انتشرت مؤخرا، في المجتمع التونسي، ظاهرة نفسية اجتماعية طالت فئات شعبية متعددة ومن الجنسين، وأثارت جدلا كثيرا في صفوف الباحثين النفسيين والاجتماعيين وهي ظاهرة الانتحار. وحسب ما أوردته دراسة حديثة حول هذه الظاهرة فإن واحداً في الألف ساكن سنويا يقوم بمحاولة انتحار، بمعني أن قرابة عشرة آلاف تونسي يحاولون الانتحار كل عام تنجح فرق الإسعاف في إنقاذ اغلبهم. وجاء في الدراسة التي أجراها ثلاثة من كبار أطباء الأعصاب والأمراض النفسية التونسيين أن نسب الانتحار ارتفعت في تونس وأصبحت تفوق ما هو عليه الوضع في اغلب الدول العربية. وتضيف الدراسة أن البطالة وما تسببه من إحباط وإحساس بالانكسار، تأتي في مقدمة دوافع الإقدام علي الانتحار، رغم أنها رأت أن تلك الدوافع تختلف حسب الأشخاص والظروف الاجتماعية التي يعيشونها. هذا وتعتبر النساء المعنفات أو المطلقات والأمهات العازبات الأكثر إقداما علي الانتحار، إضافة إلي فاقدي السند والمدمنين علي المخدرات ومرضي الإيدز والسرطان. يفسر الباحثون الاجتماعيون الإقدام المطرد علي عمليات الانتحار بالضغوط الاقتصادية القاسية من فقر وبطالة، ويرون بأن القلق والكآبة وعدم الاستقرار تزداد بين العاطلين، وأنّ هذه الحالات النفسية تنعكس سلبياً علي العلاقة بالزوجة والأبناء، وتزايد المشاكل العائلية في حالة المنتحر المتزوج، أما بالنسبة للمنتحر الأعزب فتنعكس هذه الحالات النفسية علي محيطه الاجتماعي المصغر وهو العائلة ثم علي محيطه الاجتماعي الموسع وهم الأصدقاء والأقارب وباقي علاقاته الاجتماعية. وتري أغلب التحليلات ان السبب الرئيسي في هذه المشاكل بين العاطلين عن العمل، هو الافتقار إلي المال، وعدم توفره لسد الحاجة، وبناءً علي ذلك فإن تعطيل الطاقة الجسدية بسبب الفراغ، لا سيما بين الشباب الممتلئ طاقة وحيوية ولا يجد المجال لتصريف تلك الطاقة، يؤدي إلي أن ترتد عليه تلك الطاقة لتهدمه نفسياً مسببة له مشاكل كثيرة قد تنتهي بقرار التخلص من الحياة . ومن ثمة فإن العلاقة بين الجانب النفسي من الإنسان، وبين توفر الحاجات المادية، وأثرها في الاستقرار والطمأنينة، وأن الحاجة والفقر يسببان الكآبة والقلق وعدم الاستقرار، وما يستتبع ذلك من مشاكل صحية معقّدة، كأمراض الجهاز الهضمي والسكر، وضغط الدم، وآلام الجسم، كل هذا يفسر إقدام كثير من الشباب علي التخلص من الحياة ، وهو ما يسميه البعض من علماء الاجتماع بالانتحار الفوضوي الذي عادة ما يحصل إبان الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ويكون وليد الانفعال والغضب أو الإحباط الذي يعيشه العاطل عن العمل . وهنالك العديد من الحالات التي يمكن رصدها في هذا الإطار، من ذلك علي سبيل المثال ذلك الشاب المعطل عن العمل من سكان منطقة الشمال الغربي والذي أقدم علي إحراق نفسه في السنة الفارطة بعد أن أسقط اسمه من قائمة المنتدبين للعمل كأستاذ في التعليم الثانوي عن طريق مسؤول محلي في جهته بعد سنوات طويلة من البطالة، وهي حادثة معروفة نشرتها إحدي الصحف ساعتها. وهكذا فإننا نخلص إلي نتيجة مفادها أن الظروف النفسية والاجتماعية القاسية وغياب الضمانات المادية الدنيا للعاطل عن العمل من منحة وضمان اجتماعي في انتظار تشغيله يؤدي في الكثير من الأحيان إلي الإقدام علي الانتحار. النساء يعود تفاوت معدل الانتحار بالنسبة الي النساء في تونس إلي فترة السبعينيات حيث أجريت بحوث مستفاضة في هذا الشأن. وتعتبر النساء عموما والمعنفات والمطلقات والأمهات العازبات خصوصا الفئة الأكثر إقداما علي الانتحار إذ تعيش هذه الفئة حالة العزلة داخل أطرها العائلية وتفتقر للحياة الأسرية والعاطفية السليمة مما يبعد عنها شبح الوقوع في آفة الانتحار. وحسب العديد من الدراسات الحديثة في هذا الشأن فإن عدم الثقة في المستقبل والفراغ، والعنف داخل الأسرة والإدمان علي الكحول والمخدرات وفقدان الشريك والمؤازرة العائلية في أوقات الأزمات تؤدي بهذه الفئة من النساء إلي هذا المنعرج المأساوي. كما أن غياب الأطر الاجتماعية والمؤسساتية التي تهتم بالمرأة