حذر الاقتصادي الجزائري عبد الرحمان حاج الناصر من تدحرج البلدان المغاربية إلى الهامش أو الأطراف في مؤسسات صنع القرار الاقتصادي الدولي، وأكّد أن مدّخرات المغاربيين في بنوك أوروبا ارتفعت إلى 100 مليار دولار، مُعتبِرا أن هروب رؤوس الأموال سبَبه المخاوف التي تُساور الناس وعدم قُدرتهم على رُؤية المستقبل، بينما حجر الزاوية لكل عمل استثماري هو أن يستطيع صاحبه استشراف الزمن الآتي. ورأى أن هناك علاقات بين نُخب سياسية ومالية، هنا وهناك في المغرب العربي، يمكن أن تُثمر إذا ما ظلّت تعمل معا، لكن على شرط أن يحسم الأمريكيون والأوروبيون أمرهم، ويقترحون تسوية شاملة لقضية الصحراء تحفظ ماء الوجه لجميع الأطراف. وقال في حوار مع ، عندئذ، سيعود السلام إلى المنطقة وستكون ضربة البداية للسّير نحو الوحدة المغاربية. وتولى حاج الناصر منصِب محافظ البنك المركزي الجزائري في منعطف التسعينات الذي أبصر انتقال البلد من الحزب الواحد إلى التعدّدية والانفتاح الاقتصادي. وبعد انتكاس المسار، غادر إلى فرنسا حيث أسّس بنك أعمال قبل أن يُشارك في بعث بنك الأعمال المغاربي الدولي في تونس سنة 1994 والذي كان أول بنك أعمال يُبعث في شمال إفريقيا. التقت به خلال زيارة لتونس فكان هذا الحوار عن مستقبل الإقتصادات المغاربية. : لماذا لا تُقبِل الاستثمارات الخارجية بكثافة على بلدان المغرب العربي، رغم المزايا والحوافز الكثيرة والمُغرية الممنوحة لها؟ عبد الرحمان حاج الناصر: الاستثمارات تتكاسل لما تشعر بقلّة الأمان. وخلافا لما هو شائع، لا يرتبط الأمان بوجود أعمال نشل أو سرقة من عدمها، وإنما بالقدرة على رؤية الأمور لاستشراف التطوّر المرتقب على مدى عشر سنوات على الأقل. فالسؤال الذي يطرحه المستثمر على نفسه هو الآتي: هل سيتغيّر النهج الاقتصادي خلال العقد المقبل بما يجعلني لا أستطيع أن أضمن أموالي؟ هذا النّوع من الأمان لا يُقدّر بثمن بالنسبة للمستثمرين، إذ يمكن للمرء أن يُوظف حرّاسا شخصيين لحِمايته، لكنه لن يتحمّل المُخاطرة بالأموال التي يضعها في بلد من البلدان للاستثمار في هذا القطاع أو ذاك. والعنصر الثاني الذي يشترطه المستثمرون مرتبط بالإدارة أو بالأحرى البيروقراطية، إذ أن المُستثمر لا يريد إدارة تضع المشاكل في طريقه، بل تحلّها. أما العنصر الجوهري الثالث، فهو أنه يريد أن يرى أبناء البلد الآخرين يستثمِرون أيضا في بلدهم، وهو لن يأتي إذا ما لاحظ أنهم يُعرضون عن الاستثمار في أوطانهم، فأهمّ ضمانة لرأس ماله هو أن يثق أبناء البلد أنفسهم في سلامة المناخ الاستثماري في بلدهم. لكن ماذا نلاحظ على هذا الصعيد؟ طِبقا لأرقام جديرة بالثقة، ارتفعت مدخرات المغاربيين في بنوك أوروبا إلى 100 مليار دولار، ويمكن القول أن نصف الودائع تعود لجزائريين. وفي المقابل، يُقدر حجم التدفّقات المالية الصافية من أوروبا نحو البلدان المغاربية (والتي تشمل التدفّقات الاستثمارية) ب 7 مليارات دولار فقط، ويتشكّل نصفها تقريبا من الاستثمارات الجزائرية. فإذا كان هناك مستثمرون جزائريون في أوروبا أكثر ممّا هناك في الجزائر، فهذه مشكلة حقيقية. وهروب الاستثمار هذا لا يُعزى إلى قلّة فرص توظيف الأموال، فهناك من الفرص في هذه الضفة الجنوبية أكثر ممّا في الضفة المقابلة، إضافة إلى أن هامش الرّبح أكبر ممّا هو في أوروبا، لكن هروب رؤوس الأموال سبَبه المخاوف التي تُساور الناس وعدم قُدرتهم على رؤية المستقبل، بينما حجر الزاوية لكل عمل استثماري، هو أن يستطيع صاحبه استشراف الزمن الآتي. الاقتصادي الجزائري عبد الرحمان حاج الناصر الاقتصادي الجزائري عبد الرحمان حاج الناصر هذا يخص العلاقات العمودية بين أوروبا وبلدان المغرب العربي، لكن ما هي المُعوِّقات التي تُعطل التكامل الأفُقي بين هذه البلدان؟ عبد الرحمان حاج الناصر: المنطقة المغاربية هي على حدِّ عِلمي المنطقة الوحيدة في العالم التي تتمتّع بهذه الدرجة من الانسجام الثقافي، ولذلك، أيا كانت جنسية المُستثمر يكفي أن تُزال من طريقه العقبات ويتحرّر النشاط الاقتصادي من القُيود كي تنشأ أسواق أفقية تصنع تدريجيا مستقبلا مشتركا. ورغم التعطيلات والحواجز الراهنة، هناك علاقات بين نُخب سياسية ومالية هنا وهناك، يمكن أن تُثمر إذا ما استمرّت تعمل معا، لكن على شرط أن يحسم الأمريكيون والأوروبيون أمرهم ويقترحون تسوية شاملة لقضية الصحراء تحفظ ماء الوجه لجميع الأطراف. عندئذ، سيعود السلام إلى المنطقة وستكون ضربة البداية للسّير نحو الوحدة المغاربية. لكن بماذا تُفسِّرون أن الأمور لم تتقدّم نحو تحقيق هذه الوحدة؟ عبد الرحمان حاج الناصر: أذكر أن الإتحاد الأوروبي أطلق في سنة 1993 مشروع دراسة عن كُلفة تأخير الوحدة المغاربية على شاكِلة الدراسة التي تم إعدادها عن كلفة تأخير الوحدة الأوروبية قُبيل انطلاق قِطار التكامل بين البلدان الأوروبية، وكُلفت بالإشراف على اللجنة التي عُهِد لها بكتابة تلك الدراسة والتي ترأسَها ريمون بار (رئيس حكومة سابق في فرنسا)، لكن ما أن انطلق العمل حتى وضع بلد مغاربي كل ثِقله في الميزان لإلغاء الدراسة، وهو مغرب الحسن الثاني الذي أعلن أنه يرغب في ضمّ بلده إلى الإتحاد الأوروبي. وما فعله الحسن الثاني مليء بالدّلالات عمّا يجول في خواطر البلدان الأخرى، فلا يوجد بينهم من يحمل رؤية إقليمية شاملة. كل واحد منهم يتوهّم أنه يصنع الوحدة المغاربية، لكنه يُحاول أن يكون أنجب تلميذ لأوروبا ويسعى إلى أن يُصبح محاورها المُفضّل كي يُكلف بإدارة العلاقات مع الإتحاد المغاربي. لو نظرنا إلى الأوضاع بصورة إيجابية، ما هي العوامِل التي يُمكن أن تدفع في اتِّجاه التقارب والتكامل؟ عبد الرحمان حاج الناصر: تضُم الجزائر والمغرب وتونس حوالي 100 مليون ساكن، أي ما يعادل سكان تركيا تقريبا، غير أنها لا تمثِّل سوى 10% فقط من النمُو الذي تُحقِّقه تركيا. وعلى سبيل المثال، يتألف أسطول شركة الخطوط التركية من 200 طائرة في مقابل 80 طائرة فقط لدى الشركات المغاربية الثلاث. وطبعا يُمكن أن نُعدِّد مثل هذه الفجوات التي تتكرّر في ميادين عديدة، لكن لم يتوصّل الأتراك لتحقيق هذه القفزات ولم يُصبحوا بلدا صاعدا يُقرأ له حساب إلا لأن الأوروبيين فرضوا عليهم شروطا قاسِية في المجاليْن الاقتصادي والقانوني (التشريعي)، انتهت بإطلاق سيرورة بنّاءة يُمكن أن نعتبر أن لها أفضالا كثيرة على البلد، وكان من الممكن لأوروبا أن تفكِّر في فرض شروط إيجابية مماثلة على البلدان المغاربية، إلا أنها لا تهتمّ سوى بتسهيل إدخال منتوجاتها إلى الأسواق عبْر الاتفاقات التي توقعها مع تلك البلدان أو باستخراج المحروقات من أراضيها. هل من دوْر خُصوصي يمكن لرجال الأعمال أن يلعبوه للدّفع نحو التكامل بعيدا عن اعتبارات السياسيين؟ عبد الرحمان حاج الناصر: رغم كل ما ذكرناه، هناك تدفّقات حقيقية لأنواع من الأعمال بين البلدان الثلاثة، إذ تمّ إحصاء نحو 700 شركة تونسية تعمل في الجزائر، ولست أدري ما إذا كانت السياحة التونسية تستطيع الوقوف على ساقيْها من دون الجزائريين، وسيكون الأمر كذلك مع المغرب، عندما يُعاد فتح الحدود، لكن مصالح رجال الأعمال هي حاليا أقلّ من إيرادات الشبكات التي تستفيد من الأسواق الرمادية، لذلك، فالانفتاح ضرورة، إلا أنه يفترض أمريْن هما: شرعية النّخب والشفافية. ينبغي أن يختلط الناس ويتداخلوا، وتُخطِئ الأنظمة حين تلعب على أوتار النعرات الوطنية. العلاقات بين البلدان الثلاثة سالكة، أما الباقي فينتمي إلى الأسطورة. لاحظ أنه على أرض الواقع، لا توجد فوارق في المظهر الداخلي بين بيت موظف تونسي أو جزائري أو مغربي. لو عدنا إلى المستوى الإقليمي، ألا ترى أن الأزمة الاقتصادية العالمية ألقت بظلالها على المنطقة وهي تُهدِّدها بمزيد من التهميش؟ عبد الرحمان حاج الناصر: الأزمة العالمية تدفع المنطقة المغاربية إلى الأطراف، فهي بصدد إقصاء الجزائر مثلا من أطُر المفاوضات الإستراتيجية متعدِّدة الأطراف. البلدان الصناعية الكُبرى انطلقت في وضع نظام نقدي دولي جديد يمكن تسميته ب "براتن وودس2"، وهي بصدد تصوّر الأحجام وأماكن التفاوض. بدأ هذا المسار في قمّة العشرين في واشنطن العام الماضي، والتي شاركت فيها جمهورية جنوب إفريقيا باسم القارّة الإفريقية والسعودية باسم العالم العربي. مثلا "اللجنة النقدية والمالية" في صندوق النقد الدولي، والتي تمّ ترفيع عدد أعضائها من 22 إلى 24 عضوا، هي في مثابة مجلس إدارة، وهي إطار للمفاوضات غيْر معروف لدى العموم. الدول ممثلة في هذه اللجنة بحكّام بنوكها المركزية أو وزراء ماليتها، ويمكن أن تتِم مساءلتها بشكل غير رسمي حول قضايا جوهرية تخُص تعديل الاقتصاد العالمي. وفي الحقيقة، تُبحث هناك بعيدا عن أعيُن الإعلام، الخيارات التي ستُوجّه لاحقا المنتديات الاقتصادية العالمية، بما فيها قِمم مجموعة الدول الصناعية الثمانِ الكبرى، وهناك أيضا يتمّ التفاوض على تلك الخيارات، لأن البلدان المصنّعة وبلدان الجنوب، يمكن أن تتفاوض تحت مظلّتها. ألا ترون أن الدولة بصدد العوْدة إلى وضع قبضتها على القطاعات الاقتصادية مجدّدا؟ عبد الرحمان حاج الناصر: هناك هاجِس مشترك منذ الثمانينات يتمثل في ضمان أن لا يتدخّل العنصر السياسي في إدارة مؤسسات القطاع العام، لكن هذه المُراهنة أخفقت. ما زال المشكل قائما، فالنظام المصرفي هو أفضل مرآة تعكِس نوعية سيْر الدواليب في أي بلد، والانتقال من نظام تسيير مركزي إلى آخر غير مركزي يتطلّب وضع آليات تعديل قوية جدا، وبالتالي، فهذا يعني تعزيز قُدرات الدولة على التدخّل، وليس اضمحلالها، وهذا يستدعي وجود بنك مركزي قوي جدا. غير أن المشكلة هي أننا مقتنعون جميعا بضرورة تقوية الدولة، لكننا لم نعرف كيف نكتسِب الوسائل الموصلة لتحقيق ذلك الهدف. قُمنا بسَنّ قوانين، لكننا لم نُعاود تعليم أعوان الدولة، أي الموظفين وصنّاع القرار، في الصفّين الأول والثاني، ما هو موقِعهم في الدولة الجديدة. والأدهى من ذلك أن موقع هؤلاء بات أقوى في ظلّ الدولة الجديدة، بالمقارنة مع الموقع الذي كانوا يتبَوّؤُونه في الهيكلية السابقة للدولة. أجرى الحوار رشيد خشانة – تونس – swissinfo.ch