يحاول المشاركون في تأليف هذا الكتاب أن يجيبوا على عدد من الأسئلة الهامة والشائكة عن علاقة القيم الإسلامية بمبادئ الدولة الحديثة وقيمها، ومدى إمكانية تطوير خطاب إسلامي مدني وديمقراطي، يمكنه أن يستجيب لتحديات الواقع السياسي الراهن في العالم الإسلامي، كما تضافرت مساهمات المشاركين لدفع ما يظنه البعض تعارضا بين ثوابت إسلامية وبين شروط المشاركة السياسية الكاملة المتعارف عليها في النظم الحديثة. -الكتاب: الإسلام.. الدولة والمواطنة -المؤلف: مجموعة من الباحثين -عدد الصفحات: 185 -الناشر: مركز القدس للدراسات السياسية, عمان, الأردن -الطبعة: الأولى/2009 من الخلافة إلى الرئاسة يبدأ الكتاب بمساهمة لوكيل مؤسسي حزب الوسط في مصر الباحث أبو العلا ماضي، يتناول فيها التطورات التي مر بها شكل الدولة الإسلامية منذ أن ولدت في المدينةالمنورة في ظل العهد النبوي. فقد كان التطور الأول عقب وفاة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) حيث أخذت الدولة شكل الخلافة التي تتحرى الرشد، وتحاول أن تسير على خطى النبوة، وهي الفترة التي لم تدم أكثر من ثلاثين عاما، لتبدأ مرحلة جديدة هي مرحلة الحكم المتوارث والملك العضوض، التي استمرت منذ أن استتب الأمر لمعاوية بن أبي سفيان عام 40 هجرية وحتى سقوط الدولة العثمانية في عشرينيات القرن الميلادي الماضي. ومع سقوط الدولة العثمانية، بدأت الدول الإسلامية في إنشاء عهود جديدة متمثلة في الدساتير القطرية، حيث أصبح لكل دولة دستور ونظام قانوني، وهو ما أوقع المسلمين –برأي الباحث- في خلاف وجدل كبيرين حول مدى توافق هذا النموذج الحديث مع الإسلام، وهل نظام الخلافة في الدولة الإسلامية القديمة هو النموذج الوحيد المعتمد إسلاميا؟ وهل يجب العمل على استعادة هذا النموذج أم لا؟ وما القيم الحاكمة للدولة في المفهوم الإسلامي خاصة عند الحركات والجماعات والأحزاب الإسلامية؟ وينقل الباحث طائفة كبيرة من أقوال المفكرين الإسلاميين المعاصرين الذين انتهوا جميعا إلى أن الدولة في الإسلام مدنية لا دينية، وأن الخلافة ما هي إلا مجرد شكل لا قداسة له، وأن الإسلام لا يعرف شكلا معينا للدولة يأثم المسلمون بتركه ويثابون بإقامته. ويخلص الباحث إلى أن الدولة القطرية الحديثة، القائمة على الحدود الجغرافية، والمتكونة من مواطنيها أيا كانت دياناتهم، هي نموذج مقبول داخل الإطار الإسلامي. ولاية الفقيه وولاية الأمة " في زمن غيبة المعصوم تتولى الأمة مقدراتها السياسية، في إطار الشرعية الإسلامية، ويكون كل إنسان مسؤولا، ويكون المجتمع ولي نفسه، وتبني الأمة لنفسها نظامها السياسي على أساس الشورى، وليس الفقه شرطا لرئاسة الدولة أو الحكومة الإسلامية المنتخبة " وكما مر مفهوم الدولة بمراحل مختلفة في الفكر السني، فإن الفكر الشيعي الإمامي الحديث كان له نصيب من هذا التطور، وهو ما تناوله مستشار الرئيس الإيراني الأسبق الباحث محمد شريعتي، حيث استعرض مفهوم الإمامة كركن عقائدي وليس مجرد فرع من فروع الفقه. ولأن الفكر الشيعي الإمامي