برغم الانتخابات النيابية والعامة التي تجري في معظم الدول العربية فإن ثمة إجماعاً على غياب الديمقراطية، وعجز الدول والمجتمعات والجماعات السياسية والإصلاحية عن إنشاء ديمقراطية حقيقية فاعلة، فلماذا لم يتشكل إصلاح سياسي؟ إن البرامج والرؤى الإصلاحية المتعددة لا يمكن أن تكون حقيقية وفاعلة وتتنافس فيما بينها وتتفاعل ويتفاعل معها المجتمع اختيارا وتقييما ومقارنة وتطويرا إلا في بيئة سياسية واجتماعية ومنظومة من الشروط والمتطلبات الواجب توافرها لتكون بيئة صالحة للعمل السياسي، وتنمو فيها الأفكار والبرامج وتتنافس فيما بينها، وبغير هذا المدخل في الإصلاح والتغيير فإن هذه البرامج والرؤى تبقى نظرية، بل ويصعب تقييمها وملاحظة أثرها الفعلي والتطبيقي أو تقييمها ومقارنتها، أو حتى نسبتها إلى التيارات والأحزاب والمؤسسات المختلفة، فيمكن للأحزاب والجماعات أن تقترح وتقدم أفكاراً كثيرة ومتعددة في الإطار النظري، ولكن لا يمكن التأكد من نسبتها إلى الأحزاب والتيارات إلا من خلال تجارب فعلية وتطبيقية، وجدالات سياسية ميدانية أو برلمانية أو حكومية. إن بيئة العمل السياسي المحيطة بتجارب الأحزاب والجماعات والتيارات السياسية العربية لم تكن تساعد على نشوء حياة سياسية تتفاعل فيها البرامج، ويتاح للمواطن الاختيار فيما بينها في الانتخابات العامة، ويحاسب أصحابها عليها بعد وصولهم إلى البرلمان والحكومات والنقابات والبلديات، أو اختبار هذه البرامج والأفكار عمليا وامتحانها في التطبيق العملي، كما أن غياب هذه البيئة يحرم المواطنين من الممارسة الفعلية للديمقراطية، وتكاد تقتصر مشاركتهم في الحياة السياسية على الانتخابات العامة بمعزل عن تراكم التجارب والبرامج ومقارنتها، وهذا يسهم في إفشال الانتخابات العامة وإفراغها من مضمونها، وتحولها إلى تنافس عشائري وفردي، ويحرم هذا الغياب أيضا الأحزاب السياسية من تطوير خبراتها وبرامجها وإخضاعها للتطبيق والمنافسة، ويحرم أيضا النظام السياسي والحكومات من مدخلات وخبرات إضافية في العمل والتطبيق، ويحول النخب السياسية والاجتماعية إلى نخب راكدة ومغلقة، مما يصيبها بالفساد والعزلة عن المجتمع، ويزيد الفجوة الاجتماعية والاقتصادية بين الطبقات والفئات، وفي المحصلة فإن العملية السياسية برمتها تتحول إلى عبء على نفسها وعلى المجتمع، ولا تعود أداة للتقدم والإصلاح، بل العكس فإنها تتحول إلى أداة سيطرة واحتكار للفرص والموارد وللفساد، ولا تعود الحكومات والمجتمعات قادرة على ملاحظة التقدم العالمي واستيعابه وتوظيفه، وتحول الدول والمجتمعات إلى متخلفة ومغلقة، لا تفيدها العولمة والتطورات الكبيرة في التقنية والاتصالات والمعلوماتية. كما أن الأحزاب والتيارات السياسية تتعرض للشيخوخة والعزلة عن الأجيال الجديدة، وإذا لم تكن قادرة على اجتذاب الشباب فإنها لن تستطيع أن تستفيد من الفرص والحريات المتاحة (نسبياً) لها في العمل والحركة. ولذلك فإن التجارب والبرامج والنظريات الإصلاحية بحاجة إلى مجموعة من المتطلبات والإصلاحات التي تحرك الحياة السياسية وتجعلها حقيقية وفاعلة، ومن هذه الإصلاحات والمطالب: الإصلاح التشريعي الذي يجعل الحكومات قائمة على أغلبية برلمانية، ويجعلها مسؤولة أمام البرلمان والمواطنين، ولا يحصن قراراتها وسياساتها من المسؤولية والمحاسبة. إن فصل السلطات يشكل المدخل الأساسي والضروري للتنافس على السلطة ومحاسبتها وتطوير أدائها، ويجعل الوصول إليها والمشاركة فيها متاحا للطبقات والفئات الاجتماعية والسياسية والأجيال المختلفة وفقا لنتائج الانتخابات البرلمانية، وهذا يجعل الحكومة أيضا معبرة عن تطور آراء ومواقف المواطنين والمجتمعات، ويجعل الطبقات السياسية مفتوحة على الصاعدين الجدد من النواب المنتخبين أو السياسيين والنقابيين المدعومين بتيارات سياسية تحظى بقبول اجتماعي وانتخابي، وهذا من شأنه أن يجعل تشكيلات الحكومة والنخب السياسية منسجمة مع المجتمع، ويجعلها أيضا عرضة للتغير والتبدل والتجدد، ويجعلها خاضعة للمحاسبة والمراقبة. ويجب أن تمتد الإصلاحات التشريعية إلى القوانين والأنظمة المنظمة للحياة السياسية، مثل قوانين الأحزاب والانتخابات، والحريات الصحافية، والنشر، والنقابات المهنية والعمالية، والبلديات على النحو الذي يهدف إلى تشكيل حياة سياسية وعامة بحرية تامة، وبدون معوقات أو تعجيز للأحزاب والنقابات والبلديات، ففي التطبيق الحالي لهذه القوانين فإن الأحزاب والنقابات والبلديات ومؤسسات المجتمع المدني لا تملك فرصا كافية للعمل بحرية واستقلال أو امتلاك الموارد والقوة الكافية للتأثير وحماية نفسها، ومن المؤكد أنه في ظل قانون الانتخابات القائم على مبدأ الصوت الواحد دون تقسيم الدوائر الانتخابية وتنظيمها على نحو منسجم مع هذا القانون، أو عدم القدرة على الاستفادة من النتائج النسبية للأصوات، يجعل ذلك متعذرا على الأحزاب والتيارات السياسية القدرة على المشاركة في الانتخابات والحصول على أغلبية برلمانية وتشكيل ائتلافات حزبية وسياسية، وهذا يفرغ الحياة الحزبية من مضمونها، ويضعف الأحزاب السياسية. العرب القطرية 2009-10-04