ولأن الاستراتيجية الجديدة ليست إلا تعبيرا عن سلسلة من المآزق الاستراتيجية في أفغانستان على مختلف المستويات فلم تفلت من النقد: (1) بعد صدورها و (2) خلال العمليات الأولى و (3) حتى هذه اللحظة! فهي مقبولة ومرفوضة .. وهي واقعة بين الوهْم والحقيقة .. وبين الصدق والكذب .. وبين حقائق الواقع والأمل المنتظر .. وبين النجاح البعيد والفشل القريب .. في هذا الجزء من السلسلة سنعرض لمسألتين تشهدان على حقيقة الاستراتيجية وما تنطوي عليه من خداع وتضليل كبيرين مارسته القوى المتورطة في الحرب على الرأي العام. ردود الفعل الأمريكية والبريطانية ومعطيات الواقع العسكري معززا بأرقامه. فقد كشفت حقائق الواقع والعجز في الميدان عن الكثير من المعلومات التي جرى إخفاؤها طوال السنوات الماضية. لذا لم يكن من باب الصدفة أن تسرب مصادر صحفية على ذمة صحيفة الجارديان البريطانية (29/7/2009) معلومات تفيد بأن: «الأمر في لندنوواشنطن تطور، فيما يتعلق بالشأن الأفغاني، ووصل إلى حد الحديث عن إستراتيجية للانسحاب من أفغانستان». والسؤال الآن: هل يمكن النظر إلى الاستراتيجية الجديدة بوصفها جزء من المشكلة؟ أم جزء من الحل؟ أولا: الاستراتيجية بعيون أهلها 1) عيون أمريكية تخيم على المؤسسات الإعلامية ودوائر الأمن والقرار في الولاياتالمتحدة بما فيها الكونغرس الأمريكي مخاوف حقيقية من أن تتحول «أطول الحروب في تاريخ الولاياتالمتحدة» كما تصفها صحيفة الواشنطن بوست (22/7/2009) إلى «فيتنام جديدة». صحيح أن الأمريكيين يدركون مدى الحاجة إلى استراتيجية جديدة للعمل في أفغانستان. لكنهم غير واثقين البتة لا في الاستراتيجية المطروحة ولا فيما يمكن إنجازه. لهذا وصف الكاتب الأميركي جيرالد سيب في مقالة له في صحيفة وول ستريت (10/7/2009) إدارة الرئيس أوباما بأنها: « تحارب على جبهتين، الأولى: ضد حركة طالبان، والثانية في الكونغرس الذي: "يكاد صبره ينفد" بشأن الدعم المالي للحرب»، لافتا الانتباه إلى أن: « حرب إدارة الرئيس ضد الكونغرس تكاد تكون مستمرة على مدار الساعة». ولأن الكونغرس «لم يعد صبورا» إزاء التكاليف المالية للحرب فقد: « أمهل وزارة الدفاع والبيت الأبيض إلى أوائل العام القادم ليرى تطورا ملموسا على أرض الميدان قبل أن يتخذ قرارا بتخفيض الميزانية العسكرية». فالكونغرس لم تعد تعنيه استراتيجيات جديدة أو قديمة، ولا مقترحات ولا آراء ولا هذا ولا ذاك. فكل ما يثق به الآن إنجاز يتحقق على الأرض وإلا.