يلقي بمسؤولية تأسيس النظام السياسي وزعامة الدولة وقيادة الأمة وإدارة شؤونها على الإمام المعصوم، فقد واجه الفكر السياسي الشيعي مأزقا كبيرا بسبب غيبة هذا الإمام، التي جعلت كل هذه المسؤوليات متوقفة وشاغرة. ومن أهم النظريات التي طرحها الفقهاء والمفكرون الشيعة لمواجهة التعطيل الذي تسببه غيبة الإمام نظرية ولاية الفقيه التي اقترحت لأول مرة في إيران مع تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1979 بقيادة الإمام الخوميني الذي اعتبرها ركنا أساسيا في نظام الإمامة في عصر الغيبة، ورأى أن الفقهاء هم نواب الإمام المعصوم في كل ما كان يقوم به، كما اعتبر أن الفقيه الولي ليس بالضرورة أن يكون الأعلم والأفقه. لكن الفكر الشيعي الإمامي لم يجمد عند نظرية ولاية الفقيه رغم أهميتها النظرية والعملية، فقد قدم مفكرون كثيرون نظرية أخرى هي ولاية الأمة على نفسها، التي يرى الباحث أن العلامة الراحل محمد مهدي شمس الدين هو أبرز الذين قالوا بهذه النظرية، حيث دعا إليها وشرحها في عدد من كتبه التي تناولت تطور الفكر السياسي. وخلاصة هذه النظرية أنه في زمن غيبة المعصوم تتولى الأمة مقدراتها السياسية، في إطار الشرعية الإسلامية، ويكون كل إنسان مسؤولا، ويكون المجتمع ولي نفسه، وتبني الأمة لنفسها نظامها السياسي على أساس الشورى، وليس الفقه شرطا لرئاسة الدولة أو الحكومة الإسلامية المنتخبة. إسلامية الدولة والنموذج الإندونيسي أما الباحث في المركز الدولي للإسلام والتعددية في إندونيسيا إحسان علي فوزي، فتناول مفهوم إسلامية الدولة الإندونيسية التي تعد على الصعيد الديني من أكثر المجتمعات تعددية في العالم، حيث ينقسم سكان البلاد إلى مسلمين (88%) وبروتستانت (5%) وروم كاثوليك (3%) وهندوس (2%) وبوذيين (1%) وغيرهم (1%)، كما أنها وبعد انفصال الهند وباكستان عام 1948 أصبحت أكبر دولة إسلامية في العالم. لكن الباحث يرى أنه لا يمكن اعتبار إندونيسيا "دولة إسلامية" بالمفهوم القائم في السعودية أو السودان أو إيران، أو بالمنظور الديني السياسي أو الأيديولوجي، فهي دولة تقوم على ركيزة فكرية عميقة تتمثل في الأيديولوجية الوطنية المعروفة ب"بانتشاسيلا" والتي تنحصر في مبادئ خمسة هي: الإيمان بالله الواحد الأحد، والإنسانية العادلة المتحضرة، ووحدة إندونيسيا، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية. " أكثر الإندونيسيين يعتقدون أن "البانتشاسيلا" هي حزمة مبادئ مفيدة وضرورية يمكن أن تعين على استدامة وحدة البلد، لكنهم يرون أيضا أنه لا يمكن لدين معين أن يشكل الأساس الدستوري للدولة " ويرى الباحث أن أكثر الإندونيسيين يعتقدون أن "البانتشاسيلا" تعتبر حزمة مبادئ مفيدة وضرورية يمكن أن تعين على استدامة وحدة البلد، لكنهم يرون أيضا أنه لا يمكن لدين معين أن يشكل الأساس الدستوري للدولة، فالدين أمر مهم وأساسي، لكن الدولة نفسها لا تستطيع أن تأخذ طابعا ثيوقراطيا. لكن الطريق أمام "البانتشاسيلا" لم يكن سهلا, فقد كان الزعماء الإسلاميون يضغطون