ما زال الموقف الذي اتخذته أمانة الجامعة العربية وبعض الدول العربية من قرار محكمة الجنايات الدولية باستدعاء الرئيس السوداني عمر البشير للتحقيق معه حول تهم تتعلق بارتكاب جرائم حرب وإبادة موقفاً ضعيفاً يجب التراجع عنه. فلا معنى لأن يعلن الوقوف إلى جانب السودان ورئيسه، فيما يطالب مجلس الأمن بتعليق القرار لمدة سنة بدلاً من إلغائه من حيث أتى. ينبغي للموقف العربي والإسلامي ولموقف كل حرٍّ في العالم أن يكون شجباً حازماً للقرار، وإدانة للمدعي العام لويس أوكامبو وقضاة الغرفة الأولى في محكمة الجنايات الدولية. فالقرار مسيّس في مصلحة المخططات الصهيونية التي تستهدف تمزيق السودان، ومسيّس أميركياً وأوروبياً بهدف الهيمنة على السودان ونهب ثرواته، ومن ثم من الخطأ التصور أو التوهُم، أن وراء تحركات أوكامبو ضد السودان وقرار المحكمة باستدعاء البشير أو ما يلقاه القرار من دعم أميركي وأوروبي ثمة حرص على عدالة أو إمكان لمقاضاة نزيهة قانونية تعتمد أصول إقامة البينة. فمن يطلب العدالة من الصهيونية المتحكمة في المدعي العام وقضاة الغرفة الأولى في المحكمة المذكورة، إنما يغلط حتى في الألف باء في فهم السياسات الدولية وطبيعة ما يجري من صراعات في عالمنا المعاصر. فإذا كان ثمة مثال على الاحتكام إلى الطاغوت فهو مثال رفع دعوى ضد رئيس السودان لدى محكمة الجنايات الدولية التي غضت الطرف عما ارتكب ويرتكب من جرائم إبادة من قبل الاحتلال الأميركي في العراق وأفغانستان، أو عما ارتكب ويرتكب من جرائم حرب وإبادة من قبل القيادة السياسية والعسكرية الصهيونية في لبنان وفلسطين. فما حدث في حرب العدوان على قطاع غزة وسكوت أوكامبو ومحكمة الجنايات (ومجلس الأمن الذي دفع بقضية السودان إلى محكمة الجنايات) عنه يشكل دليلاً على أننا أمام محكمة صهيونية مؤمركة لا علاقة لها بالحق والعدالة والنزاهة والشجاعة، أو بما ينص عليه اتفاقها. فالمحكمة التي تفقد نزاهتها أو يتحكم فيها القرار السياسي لا يجوز التعامل معها انتقائياً. وهنا يجب التوقف أمام حجة يقدمها الذين دأبوا على إيجاد المسوّغات لحروب العدوان وسياسات الاحتلال، والوقوف ضد إرادة شعوبنا ومصالحها وحقوقنا، وهي التسليم بداية بأن المحكمة مسيّسة، وأنها انتقائية، وأنها مزدوجة المعايير والأحكام، وذلك بقصد امتعاض حجة الذين يهاجمون المحكمة ويقفون إلى جانب السودان، ثم يقولون صحيح كل هذا ولكن لنشجع المحكمة ونؤيدها في قضية دارفور، لأن ذلك يتيح لنا أن نضغط عليها من أجل القضايا الأخرى. هؤلاء يعلمون علم اليقين أن نظرتهم هذه أو حجتهم هذه مجرد وهم، لأن ما سيحصل هو تسويغ الانتقائية، وتمرير ما تريده الصهيونية وأميركا، أما الجانب الآخر وهو الضغط على المحكمة من أجل القضايا الأخرى فلن يحصل ولن يُستجاب له، ولو مرة استثنائية شاذة واحدة. وعلى أمانة الجامعة العربية وعلى أصحاب الموقف المشابه ألا يُميّعوا الموقف في شجب قرار الغرفة الأولى في محكمة الجنايات وفضح من يقف وراءه، وذلك من خلال المطالبة بتعليق القرار بدلاً من إدانته من حيث أتى، والتلويح باتخاذ مواقف مقابلة ضد من يصرّ عليه وعلى تنفيذه، وهو ما يجب أن يصدر عن القمة العربية القادمة في الدوحة، إذ لا يجب أن يبقى الرئيس السوداني مهدداً باعتراض طائرته أو يبقى القرار سيفاً مسلطاً على رأس السودان بسبب موقفه من قضية فلسطين ونصرة شعبها في صموده ومقاومته، أو بسبب ما يتمتع به من استقلال بالنسبة إلى التعامل مع الدول الأخرى بالنسبة إلى نفطه وما يختزنه من ثروات. فالدوافع وراء إثارة الدعوى على الرئيس البشير انتقامية من جهة، وتقسيمية للسودان من جهة ثانية، وعملية ضغط لفرض الهيمنة الصهيونية من جهة ثالثة. إن عدم اقتصار أمر ما صدر من محكمة الجنايات الدولية بحق البشير على الجانب المعنوي وانتقاله إلى التهديد بالتعرض لطائرته في أثناء سفره من أجل اعتقاله، يشكل تحدياً خطيراً يجب أن ترد عليه القمة العربية رداً حازماً وبخطوات عملية تتحدى التهديد، وتعتبر قضية السودان وقضية البشير في مواجهة المحكمة والتهديد بالاعتقال قضية عربية وإسلامية كما هي إفريقية تهم دولنا مجتمعة ومنفردة. وهنا، وبعيداً عن كل اتهام أو تلميح، بتواطؤ مع السياسات الصهيونية والأميركية، يتوجه القول بأن ما يتسم به الوضع العربي الرسمي العام من ضعف وعجز ولا مبالاة يشكل تشجيعاً على العدوان، ليس كما حصل في العراق ولبنان وفلسطين والصومال فحسب، وإنماً أيضاً على ما يحصل من انتهاك لسيادة دولنا وكرامتها كما يحدث للسودان الآن، وهو من الأمر الذي يُعدي وينتشر إذا لم يردع. 2009-03-29 العرب