هذا التحذير الحاسم من الكونغرس أجبر وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس على الإقرار في 19/7/2009: «بصعوبة الأوضاع في أفغانستان»، والتحسب من: « خسارة التأييد الشعبي للحرب» خاصة وأن: « القوات تعبت .. والشعب الأمريكي متعب جداً»، والأهم أنه: «بعد تجربة العراق، لا أحد على استعداد لرحلة طويلة لا يبدو أننا نتقدم فيها» . فالحديث عن الانتصار «في غضون سنة» بالنسبة لغيتس: « احتمال بعيد المدى »، والمأمول فقط: «أن تحرز تقدما بحلول الصيف المقبل»، أما لماذا هذه العجلة؟ يقول غيتس: « لتفادي تشكيل تصور لدى الرأي العام بأنه أصبح من المستحيل الانتصار في الصراع». المؤكد أن الولاياتالمتحدة ما زالت تتخبط كحلفائها في أفغانستان. وعلى الرغم من الإعلان عن الاستراتيجية الجديدة وبدء العمل بها فقد ظهر تقرير جديد في أوج الحملة العسكرية على جنوبأفغانستان يتحدث عن الحاجة إلى استراتيجية جديدة! ففي 23/7/2009 كشف تقرير استراتيجي بعنوان: « حملة أفغانستان..هل يمكننا الفوز؟» عن الحاجة إلى: « استراتيجية جديدة للحرب على أفغانستان». فما الذي يستدعي البحث عن استراتيجية أخرى أكثر حداثة إلا أن يكون «الفشل» بعينه؟ هذا ما يقوله صاحب التقرير أنطوني كوردسمان كبير خبراء مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية. لذا لا يمكن، بحسب كوردسمان، أن تكون هناك استراتيجية ناجحة قبل أن تجيب الإدارة الأمريكية أولا على السؤال: « هل يمكننا الفوز؟ .. وإذا الجواب بنعم؛ لابد أن يكون النصر محدداً وواقعياً وعملياً »، وثانيا: « أن تتصرف الإدارة الأمريكية بشكل "سريع وحازم" في صياغة هذه الإستراتيجية الجديدة». كل هذا بداية، ويا للطرافة، من أجل: « وقف الارتفاع القياسي لمعدل القتلى في صفوف جنودها»!
لكن مشكلة كوردسمان كمشكلة إدارته في التعامل مع التيار الجهادي العالمي. إنها عقلية حلبة المصارعة. فهو يظن أن كسب الحرب ممكن: « إذا قامت بأفعال "سريعة وحاسمة" مع حلفائها لهزيمة طالبان، ليس فقط بشكل تكتيكي، ولكن عن طريق القضاء على سيطرتهم، ونفوذهم على السكان في غضون السنوات القليلة المقبلة، وبعد ذلك بشكل منتظم، والقضاء على شبكاتهم، وعلى أية قدرة لديهم للعمل كحكومة ظل». لغة الغطرسة هذه كان قد فضحها كاتب أمريكي لم يستمع إليه أحد حين طرح ما هو أهم من تساؤل كوردسمان. ففي مقالته الطريفة في صحيفة كريستيان ساينس مونيتور الأميركية قي 23/5/2009 بعنوان: «ماذا كسبنا في أفغانستان؟» حذر ديفيد بيك: «القادة العسكريين من مغبة عدم تقديم الصورة الواقعية والحقيقية لأداء القوات الأميركية في الميدان». ولأن الكذب وإخفاء المعلومات والتضليل والتخويف هو سيد الموقف في الإعلام والسياسة الأمريكية فقد تساءل الكاتب عن: « حق الأميركيين العاديين في معرفة المعايير المتبعة لتوجيه قرارات الحرب التي يتخذها القادة، في ظل كون الولاياتالمتحدة دولة ديمقراطية؟» مشيرا إلى أنه: « إذا كان بالإمكان الإفادة من دروس التاريخ فلا يبدو أن الوجود الأميركي في أفغانستان أقرب إلى الانتصار منه إلى الهزيمة». وهكذا لا تبدو المشكلة في الحاجة إلى استراتيجيا