وهو ما قد يوظفه بشكل أو بآخر خلال الانتخابات الرئاسية المقرر في يونيو المقبل. كذلك هي الحال مع حركة طالبان التي رأت في دعوة أوباما للحوار مع «معتدليها» دليلاً على «الفشل» الأميركي في أفغانستان. وتؤكد الحركة أنها لن تتراجع حتى تهزم الولاياتالمتحدة كما فعل المجاهدون الأفغان مع الاتحاد السوفيتي السابق. الآن ثمة حوار أميركي على كل الجبهات، سوريا وإيران وطالبان وكوريا الشمالية وروسيا والصومال، وربما لم يعد هناك خصوم لم تفتح الولاياتالمتحدة معهم حوارا إلا تنظيم «القاعدة». وربما نسمع في المستقبل، خاصة إذا ما عادت القاعدة للحركة من جديد، واشتد عود الجيل الجديد من الجهاديين، أن الرئيس أوباما يدعوها للحوار والتفاوض. تفكيك «أيديولوجيا» الحوار يكشف أنها تستهدف، وفقاً للفهم الأميركي لها، محاولة إرباك الخصوم والإيهام بالتفرقة بين المتطرفين والمعتدلين داخل تنظيماتهم، أو بالأحرى «دق إسفين» بين كلا الطرفين. وهي محاولة رغم نزاهتها، إلا أنها تبدو غير مقنعة للمنافسين الذين يرون فيها استسلاماً أميركياً طال انتظاره، حتى وإن حاول بعض منظرّي أوباما تلبيسها غطاءً دبلوماسياً باعتبارها «حوار الفرصة الأخيرة»، أي منح الأطراف «الممانعة» فرصة أخيرة لإبداء مرونتها وقدرتها على الانسجام مع الرؤية الأميركية الجديدة للعلاقات الدولية. بيد أن السؤال هو: ماذا لو طلب الممانعون ثمناً غالياً لحوارهم مع الولاياتالمتحدة؟ وهم قطعاً سيفعلون، ليس فقط كونهم الطرف الأقوى حالياً في المعادلة، ولكن أيضا كونها فرصة تاريخية للثأر من الولاياتالمتحدة التي تجاهلتهم طيلة السنوات الثماني لإدارة الرئيس جورج دبليو بوش. وفي كل الأحوال، ستدفع الولاياتالمتحدة أثمان انفتاحها وسعيها للحوار مع الخصوم، وهي أثمان سوف تأكل من الصورة النمطية للولايات المتحدة التي حاولت إدارة بوش ترسيخها لبلاده باعتباره القطب الأعظم الذي لا يقدم أي تنازلات لخصومه. ربما لم تعد تبقى سوى مسافة صغيرة تفصل الولاياتالمتحدة عن فتح حوار مع تنظيم «القاعدة»، وهي مسافة قد يختزلها تنظيم «القاعدة» سريعاً إذا ما قام بعملية نوعية تستهدف المصالح الأميركية أو أحد حلفائها، حينئذ ستكون الضربة القاضية لإدارة أوباما، التي قد تضطر بعدها إلى الدخول في حوار مع الجيل الجديد من تنظيم القاعدة، وهو الآن يعمل جاهداً للملمة جراحه وتنظيم صفوفه بعد رحيل إدارة بوش، خاصة في منطقة جنوب شرق آسيا وباكستان. قطعاً هي فكرة مجنونة أن تطلب إدارة أوباما الحوار مع أسامة بن لادن أو أيمن الظواهري، ولو من خلال طرف ثالث، وذلك على طريقة الرغبة في الحوار مع حماس وحزب الله، بيد أن البراغماتية «الأوبامية» لا تعرف حدوداً حتى وإن كان الحوار مع الشيطان ذاته. دعك من مراوغة الألفاظ، فاللغة حمّالة أوجه، فهل يتخيل أحد أن حركة طالبان لديها معتدلون؟ وهل يظن أحد أن تنظيم القاعدة يقوم بأفعاله فقط لمجرد الكيد في الأميركيين؟ يبدو أننا إزاء إحدى تجليّات «حُمّى» الحوار التي تجتاح أوساط البحث والإعلام في الولاياتالمتحدة، والتي قد يدفع ثمنها كثيرون راهنوا على أولوية القيم على المصالح لدى إدارة أوباما، ولكن يبدو أن هذا الوهم قد بدأ يتبدد تحت شعار «البراغماتية». العرب القطرية 2009-03-22