بشدة لجعل الإسلام أساسا للدولة، وأن يكون انتخاب الرئيس من بين المسلمين فقط، وهو ما رفضه الرئيس سوكارنو الذي اقترح المبادئ الخمسة لتكون مزيجا يجمع بين الوطنية العلمانية وفكرة الدولة الإسلامية. المواطنة وولاية غير المسلم ولأن اندماج الإسلاميين في الحياة السياسية يستلزم قبولهم بكل شروط الدولة الحديثة، وعلى رأسها المساواة في الحقوق والواجبات التي ترتبها المواطنة دون تمييز ديني، فقد مثل الموقف الفقهي الرافض لتولي غير المسلم رئاسة الدولة عقبة ومشكلة في وجه حركات الإسلام السياسي التي تتبنى هذا الموقف. وقد تناول الكتاب هذه الإشكالية من خلال البحث الذي أعده مدير المركز اللبناني للدراسات والحوار وجيه قانصو، الذي يرى أن أهلية غير المسلم أو عدم أهليته لتولي السلطة العليا في المجتمع المسلم لا تتحدد بحيازته صفات ذاتية ومؤهلات خاصة، بل ترجع إلى تحديد مفهوم السلطة ووظيفتها، والرابطة الاجتماعية التي يقوم على أساسها الانتماء للمجتمع وتتقنن من خلالها الحقوق والواجبات وقواعد المشاركة في الحياة العامة. ويرى الباحث أن الفكر الإسلامي المعاصر بحاجة إلى أن يحسم موقفه من أحكام "أهل الذمة", وهل هي أحكام ثابتة تهدف إلى عزل غير المسلم عن السياسة والحكم؟ أم أنها أحكام تاريخية ارتبطت بأحوال الدعوة الإسلامية التي تطلبت تماثلا بين أفراد المجتمع وبين سلطته السياسية لتذليل الموانع المعوقة لانتشار الدين؟ ويؤكد الباحث أن الرصد التاريخي لحالة الدمج بين السياسي والديني في سلطة واحدة يكشف أن التمييز بين المجالين لم يكن بمنأى عن وعي بعض فقهاء المسلمين وعلمائهم، إذ استطاع كل من ابن خلدون والماوردي رؤية مجال سياسي غير ديني (عقلي) إلى جانب الوظيفة الدينية في ممارسة السلطة، بيد أن تصور المجال السياسي المستقل عن الصفة الدينية لم يأخذ حيزه المعتبر في التفكير السياسي. " اندماج الإسلاميين في الحياة السياسية يستلزم قبولهم بكل شروط الدولة الحديثة، وعلى رأسها المساواة في الحقوق والواجبات التي ترتبها المواطنة دون تمييز ديني " لكن الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر بدأ في إعادة النظر في مسألة السلطة وطبيعتها، وهو ما يرجعه الباحث إلى احتكاك النخب الإسلامية بالغرب، وتعرفهم إلى نظم سياسية غير معهودة لديهم، مما جعل هذه النخب تأخذ بعين الاعتبار مجالات التمثيل الشعبي، والحكم الدستوري، والميل إلى لا دينية الدولة، واعتبار السلطة ذات مهام ميدانية تتعلق بالتنمية وتحقيق العدالة، وأصبحت هذه الرؤى تسم الخطاب الإسلامي الجديد ابتداء من القرن 19، ومن ثم أخذ التنوع الديني داخل المجتمع ينظر إلى هذا الخطاب نظرة إيجابية، حيث صار غير المسلمين في هذا الخطاب شركاء أصليين في صنع الواقع السياسي للأمة. المرأة والولايات العامة أما مسألة تولي المرأة الولايات العامة فتناولتها أستاذة القانون العام في جامعة مراكش عائشة الحجامي التي اعتبرت أن معاينة واقع المشاركة السياسية للنساء في الدول العربية والإسلامية يظهر بوضوح تدني مستوى