تلعن ما قبلها بقدر ما تبدو الولاياتالمتحدة بحاجة إلى: «مقاييس جادة لمعرفة النجاح من عدمه .. مقاييس واضحة لسير الأوضاع في أفغانستان و"محاسبة أنفسنا" ... وضرورة إيجاد معايير واضحة أيضا لحالة الجمود والفشل». لكن مطالب من هذا النوع تبدو بعيدة المنال سواء تعلق الأمر في أفغانستان أو غيرها. لذا يختتم الكاتب مقالته بتحدي إدارة بلاده أن: «تبادر إلى توجيه أسئلة أصعب إلى نفسها بشأن الوضع الراهن للوجود الأميركي في أفغانستان، هل هو رابح أم خاسر أم يتطلب الرحيل؟، وأن تبقى تسأل نفس الأسئلة في الحروب والصراعات المستقبلية قبل أن تطأ قدم المرء أي ميدان». 2) عيون بريطانية من جهتهم لم يكن البريطانيون أقل تشاؤما من الأمريكيين، بل أكثر ردحا وبؤسا وهم يكشفون المزيد من الحقائق والخداع. ففي 3/2/2009 اعترف رئيس هيئة الأركان البريطانية السير جوك ستيراب أن: « الولاياتالمتحدة لن تتمكن من إلحاق الهزيمة بحركة طالبان في أفغانستان حتى لو زادت عدد قواتها هناك»، ورأى في مقابلة مع صنداي تايمز أن: «السياسة وحدها هي القادرة على إحلال السلام». ومن جهتها نسبت صحيفة ديلي تلغراف (22/3/2009) إلى وزير الخارجية البريطاني ديفيد ميليباند قوله: « إن طالبان تمكنت من توريط القوات الأجنبية بمأزق إستراتيجي في أفغانستان» واصفا قواتها بأنها: « إرهابية وقادرة على إلحاق أضرار خطيرة وجسيمة بقواتنا وغيرها». من العجيب أن مثل هذه التصريحات السابقة على إعلان الاستراتيجية الجديدة صدرت عن أصحاب القرار في واشنطنولندن. لكن لم يكشف هؤلاء والقريبون منهم عن حقائق الواقع بما يكفي لإعادة النظر إلا في خضم الحملة العسكرية على هلمند حين قال الخبير العسكري البريطاني اللورد بادي آشداون والزعيم السابق لحزب الديمقراطيين الأحرار في بريطانيا في 1/7/2009: « إننا نواجه الهزيمة ورجالنا يموتون هناك لأن السياسيين لا يودون التحرك مع بعض »، ولا شك أنهم كانوا علم بما صرح به آشدوان بأن: «اختلاف الأولويات أكبر خطر في أفغانستان»، مبينا إلى أن: « القوات البريطانية، مثلا، تركز على هلمند في جنوبأفغانستان وتراها المعضلة الأكبر، في حين تركز القوات الهولندية على أوروزغان، والكنديون على قندهار والألمان على منطقة أخرى في الشمال، بينما للقوات الأميركية أولويات أخرى مختلفة ». وفي تقرير من 143 صفحة أعده بالتعاون مع فريق يضمه والأمين العام الأسبق للناتو جورج روبرتسن، والسفير البريطاني السابق بواشنطن جريمي غرينستوك، قال اللورد آشدوان بالحرف الواحد: « إذا لم نعالج الغياب التام للتنسيق الفعال للجهد الدولي في أفغانستان، سيظل التقدم بطيئا وسندفع الضريبة بحياة جنودنا وبحياة المدنيين الأفغان». وفي 22/7/2009 عاد اللورد آشداون في مقالة جديدة له نشرتها صحيفة الإندبندنت اللندنية بعنوان: «ماذا علينا أن نفعل لنكسب الحرب في أفغانستان؟» ليؤكد أن: «ثمن الفشل سيكون باهظا». أما لماذا؟ فلأنه يعني: « انهيار باكستان واحتمال بروز أول حكومة جهادية في العالم تمتلك سلاحا نوويا, وإعادة إحياء لفضاء جامح لا يخضع لسلطة القانون في أفغانستان، ويكون مفتوحا للتخطيط للإرهاب الدولي وتصديره».
