معوقات الحوار ونذر الفشل تراها بارزة لا تخطئها عين الأعمى، ولا تتمارى في دويّها أذن الأصم، فكأنها شعر المتنبي: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ** وأسمعت كلماتي مَن به صممُ وهي باختصار كالتالي: أولاً: حروب تشنها أمم وافدة من وراء البحار بطائراتها ودباباتها، وبكل ما وصل إليه علمها من مبتكرات الدمار على شعوب فقيرة بحاجة إلى رغيف عيش ودفاتر مدرسية، تختلف معها ثقافة وديناً. تقدم أمريكا بذاتها وبقواتها المسلحة وليس بواسطة الوكلاء إلى ساحة منطقة الشرق الأوسط لتشن حروبها في مطلع القرن الواحد والعشرين، تشن حربين متزامنتين هما من أسوأ الحروب وأبعدها عن القيم، والأمل قائم في مراجعة العقلاء في تلك البلاد لحساباتهم، وتلك هي الفرصة الأولى للحوار. فالحروب أيضاً قد تصبح فرصة للحوار إذا انتهزت من طرف العقلاء. وقد خلّفت ولا تزال الآلاف من الضحايا باسم الحروب الصليبية أو الحرب على الإرهاب –المصطلح الذي اعتبرته بريطانيا أخيراً غير دقيق- ولا عبرة بالألفاظ والمباني بل العبرة بالمقاصد والمعاني كما تقول القاعدة الفقهية، والعبرة هنا بالأفعال لا بالأقوال. إنهم يلاحقون الأشباح، ولكنهم يزهقون الأرواح، إنها حرب تفتقر إلى المبادئ والقيم والقانون، هذا أول نذير من نذر فشل الحوار أو هو عقبة كأداء أمام الحوار. أما النذير الثاني فهو: وجود تيار في الغرب يؤمن بأن مهمة أمريكا هي محاربة المسلمين، وقد سمعنا ذلك من قيادات في حملة (مايكن) أنهم رجال دين وقادة من المحافظين يبنون سمعتهم على حرب الآخر، إنهم لا يزالون هناك، إنهم يتربصون. وهم يعدون كرسياً جامعياً ل(هانتغتون) الذي توفي منذ شهرين صاحب النظرية التي يقول عنها (موللر): ولكن هنتنغتون عندما يعرض للحرب، فإن الحقيقة التاريخية تظل منحّاة جانباً بسبب الفهم المسبق لل"إسلام الدموي" إذن: حذار من "النظرية الكبرى" فمن يضع نظارات زرقاء لا يمكنه إلاّ أن يرى العالم أزرق، وسوف يعتبره بعد مدة أزرق فعلاً. وهذا لن يقود إلى تشويه للحقيقة إذا كان المرء ينظر إلى السماء في يوم صاف، ولكن إذا خفض عينيه نحو الأرض فإنه سوف يندفع بناء على حواس في تقوّلات مغلوطة حول لون الأشياء. وهذا ما حدث مع (هنتغتون) في "صراع الثقافات" فالنظارات "النظرية" شوهت رؤية واقع شديد العناد. ثالثاً: وهي الداهية وهذا هو الأهم: العقدة الصهيونية أو الأخطبوط الصهيوني، فهو يمثل معوقاً يستعصي على تصور الحلول. فقد جمع كل المعوقات ووضع أنواع الحواجز المادية والنفسية في سبيل الحوار مع الغرب. إن إسرائيل تشن الحروب بسهولة عجيبة كما تشرب الماء –وما حرب غزة ببعيدة-. وهي تؤثر في الإعلام والثقافة الغربيين تأثيراً بالغ الخطورة، بالإضافة إلى التأثير السياسي اللامحدود. فالغرب يفقد البوصلة مباشرة عندما تظهر كلمة إسرائيل، وتلتبس عليه السبل والمنطق الديكارتي يصير سفسطة، وحقوق الإنسان ليس لها مكان. المعوق الرابع هو: الإعلام، من المفارقات أن الإعلام أو الميديا الذي يفترض فيه أن يكون أداة الحوار هو ألد أعداء الحوار أن الكثير من كبريات الصحف ومحطات التلفزة المعتبرة ذات بعد أحديّ ونظرة واحدة لا تروج إلاّ للكراهية والبغضاء فهم كما قال الشاعر: إن يسمعوا سبّة طاروا بها فرحاً ** مني وما سمعوا من صالح دفنوا وكقول الأعشى: وتدفن منه الصالحات وإن يسئ ** يكن ما أساء النار