اندماجهن في الحقل السياسي، سواء في المواقع ذات الأصل الانتخابي، أم الراجعة إلى التعيين. وترى الكاتبة أن أسباب إقصاء النساء عن مراتب المسؤوليات يعود بالدرجة الأولى إلى غياب الإرادة السياسية لدى أصحاب القرار في هذا الشأن، وهو موقف يخلط –برأي الكاتبة- بين الدين وبين العادات والتقاليد المجتمعية التي يحاول المتمسكون بها أن يجدوا تبريرا لمواقفهم في بعض النصوص الدينية التي تم تأويلها بطريقة مجحفة، وأدت إلى إقصاء المرأة من الفضاء العام، كما تلفت الكاتبة الانتباه إلى ارتفاع مستوى مشاركة المرأة في الدول الإسلامية الآسيوية مما يؤكد الأبعاد العرفية والمجتمعية لهذه المسألة. ولأهمية الجانب الفقهي في هذه القضية ترى الكاتبة أن معالجة هذا الموضوع المعقد والشائك يقتضي استرجاع التفكير في المفاهيم المؤطرة له قرآنا وسنة واجتهادا فقهيا، وذلك بهدف التمييز بين ما ينتمي للأصول الشرعية القطعية ويحقق مقاصدها العامة, وبين ما يدخل في باب المتغير من العادات والتقاليد والتأويلات الخاطئة التي التبست بممارسات خاطئة وانحرافات مفاهيمية عبر القرون، حتى أصبحت جزءا من الشريعة، واكتسبت أحيانا نفس القداسة والحصانة. المواطنة والدساتير الإسلامية أما عن العلاقة بين فكرة المواطنة وبين فكرة الدستور المكتوب، فقد تناولها الباحث المصري المتخصص في مسائل المواطنة سامح فوزي الذي يقرر أن الحركات والقوى الإسلامية التي تطالب بالاحتكام إلى القرآن بوصفه دستورا للمسلمين، لم تغفل أهمية وجود دستور مكتوب، يحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم وطبيعة عمل مؤسسات الدولة. " ممارسة التعددية لا تحتاج بالضرورة إلى نظام علماني، على غرار النموذج الأوروبي، ولكن تحتاج إلى إدراك عميق لمفهوم التنوع، لا سيما أن في الخبرة والممارسة الإسلامية ما يسمح بذلك " ويشير الباحث إلى خبرات دول ذات أغلبية مسلمة، وقد عكست تجاربها الدستورية تنوعا واختلافا، مثل ماليزيا التي ينص دستورها على أن "الإسلام هو دين الاتحاد الفدرالي", لكنه في نفس الوقت في مادته الثامنة حظر بالمطلق أي تمييز بين الأفراد بسبب الدين أو العرق أو محل الميلاد، كما أن تركيا يوجد بها دستور علماني يتساوى فيه كل الأفراد أمام القانون، حيث تمنع مادته العاشرة أي تفرقة بسبب اللغة أو العرق أو اللون أو الرأي السياسي أو المعتقد الفلسفي أو الدين أو الطائفة أو أي اعتبار آخر, كما نصت نفس المادة على تعهد الدولة بضمان تحقيق هذه المساواة. وفي المقابل يرى الباحث أن الإصرار على وضع نصوص إسلامية في دساتير دول تتعدد فيها الأديان والثقافات قد يكون سببا للتوتر وعدم الاستقرار الذي ربما يؤدي إلى تفسخ عرى المجتمع، وهي حالة يرى الباحث أن النموذج السوداني ليس بعيدا عنها. ويخلص الباحث إلى أن ممارسة التعددية -دستوريا وسياسيا- لا تحتاج بالضرورة إلى نظام علماني، على غرار النموذج الأوروبي، ولكن تحتاج إلى إدراك عميق لمفهوم التنوع، لا سيما أن في الخبرة والممارسة الإسلامية ما يسمح بذلك. المصدر:الجزيرة