باختصار! فإن: « حرب أفغانستان غلطة .. والانتصار فيها مستحيل .. وأوضاع القوات الأجنبية صعبة ». هذا ما خلص إليه النائب البريطاني السابق ماثيو باريس في مقالة نشرتها له صحيفة التايمز في 4/7/2009 اشتكى فيها من كون: « الحقائق على الأرض مُرّة وقاسية»، داعيا إلى: «عدم المراوغة أو استخدام أساليب التورية للتغطية على الواقع». أما لماذا هي بهذه المرارة والقسوة فلأن: « جنود البلاد يلقون مصيرهم في أفغانستان دون جدوى» بحسب صحيفة الغارديان (4/7/2009) التي كتبت تقول في افتتاحية لها بعنوان: «أفغانستان يقودها الحمير»: «لا يبدو أن لبريطانيا أهدافا واضحة إزاء الحرب»، كما أنها: «لم تضع إستراتيجية لبلوغ تلك الأهداف المفترضة». وبما أن: « صبر الشعب البريطاني قد بدأ بالنفاد ... (وأن) الحرب خاسرة (لأن) القوات الأجنبية تتكبد عشرين مليار دولار شهريا في عملياتها العسكرية بأفغانستان» في ظل ما وصفته الصحيفة ب: «إستراتيجيات تسير على غير هدى» ف :« ما هي الفائدة المرجوة من تعريض الجنود البريطانيين للقتل مقابل تأمين الانتخابات في ولاية هلمند الأفغانية؟»، ومن سيجيب الكاتب كون كوغلين الذي انتقد سياسة بلاده عن سؤاله في صحفية ديلي تلغراف: «من لجنودنا المخدوعين في أفغانستان؟» والذين « يصارعون البقاء هناك»؟
ومثل كوردسمان، فقد صب البريطانيون جام غضبهم على الاستراتيجية الجديدة وكأنهم لم يسمعوا بها من قبل. لكن بما أنه لم يعد ثمة هدف يمكن الركون إليه أو الثقة بتحقيقه ف: « لا بد من أن نعيد تحديد أهدافنا». هذا ما تراه صحيفة الأوبزرفر البريطانية في افتتاحيتها 12/7/2009، إذ تقول أن: « المتمردين هناك يتميزون على قوات حلف شمال الأطلسي بكونهم يعرفون كيف يكون شكل الانتصار ... (بينما) حياة الجنود البريطانيين تزهق سدى. وعليه فإن الإستراتيجية المتبعة هناك بحاجة إلى مراجعة»، نظرا ل: «عدم توفر الإرادة السياسية للخروج من المأزق». ومن جهتها سخرت الكاتبة ماري ريديل من تَكبُّد خسائر فادحة من أجل: «أهداف مثل رعاية الانتخابات الأفغانية "المزورة" ». وفي مقالها بصحيفة الديلي تلغراف قالت أنه: « لا ينبغي لأية أمة متحضرة أن تطلب من أبنائها الموت في سبيل أهداف عسكرية غامضة»، مشيرة إلى: «أننا نسكب دماء وأموالا في حفرة سوداء» ليس لها قرار. ومن جهتها دعت صحيفة ذي إندبندت أون صنداي البريطانية في افتتاحيتها (12/7/2009) إلى الانسحاب من أفغانستان معترفة بأن: «قوات التحالف تواجه ورطة كبيرة هناك»، وأنها: « تسير على غير هدى وبلا خطط واضحة وأنها تغرق في المستنقع». أما صحيفة الفايننشال تايمز التي دعت رئيس الحكومة البريطانية إلى إعادة التفكير بشأن مهمة قواته في هلمند (14/7/2009)، فقد طرحت تساؤلين دقيقين: (1) «عما إذا كانت الإستراتيجية التي يتبعها الغرب عموما في الحرب هي الصائبة؟» و (2) «عما إذا كانت القوات البريطانية التي تمثل ثاني أكبر تعداد بعد الأميركية في أفغانستان مجهزة بالمعدات اللازمة للمهمة؟» فأجابت عن الأول ب: «نعم مشروطة بانتظار النتائج» وعن الثاني ب: «لا صريحة». أما أحدث تفاعلات المأزق البريطاني، على المستوى الرسمي، فقد تجلى في تقرير لجنة الشئون الخارجية في مجلس العموم الصادر في 2/8/2009 فقد تضمن خلاصة مدهشة جاء فيها أن: « المهمة العسكرية الدولية في أفغانستان لم تحقق بعد النتائج المرجوة بسبب انعدام الإستراتيجية المبنية على الحقائق التاريخية لهذا البلد». والأهم ذهاب التقرير لأبعد ما ذهب إليه اللورد بادي آشدوان حين أقرّ بأن: « الانتشار البريطاني في إقليم هلمند تم عبر تخطيط يتسم بانعدام الواقعية على أعلى المستويات، وانعدام التنسيق بين أجهزة الحكومة، والعجز عن إعطاء العسكرييين توجيهًا واضحًا». وهكذا فليس حلف الأطلسي وحده من يستحق اللوم فيما يتعلق بغياب التنسيق. 3) فشل الناتو وهكذا يكون مجلس العموم قد فضح، في تقريره، لأول مرة سياسات بلاده بهذه القسوة غير المسبوقة. والحقيقة أن كل ما في الحرب الأفغانية يبعث على العجب والدهشة. فالقوات الموجودة في أفغانستان تقاتل بصيغة «نفسي ومن بعدي الطوفان »! هذه هي الحقيقة التامة. فما من قوة ترغب في الاشتباك مع طالبان وجها لوجه، وما من قوة تنسق مع الأخرى، وما من قوة مستعدة لمناصرة قوة حليفة. فما قيمة وجود هذه أربعين دولة في أفغانستان؟ وماذا تفعل بقواتها هناك؟ حقا! إنه أمر يبعث على السخرية. في 9/2/2009 قال مستشار الأمن القومي الأميركي جيمس جونز خلال مشاركته في مؤتمر أمني في ميونخ ضمن وفد يقوده نائب الرئيس الأميركي: «إن التنسيق الدولي الضعيف والفشل في تبني منهج إقليمي لإعادة بناء أفغانستان حال دون نجاح الحلفاء في البلاد». وهو ذات الكلام الذي فصل به اللورد بادي آشدوان في 1/7/2009، لاسيما حين تحدث عن: « الغياب التام للتنسيق الفعال للجهد الدولي في أفغانستان». لكن في مقالته عن: « ماذا علينا أن نفعل لنكسب الحرب في أفغانستان؟ - 22/7/2009» تحدث آشدوان عن مخاطر الفشل قائلا بأنه: « سيشكل ضربة قاتلة لحلف الناتو ».
