لقد تحوّلت المبادرة التي أطلقها حزب الإتحاد الديمقراطي الوحدوي على لسان أمينه العام الأخ أحمد الإينوبلي بمناسبة افتتاح الحملة الانتخابية الرئاسية والتشريعية الأخيرة إلى مادة إعلامية رئيسة في الصحف التونسية وحتى الأجنبية وهو ما جعل موضوع مطالبة فرنسا بالاعتذار للشعب التونسي وتعويضه عن ثرواته التي نهبت إبان الحقبة الاستعمارية موضوعا شديد الحضور في الصحف متابعة وتحليلا وفي الحوارات مع بعض الشخصيات السياسية. وإذ نسجّل شبه الإجماع على أهمية المبادرة وعمقها في تكريس الخط الوطني والتأكيد على حق الشعوب المستعمرة في محو آثار الحقبة الاستعمارية معنويا وماديا فإن الواجب يدعونا إلى توضيح ما بدا غامضا لدى البعض توضيحا لا نسعى من روائه إلى الانخراط في سجال مع من وقف كليا أو جزئيا ضدّ هذه المبادرة بل نسعى إلى الكشف عن بعض المرتكزات الرئيسة التي بنى عليها الإتحاد الديمقراطي الوحدوي مبادرته من أجل خلق أرضية مثلى للحوار والفعل المشترك مع كلّ من يقف معنا على نفس الخطّ الوطني المرتكزات السياسية للمبادرة: إن أهم المرتكزات السياسية التي أسس عليها الإتحاد الديمقراطي مبادرته تتمثل في الآتي: 1 – إن مبادرة الإتحاد الديمقراطي الوحدوي وإن اندرجت في سياق الحملة الانتخابية التي تطبعها الظرفية ويحكمها التنافس حول مكاسب انتخابية فإن المتابع للحياة السياسية ولنشاط الأحزاب سرعان ما يلاحظ أن الإتحاد الديمقراطي الوحدوي كان واضحا منذ البدء عندما أكد على أن رهانه الأول سياسي وليس انتخابيا كما جاء على لسان أمينه العام في كلمة الإعلام عن الترشح للانتخابات الرئاسية . إن التأكيد على الرهان السياسي هو خيار حزبي صدر عن رؤية واعية لمتطلبات المرحلة وما تقتضيه من ترسيخ لمبادئ الحزب المحددة لهويته السياسية ولنهجه السياسي وتثبيت أقدامه في التاريخ الوطني الحافل بالمآثر والانتصارات. وإذا كان حزب الإتحاد الديمقراطي الوحدوي قد أولى العملية الانتخابية ما تستحقه من اهتمام واحترام أظهرهما استعداده الجيد للإستحقاقيين الإنتخابيين الرئاسي والتشريعي وحسن إدارته للحملة الإنتخابية وتقيّد مناضليه بالقوانين ذات الصلة فإنه كان أكثر تركيزا على المكاسب السياسية، فبنى سلّم أولوياته مقدّما الوطني على الحزبي والسياسي على الإنتخابي وفق مقاربة تحليلية لمتطلبات مرحلة التحول الديمقراطي وما توجبه على جميع الفاعلين السياسيين من تأكيد على المشترك من أجل بناء سليم لسيرورة التنمية السياسية بالبلاد وفهم دقيق للآليات (Mecanismes ) الحراك السياسي وطنيا. في هذا الإطار من التفكير والرؤية يجب أن تندرج مبادرة الإتحاد الديمقراطي الوحدوي إذ تمثل في سياق التطور العام لمقاربة الحزب وفعله السياسي صعودا إيجابيا لمراكمة بناها منذ أمد بعيد وأقام صرحها على أولوية الثابت الوطني . إن النظر إلى المبادرة من زاوية السياق العام الذي نشأت في رحمه وقاد إليها هو الكفيل بتخليصها من قيد اللحظة والمناسبة والرهانات الظرفية . 2 – إن الإتحاد الديمقراطي الوحدوي وهو يطلق مبادرته لم يفكر أبدا في احتكارها و"تحزيبها" من أجل تحقيق مكاسب ضيّقة ذات طابع خصوصي لأنه كان على وعي تامّ بالخصيصة الوطنية للمطالبة بالإعتذار والتعويض ومن ثمّ بخطورة احتكار ما هو وطني مشترك أخلاقيا وسياسيا . لقد دعا حزب الإتحاد الديمقراطي الوحدوي الجميع إلى تبنّي المبادرة من أجل تحقيق إجماع وطني حولها تصبح بمقتضاه بندا رئيسا في جدول أعمال كل الفاعلين السياسيين بل إن الإتحاد الديمقراطي الوحدوي عمل على تحويلها إلى مبادرة عربية وهو ما تمّ فعله بفضل حسن الإستعداد والروح الوطنية العالية الذين وجدهما عند الأحزاب العربية حاكمها ومعارضها في المؤتمر الخامس المنعقد أيام 11 – 12 - 13 نوفمبر 2009 بالعاصمة السورية دمشق لتصبح مطالبة القوة الإستعمارية بالإعتذار والتعويض عنوانا رئيسا لمقاومة الرغبات