مصر – بورسعيد إن من أشق ما تبتلى به أمة أن يفقد أفرادها الثقة فى بعضهم البعض ، فإن فقد الثقه تجعل الامة فردا ، بينما الثقه تجعل الفرد أمة ، الثقة تجعل الاجزاء كتلة ، و فقدانها يجعل الكتلة أجزاء غير صالحه للإلتئام ، و تصبح الاجزاء متنافرة متعادية توجه كل قوتها للوقاية و النكاية . لو تصورنا حال أسرة فقد الزوج فيها ثقته بزوجته ، والزوجة بزوجها ، كيف تكون حياة هذه الاسرة ، نزاع دائم ، سوء ظن متبادل ، شجار مستمر ، و إنتظار للزمن ليتم الخراب فى النهاية . هكذا الشأن فى كل مجتمع : فى الحزب السياسى ، فى الجيش ، فى المعهد التعليمى ، فى القرية ، فى الأمة . و لماذا نذهب بعيدا فإن الانسان الفرد إن فقد الثقه فى نفسه فقد نفسه ... فلا يستطيع الكاتب أن يكون كاتبا مجيدا ، و لا الجندى جنديا شجاعا ، ولا أى عالم أو صانع أن يجيد عمله أو صناعته إلا إذا وثق بنفسه لدرجة ما ، فكم من الكفايات ضاعت هباء ، لأن أصحابها فقدوا ثقتهم بأنفسهم ، و أعتقدوا أنهم لا يحسنون صنعا ولا يجيدون عملا .
إن ما نراه الأن من أعراض الفشل فى أى أمة يعزى فى المقام الاول الى فقدان الثقة ، فالحزب السياسى ينهار يوم أن يفقد الاعضاء ثقتهم بعضهم ببعض ، و الشركات العاملة فى المجال الاقتصادى تنهار يوم يتعامل أفرادها على أساس فقدان الثقة ، و المعهد التعليمى يفشل يوم لايثق الطلاب بأساتذتهم و الاساتذه بطلابهم ، وكل جماعة تفنى يوم يتم فيها فقدان الثقة .
و لا أغالى بالقول أن ما يتبدى أمامى الان أن معظم نظمنا على ما يبدو – مبنية على فقدان الثقة ، فهناك العديد من الاجهزة تراقب كل فرد يعمل و مفتش لكل فرد يتربص به حتى ينقض عليه متى أخطأ ، فكم من الاموال تنفق على المفتشين و المراجعين و مراجعو المراجعين و تداول الاوراق بين أكثر من يد ، و من قسم إلى قسم ، و من مصلحه إلى مصلحة و من وزارة إلى وزارة ، كل ذلك له من الاسباب ، أهمها " فقدان الثقة " . و إن شئت حصر ما ينفق من أموال على فقدان الثقه فحدث ولا حرج ، فإننى أتصور أن نصف المرتبات التى يحصل عليها العامليين تصرف فى سبيل فقدان الثقة ، و إن كان تصورى هذا لا يبتعد كثيرا عن الواقع . و المصيبة ليست كلها فى الاموال ، فإن قدرنا قيمة الزمن كغيرنا من الأمم لبان لنا هول و فداحة الايام و الشهور و السنين التى تضيع فى إجراءات و تدقيقات و مراجعات و خلافه جميعها تأسست على فقدان الثقة . و كما نرى عقول من كبار أولى الامر فى الامة تفكر ثم تفكر ، و تضع الخطط و القوانيين و اللوائح و المنشورات تلو بعضها البعض ، و يخيل لها أنها بما فعلت تأمن الخيانه والسرقه و التزوير ، و تظن أنها بذلك تعالج من فسد ، و تصلح ما أختل ، و انما هى بذلك تزيد فى فقدان الثقه . هذا بالاضافه الى ما تسبغه كل هذه المظاهر على نفسية العامل و هو يرى كل هذه التشريعات قد شرعت من أجله و بسبب فقدان الثقه به ، و أنها كلها تنظر اليه كلص و كمجرم و كمزور ، فيفقد الثقه بنفسه ، و يعمل بالتالى فى حدود ما رسم له ، و يشعر بسلطان الرقابة و تسلطها عليه ، فلا يجرؤ على التفكير بعقله ، ولا يجرؤ على تحمل تبعة تصرفه ، يفر من الموقف ما وسعه الفرار ، حتى يكون بمأمن دائم من الاسئلة والمسآءلة ، وهذا من اسرار بطء العمل و ركود الحركة و ضياع مصالح الناس .
فإذا ما استطاعنا إعادة نشر الثقة بين الناس و تسهيل الاعمال ، ونقل الشعور بالطمأنينة بأى ثمن ، حتى لو تحملنا خسارة فى الاموال أكثر مما نكسب و قد آمنا بوجوب الانتظار على هذا الاساس الجديد ، حتى يذهب هذا الجيل الذى أفسدته النظم القديمة ، وقضى على نفسه و على شعوره ، و أنتظرنا جيلا جديدا نشأ فى أحضان ( الثقة ) والشعور بالواجب و بالحرية فى العمل فى دائرة ضيقة من القوانين المعقولة . هكذا الشأن فى جميع الامور السياسيه والاجتماعيه ، فثقة أفراد الحزب السياسى بعضهم ببعض أضمن للنجاح و أقرب الى تحقيق الاهداف - و الثقة فى الوزارة بين الوزير و العاملين و العاملين فى الوزير و لو تصنعا – فإنه أقرب أن ينقلب هذا التصنع خلقا ...... و من البديهى بالقول أن العدوى فى المعانى كالعدوى فى المحسات ، فكما أن الكسل يبعث على الكسل ، و الضحك يبعث على الضحك ، فالثقه تبعث على الثقه ، و عدمها يبعث على عدمها ، و بالتالى إن ضاعت الثقة ضاعت الامة .