ومن جهته بدا الأمين العام لحلف الناتو ياب دي هوب شيفر كمن يقدم التعازي والمواساة لبريطانيا خلال كلمته التي ألقاها أمام مركز أبحاث « تشاثام هاوس» للشئون الخارجية البريطانية في 21/7/2009 مشيرا إلى أن: «الحرب على أفغانستان "فترة مأساوية" لبريطانيا ... هناك 14 دولة تحارب في الجنوب الأفغانى إلى جانب البريطانيين، وإلى جانب القوات الأفغانية، لقد فقد مئات الجنود من الناتو أرواحهم، وهذا قياس محزن للاشتراك في التضحية ولكنه حقيقي». وأقر هوب شيفر أن: « هناك نقاش عام حول ما إذا كان هناك ما يكفي من قوات ومروحيات في أفغانستان أم لا؟». لكن تصريحاته في المركز لم تخل من المراوغة والتبرير والابتزاز، حتى وإنْ انطوت على حقيقة بقدر ما، لاسيما حين تطرق إلى احتمال الانسحاب من أفغانستان معبرا عن خشيته أن: « تقع في قبضة طالبان» مما « سيعطي تنظيم القاعدة القدرة على التحرك بحرية أكبر». حتى في: « آسيا الوسطى حيث سيكون للقاعدة حرية الحركة مرة أخرى، وكذلك فإن طموحاتها الإرهابية ستصبح عالمية». لذا فهو يشدد على أن أعضاء الحلف عليهم أن يدركوا أن المهمة «جوهرية» بالنسبة إلى أمن دولهم. لكنه حين يتحدث عن حرض دول الناتو على: «تحقيق رادع أمني مثلما كان الحال خلال الحرب الباردة» فالمؤكد أن هكذا تصريحات تكشف بوضوح عن عجز تام في قدرات الناتو. فهو حتى هذه اللحظة ليس قادرا على الانتصار في أفغانستان. فكيف به يتحدث عن الردع؟ إلا أن يكون كما يتمنى شيفر نفسه: «التزام يحمل مخاطر، ومكلف، ونهايته مفتوحة، بحيث ليس هناك ضمانة بالنجاح في المهمة». فهل هذا هو الحلف الذي كان يصارع في ظل الحرب الباردة؟!! الأمر الأكثر إثارة ودهشة في مثل هذه التصريحات يكمن في الجدوى من بقاء حلف الناتو ومدى فاعليته في مواجهة الأزمات. فقد تعرض هو الآخر لفضيحة عظمى لا تقل عن فضيحة الرأسمالية حين كشفت أزمة الرهن العقاري عن خواء النظام من الداخل. ويبدو أن الناتو كذلك. فلا هو قادر على حشد القوات المناسبة، ولا هو قادر على توفير ما يلزم من معدات، ولا هو قادر على صياغة الاستراتيجيات، ولا هو قادر حتى على تحديد الأهداف، ولا هو قادر على حسم حرب ضد مقاتلين كل ما يمتلكونه أسلحة بدائية تسببت متفجراتها بقتل ثلث ضحايا جنوده. فما الذي باستطاعة الحلف أن يقوم به؟ ليست هذه هي المرة الأولى التي يفشل فيها الناتو بحشد القوة أو القدرة على التصرف. فطوال شهور من التحضير لغزو العراق فشل الناتو في حشد أكثر من 25 ألف جندي، وبعد معاناة شاقة من المفاوضات، فشل في استخدام الأراضي التركية لغزو العراق من الشمال، علما أن تركيا عضو في الحلف. وها هو يفشل في حشد الحد الأدنى من القوات في أفغانستان، ويفشل في التنسيق ما بين قواته، ويفشل في حماية جنوده. والسؤال: هل من جدوى في بقائه خاصة أنه لم يعد يخيف أحدا؟ ثانيا: أوروبا تتمنع وبريطانيا تغرق 1) خسائر أوروبا قبل الإعلان عن الاستراتيجية الجديدة دعت صحيفة لوس أنجلوس تايمز الأميركية في 24/2/2009 إدارة أوباما لإدراك أمرين هامين، أولهما: «عدم رغبة بعض الحلفاء الأوروبيين في إرسال المزيد من القوات». لكن حتى الدول الأوروبية الأشد تحالفا مع الولاياتالمتحدة لم تلبّ الرغبة الأمريكية إلا بحدودها الدنيا. ففي 5/4/2009 قال المتحدث باسم البيت الأبيض روبرت غيبس: «أن الرقم المنتظر سيتضمن إرسال ثلاثة آلاف جندي إضافي بشكل مؤقت مشيرا أن بريطانيا ستساهم ب 900 جندي وألمانيا وإسبانيا ب 600 لكل منهما». وكمثال على ذلك اكتفت بريطانيا بإرسال 700 جندي فقط من بين توصية بإرسال 2500 جندي. والسؤال هو: لماذا تتمنع الدول الأوروبية عن إرسال المزيد من القوات إلى أفغانستان؟ كما يقولون في المثل الشعبي: «إذا عرف السبب بطل العجب»، لكنه هذه المرة عجب من نوع ثقيل، وثقيل جدا، لا يمكن للأروربيين أن يحتملوه، ولا يمكن لبريطانيا خاصة أن تستمر فيه دون أن تدفع ثمنا باهظا جدا أقله انهيارها كدولة عظمى! إذا ما فشلت. لنتابع جدولي قتلى القوات الأجنبية أدناه واللذين يعكسان مدى التخبط الذي تعيشه دول الناتو وقواتها.
بقطع النظر عن مدى مصداقية الأرقام الواردة في الجدول؛ لنركز فقط على النسب المئوية للقتلى. فبالإجمالي العام، وحتى نهاية شهر تموز الماضي من السنة الجارية، فإن نسبة قتلى الناتو من الأوروبيين بلغت 68.2% مقارنة بنسب القتلى الأمريكيين. وإذا تجاوزنا السنوات الأولى من الاحتلال حتى سنة 2005 حيث بدأت طالبان تُحدثُ فارقا ملحوظا في الأداء القتالي، فإن السنوات اللاحقة أظهرت تقاربا مفزعا في النسب تراوحت ما بين 90% إلى 98%. بمعنى أن نسبة عدد القتلى الأوروبيين مقارنة بالأمريكيين تكاد تكون متطابقة إلا قليلا جدا. ثمة في الجدول ما هو أكثر إثارة. إذ يلاحظ أن الطالبان والقاعدة استطاعتا ضرب جميع القوى الأجنبية دون أن تفلت إحداها ولو من قتيل أو قتيلين. ومن باب التوضيح فإن أعداد القوات الأمريكية ومثيلتها الأوروبية متقاربة جدا. لكنها متوزعة على مناطق مختلفة من أفغانستان. وما يدهش المراقب أن العمليات القتالية لطالبان طالت جميع القوى حيث تواجدت. وبحسب جدول التمثيل البياني الذي يوضح عدد القتلى بحسب الجنسية فلا تكاد تفلت دولة من خسائر في الجنود والضباط مع ملاحظة التعاظم في عدد القتلى بالنسبة لأعتى القوى الأوروبية قوة. ففيما خلا الأمريكيين الذين حظيوا بحصة الأسد من الخسائر فالبريطانيون يتصدرون القائمة بخسائر بلغت 191 قتيلا يليهم الكنديين بواقع 125 ثم الألمان - 33 والفرنسيين - 28 والأسبان - 25 والدنمركيين - 24 و 11 قتيلا لكل من أستراليا ورومانيا و 9 قتلى لبولندا. فلماذا تخوض أوروبا حربا ليست حربها فضلا عن أن الرئيس الأمريكي ذاته يعتبرها حربا أمريكية؟ 2) «سرّ» الهيجان البريطاني