الإستعمارية الجديدة من جهة ولمحو الآثار النفسية والمادية التي ألحقتها تلك القوى بشعوبنا. لقد سعى الإتحاد الديمقراطي الوحدوي في كل المبادرات التي أطلقها إلى تحقيق إجماع حولها من خلال إشاعة جوّ من التفاهم والإيمان بالعمل المشترك من أجل "المكاسب المشتركة" بما يزيل كل اعتقاد بالاحتكار أو السعي إلى تحصيل (مكاسب حزبية خاصّة) فلم يكن نهجه السياسي مبنيا على إرادة الاحتكار وتسجيل مبادراته في دفاتر الملكية الخاصة تقوده ذات الرؤية المنطلقة من فهم عميق لمتطلبات المرحلة وما تقتضيه من تركيز على المشترك وعلى تقاطع جهود جميع الفاعلين السياسيين من أجل مراكمة المكاسب وبناء أرضية صلبة للتنافس السياسي لا تتناقض مع المصالح العليا للوطن. 3) لم تكن مبادرة الاتحاد الديمقراطي الوحدوي ناشئة عن "سلوك شعبوي" يخاطب العواطف الوطنية المناضلة في شعبنا لغايات انتخابية ظرفية بل كان دائما يأخذ بعين الاعتبار المصالح العليا للبلاد وعلاقاتها بالدول الصديقة. فقد آمن الاتحاد الديمقراطي الوحدوي بأن العزلة لا تؤدي إلا إلى طريق مسدود في عالم اليوم القائم على تشابك المصالح وتبادل المنافع ولكنه آمن في الآن نفسه بضرورة العمل من أجل علاقات دولية قائمة على التضامن وتكافؤ الفرص وعلى الاحترام المتبادل بين الدول وفي هذا السياق تندرج مبادرته على اعتبارها مدخلا ضروريا لإقامة علاقات متوازنة بين الدول. إن الاتحاد الديمقراطي الوحدوي لم يطالب بقطع العلاقات مع فرنسا بل طالبها بالاعتذار والتعويض لتتصالح مع ذاتها أولا باعتبارها البلد الذي رعى حقوق الإنسان والديمقراطية بما يتناقض مع ملمحها الاستعماري المعادي للإنسان وحقوقه الطبيعية ولتمحو – ثانيا- آثار تلك الحقبة الاستعمارية البشعة وتبدي "حسن النية" في إقامة علاقات متوازنة مع مستعمراتها القديمة بعيدا عن حملات استعادة "المجد الاستعماري" بأشكال جديدة تفوح منها رائحة الوصاية. إن الاتحاد الديمقراطي الوحدوي يدرك جيدا أهمية ربط علاقات مصالح مع مختلف دول العالم ولكنه يدرك أهمية تصفية الإرث الاستعماري كمقدمة لبناء علاقات تقوم على التعاون والاحترام المتبادل من اجل عالم متضامن، وفي هذا السياق دون غيره تندرج مبادرة مطالبة فرنسا بالاعتذار والتعويض ممّا ينزع منها كل شائبة شعبوية ويخلصها من كل تهريج غوغائي. استنتاجات إن ربط المبادرة بالمزايدة السياسية أو الشعبوية قول متسرّع يلغي التأكيد على أهمية هذا المطلب الوطني وقد حاولنا توضيح أهم المرتكزات التي تأسست عليها مبادرة الاتحاد الديمقراطي الوحدوي من أجل توسيع دائرة الاتفاق حولها وتضييق دائرة الخلاف منطلقنا في ذلك الملاحظات الإيجابية التي صدرت عن هذا الطرف أو ذاك وإن خالطتها ملاحظات سلبية. إن التفكير الإيجابي الذي يهدف للبناء والمراكمة يجعلنا ننظر بكثير من الاهتمام إلى تلك الملاحظات الإيجابية وفي نفس الوقت توضيح ما بدا عند البعض غامضا لسبب أو لآخر من أجل بناء أرضية مشتركة تقوم على الحوار بعيدا عن منطق السجال وتسجيل النقاط على حلبة الصراع والتنافس وهذه الأرضية تتطلب منا جميعا العمل على تفعيل المبادرة والمساهمة في تعميمها حتى تتحول إلى مبادرة وطنية لا يحتكرها أي طرف ولا يقوم حولها أيّ صراع. لقد حققت هذه المبادرة مكسبا مهمّا من خلال تحوّلها إلى مبادرة عربية وهذا المكسب يحث كل قوانا الوطنية على المضي قدما في تأمين شروط فعاليتها بعيدا عن منطق "مخالفة المنافس" وإن نطق حقا من أجل مزيد رصّ الصفوف وتكريس الخط الوطني في سيرورة البناء السياسي بالبلاد. إن الاتحاد الديمقراطي الوحدوي لم يلق بمبادرته في عراء التاريخ بل بناها على أساس متطلبات المرحلة ومقتضيات فك الارتباط نهائيا مع الإرث الاستعماري الذي لا يزال يطأ ثقيلا على شعبنا نفسيا وماديا ولا يزال معينا ينهل منه الاستعماريون الجدد، ومن أجل بناء علاقات دولية أساسها الندية والتضامن والاحترام.