ضحية العنف الجسدي أو المعنوي أو الجنسي، عدا بعض الجمعيات مثل جمعية النساء الديمقراطيات، جمعية الأمهات العازبات، والذي من شأنه أن يحتوي هذه الفئة الاجتماعية ويوجهها ويحيط بها إنسانيا بهدف تجنيبها الوقوع ضحية لهذه الآفة، فإن هذا الغياب سيساهم بالضرورة في وقوعهن فريسة للانتحار. ومن ثمة فإنه يمكن قراءة هذا السلوك الانتحاري من خلال رؤيتين: الأولي اجتماعية والثانية قراءة تركيبية للشخصية ، والاثنتان تكشفان ظهور هذا السلوك عند النساء ضحايا العنف الزوجي والاجتماعي. ويري علماء النفس في هذا السياق أن تطور الشخصية لدي هذه الفئة من النساء خاصة وباقي الفئات الاجتماعية الأخري (ذكورا وإناثا) للتأقلم مع المتطلبات الاجتماعية فيه احتماء ووقاية من مثل هذا السلوك وخصوصا الحالة النفسية والاجتماعية المسببة له . الشباب هناك فئة هامة من الشباب تقدم علي الانتحار وتعود الأسباب الكامنة وراء هذا الجموح المأساوي نحو فقدان الحياة إلي عدة تأثيرات منها أفلام العنف للصغار والكبار والأغاني التي تشجب الحبيب الغادر والخليلة الخائنة، والطموحات التي باتت بلا حدود وأوهام نشرتها آلاف القنوات الفضائية في كل بيت، وسلوكيات غريبة في الأحياء الشعبية والغنية علي حد سواء . ويتجه العديد من البحوث والتحليلات الأكاديمية في هذا الشأن إلي تفسير النزوع نحو التخلص من الحياة بتعرض الشاب إلي ضغوطات عصبية أو مالية أو عاطفية وإن كانت في معظمها تمثل حالات ومشكلات عابرة يسهل علي الكثير استيعابها في الظروف العادية فإن نقص التأطير والتوجيه النفسي والاجتماعي في محيطه يدفعه للقيام بهذه الخطوة. إلي ذلك تعددت آراء الباحثين والمفكرين في تحليل ظاهرة الانتحار عند الشباب التونسي بعد أن سجلت تزايداً ملحوظاً في الفترة الأخيرة. كما تنوعت مقارباتهم في تشخيصها وتمحيصها ويمكن، حسب ما ذهبوا إليه، حصر أسبابها في النقاط التالية: الأزمة الاقتصادية التي تجتاح العالم. الحالة المرضية التي تعصف بالشباب في حالة اليأس القصوي والإحباط. أسباب اجتماعية اقتصادية. الفراغ الديني عند فئة من الشباب. فشل تجربة عاطفية. العجز عن الوصول للغايات المستقبلية المرسومة. باختصار، فإن أغلب الدراسات التي أشرنا إليها تتقاطع في مدلولية العلاقة الترابطية بين أغلب حالات المنتحرين وبعض المتغيرات التي تنحصر في الفقر والبطالة والفشل العاطفي وبدرجة أقل الفشل الدراسي والتوظيفي، كما لم تغفل هذه الدراسات المتغيرات الخطيرة التي طرأت علي المنطقة من كثرة الحروب ومناطق الصراع المشتعل في كثير من البلدان . ولم تغض هذه الدراسات النظر عن بعض الحالات التي أقدم فيها الشباب علي الانتحار بسبب المرض العقلي أو الجسدي والتي لا تشمل طائفة كبيرة من المنتحرين. خلاصة إن ما نخلص له مما سبق هو أنه علي عكس الاعتقاد السائد بأن الانتحار مرتبط بأشخاص بعينهم فإن الحقائق العلمية تثبت أن إمكانية الانتحار واردة عند كل إنسان إذا ما توفرت الشروط الضرورية لذلك والمتمثلة في الظرف الاجتماعية القاسية من بطالة وفقر والحالات النفسية المرضية (الإحباط واليأس) وفشل التجارب العاطفية والعنف المعنوي والجسدي الذي تتعرض له المرأة المتزوجة والعزباء. وعلي عكس الأفكار الشائعة التي تري بأن الحديث مع الشخص الذي ينوي الانتحار حول الانتحار سيشجعه علي الانتحار أكثر فإن جل الدراسات التي تناولت هذه المسألة تعتبر أن الاهتمام بالحالة الانتحارية والحديث معها وتأطيرها اجتماعيا ونفسيا وتوجيهها من شأنه أن يساهم في إبعاد شبح الانتحار عن الشخص الذي ينوي القيام به. ويبقي في الأخير أن نذكر بأن أهم علاج لظاهرة الانتحار التي تلتهم فئة ليست بالقليلة من الشعب التونسي وتتهددها تكمن بالأساس بالقضاء علي جذور هذه الظاهرة من فقر وبطالة ونشر الفكر المتقدم في المجتمع الذي يؤمن بالمساواة التامة بين الجنسين حتي يمكن بذلك الحد من العنف ضد المرأة وإهمالها في حالات الأم العزباء ويبعد عنهم جميعا آفة الانتحار وباقي الآفات الاجتماعية الأخري التي تهدد المجتمع التونسي. صحافي من تونس