صحيح أنه لأول مرة تتحول أفغانستان إلى قضية رأي عام في بريطانيا، وتتكشف حقائق ظلت طي الكتمان لسنوات طويلة، وتصبح «فجأة» حديث العامة والخاصة في وسائل الإعلام والشوارع والمقاهي والبيوت وصالونات السياسة وحتى المواخير. وصحيح أيضا أنه لأول مرة ينفجر الخبراء والعسكريون البريطانيون «قهرا» على ما بدا وكأنها مصيبة عظمى حلت في القوات البريطانية في أفغانستان خاصة بعد مقتل العقيد روبرت ثورنيلو أكبر ضابط لها منذ حرب جزر الفوكلاند سنة 1982 وثمانية آخرين من جنودها خلال 24 ساعة بين 10 و11 تموز/ يوليو الماضي. لكن إذا كان من الطبيعي والمألوف أن يقتل الجنود في المعارك فالأصح من الصحيح أنها ليست المرة الأولى التي يقتل بها جنود بريطانيون سواء في أفغانستان أو في العراق، كما أنها لن تكون الأخيرة. فلماذا إذن هاجت بريطانيا، بين عشية وضحاها، على بضعة جنود، وتحولت إلى ساحة صراع تجندت فيها الصحف لأيام متتالية في حملات انتقاد عنيفة للحكومة وكأنها تعيش انقلابا سياسيا على الملكية؟ باختصار: هل ثمة سر في هذا الهيجان البريطاني غير المعتاد؟ لا شك أن الطامة الكبرى وقعت على رأس البريطانيين الذين فقدوا 22 جنديا وضابطا في العمليات الأخيرة على هلمند، أي قرابة نصف ما فقده الأمريكيون. وليت الأمر توقف عند هذا الحد. فالبريطانيون يعانون من عجز في ميزانية الدفاع يقدر ب 20 مليار جنيه، وإذا ما أضفنا تداعيات الأزمة المالية العالمية فإن بريطانيا في وضع مزري اقتصاديا وعسكريا لا يؤهلها لخوض حروب خارجية. فقد كتبت صحيفة كريستيان ساينس مونيتور الأميركية (10/7/2009) تقول: « أن الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس ما انفكت تواجه خيارات صعبة في أفغانستان ...إن الحرب والأزمة المالية قد تضطران بريطانيا إلى تخفيض أو وقف الكثير من برامجها العسكرية ... وإلى مراجعة خططها في الشأن العسكري لتشمل قواتها في الميادين الخارجية وبرامجها لبناء حاملات الطائرات، متسائلة عن مدى بقاء البلاد محتفظة بالترسانة النووية؟». لا شك أن دولة تحارب بلا معدات وتلجأ إلى استئجار الطائرات المروحية من هولندا وروسيا وأستراليا وأوكرانيا لإخلاء جرحاها هي فضيحة بكل المقاييس لدولة تحسب أنها عظمى بينما هي مهددة بخسارة عضويتها في مجلس الأمن الدولي وهو ما لم تذكره الصحيفة الأمريكية. ولعل في هذا ما يفسر سر جنون بريطانيا والانتقادات الشنيعة ضد الحكومة وتحوُّل القضية الأفغانية إلى قضية رأي عام واسع النطاق. فماذا لو قتل بضعة عشرات آخرين من القوات البريطانية؟ فكم ستصمد بريطانيا في أفغانستان؟ إلى هنا، من يجرؤ على القول أن استراتيجيا الرئيس الأمريكي أوباما جاءت لتكون جزء من الحل؟ ومن يستطيع أن يتنكر لتصريحات أبو اليزيد مسؤول القاعدة في أفغانستان لقناة الجزيرة حين توقع أن يكون العام الجاري هو عام الحسم؟ يتبع في الحلقة الأخيرة: «وقائع حرب الطالبان» 3/8/2009