في رأس كبكبا مهما يكن من المعوقات التي تشير إلى أن الحوار مريض فإن الدواء هو الحوار وسيكون رأي أبي نواس هنا معتمداً: دعْ عنك لومي فإن اللوم إغراءُ ** وداوني بالتي كانت هي الداءُ وعلى الرغم من عبء الماضي وثقل الحاضر وظلمة المستقبل- إن التفاهم ممكن على مستوى المبادئ وفى الميدان العملي والواقعي للمصالح المتبادلة إذا توفرت الإرادة والنوايا الحسنة. ويرى بعضهم أن المفارقات تضاعف إمكانات التواصل وتضاؤل حظوظ التفاهم، وانفتاح الفضاءات يقابلها انبعاث الخصوصيات والهويات، فكلتاهما لها آلياتها التي تعمل بشكل متوازٍ مع آليات الأخرى. المقترحات إن التجاذب بين كفتي الفرص والفشل والخوف والأمل من طبيعة الحياة وشيمة الأيام، وهو محط اختبار للعقلاء في هذه الدنيا؛ لكن المطلوب هو العمل الجاد الذكي الذي يحول الفشل إلى نجاح، والكزازة إلى سماحة.- ولا بدَّ دون الشّهْد من إبر النحل- إن كمال الرؤية، وسلامة المنهج، ووضوح الغاية؛ هي التي تحكم مسار كل عمل يُرجى له أن يصل إلى نتائج، وإن كان العمل على المادة البشرية هو أصعب الأعمال؛ لأن الخطط التي نضعها للتعامل معها تقابلها خطط أخرى تعمل في الاتجاه المقابل، وتسعى إلى أهداف عكسية يقوم عليها. ولهذا فإن نقاط القوة والضعف في الخطط والخطط المضادة هي التي تشكل كفتي الميزان وزاويتي المعادلة. إن أهم توصية هي المتابعة المستمرة والدقيقة من جهات وأطراف مصممة على السير بعملية الحوار إلى الأمام وتنميتها واستكشاف آفاق جديدة واستقطاب العناصر الكفوة والمستعدة لتقديم الرؤى والمشاريع الحوارية. -والحرص على الحفاظ على المنجز الحواري وتقويم النتائج. - برمجة العملية الحوارية التي تخرج الحوار عن الموسمية والعفوية والعشوائية والعملية الدعائية والعلاقات العامة فاقدة العمق وعديمة الجدوى. - إنشاء معاهد لتدريس أسس الحوار ووسائله وتخريج نخبة من الحواريين باعتبار الحوار فناً له أسسه ووسائله، لكنه مفتوح على إمكانات التطوير والاختراع. - تنمية روح التعددية التي يمكن أن يكون شعارها قول الشافعي: ألا يصلح أن نختلف ونظل إخواناً". - إن الأقليات يمكن أن تكون جسر تواصل في غاية الأهمية، بل إنها الجسر الأمثل في عملية الحوار. - إن صناعة الأفلام هي أهم صناعة في عملية الحوار، وقد نضرب المثل بفيلم "الهوس" Obsession )) الذي وزع منه ثلاثون مليون قبل الانتخابات الامريكية، وكله كان تجريحاً للإسلام والمسلمين بشتى الصور والعبارات، بينما فيلم "الخائن" (Traitor ) يقدم صورة أكثر صدقاً في خدمة الحوار، بينما نجد فيلم "انقشاع الضباب" The Fog Is Lifting )) يقدم صورة أفضل من بين مئات الأفلام التي عُرضت سنة 2008م في أمريكا. - تحديد الغاية الكبرى. السلام وشعاره: ما جئنا محاربين وإنما جئنا لزيارة هذا البيت". تقديم البدائل المقنعة وشعاره قول أفلاطون: "إن الحوار يظهر الناس على البدائل المختلفة عن العنف". إنها شعارات بسيطة ولكنها معبرة. - درس بعض التجارب الحوارية في العصر الحديث: أسباب النجاح والفشل، الموضوعية، تحديد المصالح المتوخاة. وسائل مؤتمرات, لقاءات مع رجال الدين في الجامعات، تجنيد وسائل الإعلام، الأفلام والدراما وهذه من أهم الوسائل، الرحلات المشتركة. ونختم بنظرة متفائلة وتحذير: إن وسائل الاتصال والتواصل أتاحت إمكاناً غير مسبوق للحوار، وإن الإنسان في كل الثقافات