للأسف الشديد فإن القاعدة وأخواتها هي أوضح مثال على العمل الكبير والممكن أن يقوم به الصغار وعبر الإنترنت، ولكنها مقولة مغالطة، فهناك قدر غير محدود من الأعمال والفرص الممكنة للنجاح عبر الشبكة العالمية. يعرض توماس فريدمان تجربة شركة «أرامكس» الأردنية كقصة نجاح لمشروع شبابي بدأ صغيرا، واستطاع توظيف فرص العولمة والشبكية لبناء شركة عالمية للشحن، وقد استطاعت هذه الشركة الصغيرة «أرامكس» للخدمات البريدية أن تحل محل شركة عملاقة مثل إيربورن، فقد تمكنت من قيادة شبكة من الشركات التي تعمل في مجال الشحن وتسليم الطرود في جميع أنحاء العالم، وأن تطور نظاما شبكيا وحاسوبيا لإدارة وتنظيم هذا النشاط العالمي من عمّان. وكل ما احتاجه هذا النظام القائم على الشبكة هو برنامج تصفح، وكلمة مرور إلى شبكة أرامكس ليتيح للشركاء الدخول إلى نظام إدارة عالمي للشحن. وتحتاج الشركات الكبرى أيضا أن تتصرف مثل الصغرى، وتمثل شركة ستاربكس نموذجا في ذلك، فهذه الشركة العملاقة قائمة على سلسلة من المقاهي الصغيرة وتطوير الأشربة التي تقدم وفق احتياجات العملاء وتطوير العلاقة بين العملاء والمقاهي. وفي العالمية الجديدة فإن النجاح والعمل يقوم على التعاون، وتزداد الأعمال التعاونية أهمية، وتكون جزءا أساسيا من الإدارة والإنتاج والتسويق، ومصدرا لتقليل النفقات. ويمكن أن تحول الشركات أنظمتها الداخلية الخاصة بها للتطوير والمتابعة والتنظيم إلى سلعة تسوقها للشركات الأخرى، كما فعلت شركة «أتش بي» الأميركية التي حصلت على عقد لإدارة البيانات المصرفية لبنك إنديا في الهند، وتحاول الشركات اللجوء إلى الشبكية لتطوير أعمالها لا من أجل تقليل العاملين وتقليل النفقات. يفرض هذا النظام الجديد والذي يسميه فريدمان «العالم المسطح» على الدول بما فيها الولاياتالمتحدة الأميركية والدول المتقدمة، تحديات جديدة لتكون قادرة على البقاء في السوق والتنافس. وهذه الدول تحتاج جميعها أن تواصل إنتاج عمال معرفة قادرين على إنتاج سلع قائمة على أفكار يمكن أن تباع عالميا، وبوسعهم شغل وظائف المعرفة التي ستستحدث في الاقتصاد العالمي. وتحتاج الدول أن تعيد بناء اقتصادها ومؤهلات مواطنيها لتكون مميزة ومطلوبة، لا أن تدافع عن فرصهم أمام التنافس العالمي، فذلك لن يجدي نفعا. ويحتاج الأفراد إلى أن يطوروا قدراتهم ومهاراتهم وفقا لتطور السوق نفسه، وإلا فإن أهميتهم تقل بالنسبة للمؤسسات التي يعملون فيها وبالنسبة للسوق، وقد يؤدي ذلك إلى مرونة أوسع في نشر العمالة ورأس المال وأنظمة التوظيف والتسريح (هل لقوانين العمل الجديدة والأزمات المصاحبة لها كما يحدث في فرنسا على سبيل المثال علاقة بهذه التحولات؟). وتبدو الولاياتالمتحدة الأميركية وفق هذا المنظور تعاني من أزمة، إذا ما قورنت بالهند والصين اليوم لا غدا، ولكن هل تستثمر في المستقبل وتهيئ الأميركيين كما يجب للسباق المنتظر؟ يقول فريدمان إن الإجابة هي لا. لقد بدأ المجتمع الأميركي ينحدر في التسعينيات عندما شب الجيل الأميركي الثالث بعد الحرب العالمية الثانية، إذ ولد ازدهار تكنولوجيا المعلومات انطباعا لدى كثير من الأميركيين بأن في وسعهم الإثراء دون الاستثمار في العمل الجاد. وكان من حسن حظهم أن الاقتصاد الأميركي كان هو الأفضل وبلا منافسة تقريبا لمدة 40 عاما بعد الحرب، وقد أدى ذلك إلى ميل مفرط للاستهلاك. كانت الولاياتالمتحدة تعوض النقص الكبير في الكفاءات العلمية بفتح المجال لهجرة العقول إليها، ولكن تسطح العالم اليوم وتواصله يسهل كثيرا على الأجانب الابتكار دون أن يكون عليهم اللجوء إلى الهجرة، كما أن بإمكانهم اليوم إنجاز أعمال على مستوى عالمي لشركات عالمية بأجور عالية دون أن يضطروا لمغادرة بلادهم. وتبدو الصين سيدة هذا المشهد، فهي الشريك الأكبر في السوق العالمية، وقد بدأت تزيح المكسيك وكندا من سوق التصدير إلى الولاياتالمتحدة، بل وتغرق أسواقهما أيضا. تحتاج الدول جميعها اليوم إلى تفحص قاسٍ وصادق للذات، وإلى أن ترى نفسها على حقيقتها، لأن التطور عملية تطوعية وليست تلقائية، وهي تحتاج إلى قرار إيجابي لاتخاذ الخطوات الصحيحة، لكنها تبدأ بمعرفة الذات وفحصها. والأمر نفسه يبدو بالنسبة للشركات، فلم يعد التنافس مقصورا على الشركات العملاقة، ولكن الشركات الصغيرة أصبحت قادرة على التحرك مثل الكبار والعمالقة، فتستطيع شركة صغيرة أن تعمل وتنشط في السوق العالمية في جميع أنحاء العالم كما لو أنها شركة متعددة الجنسيات. العالم المسطح يتيح أيضا المجال ويسهل كثيرا من الأعمال غير القانونية، مثل التصوير بالهاتف الجوال والغش في الامتحانات لطلبة المدارس والجامعات، والاستبداد السياسي، والإرهاب والتهريب والجرائم الجنائية، بل واستخدام التقنية لأهداف مناقضة تماما للانفتاح العالمي وكتكريس الانغلاق والتخلف والعزلة أيضا. إن التجارة كما يصفها السياسي البريطاني ريتشارد كوبدن (1857) دبلوماسية إلهية، وما من طريق غيرها لتوحيد الناس في وشائج السلام. العرب 2009-11-04