مفطور على نزعة إلى الخير وداعية إلى الحق، في كل ثقافة من أسميهم أولي بقية (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ) فسرت بأولي عقل. وبالإضافة إلى القيم الإنسانية المشتركة، التي تزكيها العقول وتركن إليها النفوس بالقبول، فالمشتركات الإنسانية يمكن أن تفوق المختلفات؛ إذا صلح القصد، ولا أجد حرجاً من الاستشهاد بالرئيس الأمريكي الأسبق أيزنهاور: إذا أريد أن يكون لنا شركاء في السلام يتوجب أولاً أن نشارك في أن نعترف وندرك بتعاطف أن جميع بني البشر يتشاركون بتطلعات وجوع مشتركة، ومثل ومشهيات مشتركة، وأهداف ومجالات ضعف مشتركة، ورغبة مشتركة بالتقدم الاقتصادي. الفروقات بيننا مصطنعة وعابرة. إنسانيتنا المشتركة صنعها الله تعالى وهي باقية". ونعرف أن للتاريخ دورات فكما تدول الأيام على الدول والحضارات وتدور الدورات الاقتصادية فإن الثقافات لها دورات تتصالح تارة وتتناطح وتلك سنة كونية (ولن تجد لسنة الله تبديلاً). وأن الصورة النمطية تتغير تلقائياً إذا تغيرت الظروف، ولعلنا إذا تذكرنا الصورة النمطية لليهود وتاجر البندقية في مسرحيات شكسبير كيف تغيرت إلى صورة وردية، بل صورة مقدسة جعلت البابا متحيراً بعد منح الغفران الكنسي للقسيس وليامسون –وصك غفرانه معصوم- ولكن هذا القسيس لا يؤمن بأفران الغاز المشهورة، إن ذلك هو ذنبه الذي جعل الكنيسة الكاثوليكية كلها مدعوة للاعتذار والتراجع. كل ذلك يدعو إلى التفاؤل، ولكنه يدعو إلى العمل عن طريق الحجة والبرهان والحوار الصبور. لهذا أولاً: فإن أساليب الحوار وسبل التواصل يجب أن ترتب بأفضل الطرق والمناهج التي توصلت إليها البشرية إنه علوم وفنون كانت تعرف في التاريخ الإسلامي بالجدل والمناظرة. وبهذا الصدد فإن الحكمة المشهورة (خاطبوا الناس بما يفهمون) وهي مقولة أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- يجب أن نستنبط منها أن علينا أن نطلع على أدوات الإقناع والإفهام وعلى المنطق المفهوم المفهوم، وبخاصة فإن المنطق والفلسفة بعد أن كانا علوماً إسلامية أصبحا اليوم شبه غائبين في الكثير من الجامعات الإسلامية، بينما يعتبران في الغرب من أهم أوعية الخطاب. ثانياً: على المثقفين والمفكرين والذين يؤمنون بهم السفينة الكونية أن يتعاونوا ويتشاوروا في عملية الحوار، وهم كثر من مختلف الثقافات والمشارب؛ إلاّ أن عملية التنسيق والاستكشاف غائبة في كثير من الأحوال. وختاماً: فإن أهم أعداء الحوار هي: الجهل المتبادل بين الثقافات، فكما يقول مراد عليّ: إن الإسلام بالنسبة للغرب مصدر قلق بالنسبة للبعض أو لغز بالنسبة للآخر. ثانياً: الخوف، أن يسود عامل الخوف العلاقة بين الثقافات والحضارات، وكما يقول المثل الغربي "إن الخوف مستشار سيئ". ونحن نعرف أن نظرية هانتغتون روجت لتخويف شديد بين الحضارات والثقافات؛ إذ أوهمت بأنه نتيجة لحتمية الصدام لا بد من إخضاع الحضارة الأخرى من أجل السلام. وفي السنوات الأخيرة كان الخوف من أفضل أوراق الدعاية في خطب مرشحي الرئاسة. العدو الثالث: اليأس المتبادل، إن اليأس عدو التسامح وسبب انتحار الحضارات وطريق مسدود أمام التفاهم والحوار، ولهذا فسنختم بوصية يعقوب عليه السلام لأبنائه (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ). [يوسف:87]. الاسلام اليوم السبت 13 جمادى الآخرة 1430 الموافق 06 يونيو 2009