روي أن قتيبة بن مسلم لمّا صافّ أعداءه أي وقف حيالهم في الحرب هاله أمرهم فقال: أين محمد بن واسع ؟ فقيل له: هو في أقصى الميمنة ، يومئ بأصبعه نحو السماء . فقال قتيبة : تلك الإصبع الفاردة أحب إلي من مئة ألف سيف شهير وسنان طرير. فلمّا فتح الله عليه ، وانتصر على أعدائه ، قال لابن واسع: ماكنت تصنع؟ قال: آخذ لك بمجامع الطرق.
إن الدعوة والحركة بحاجة إلى ثلة من الرجال الأفذاذ ، يكونون على قدر كبير من الربانية والعلم والصلاح والتقوى والزهد والورع ، ينتصبون مصابيحا هادية وقدوات مشعة ، يجسّدون المبادئ ويحفظون الأصول ، يكونون حجة للدعوة وللحركة لاعليها ، يستوعبون الآخرين ويأخذون بأيديهم إلى ساحة الدعوة وميدان الحركة بلسان حالهم قبل لسان مقالهم ، يحل الواحد منهم محل جيش بكامله في ميزان الصراع بإيمانه و بصفائه وإخلاصه وصلاحه وربانيته. إن وجود نماذج حية من هذا الصنف في الركب، تدفعه إلى الجد والفعالية ، حيث بهم ينتبه الغافل ويسرع المترهل ويلتحق المتخلف ويتحرك الفاتر ويمضي المتردد ويستحي المتقاعس ويستأنف المتوقف ويستأنس السائر ويرتدع المتجاوز وينتصح المفرط ويتيقن المتشكك ، قال جعفر بن محمد وهو يتحدث عن القوة الإيمانية الإشعاعية الآسرة لشخصية محمد بن واسع :(كنت مهما فترت في العمل ، نظرت إلى محمد بن واسع وإقباله على الطاعة ، فيرجع إلي نشاطي في العبادة وفارقني الكسل وعملت عليه أسبوعا)(1). فمجرد رؤية الواحد منهم تمنح اليقظة للآخرين ، وتشحنهم وتدفعهم إلى العمل أياما وشهورا . لكن لعل مقتضيات الطريق وضغوطاتها وأشواكها وصوار فها وجواذبها واكراهاتها وتحدياتها، قد تنسينا هذه الحقيقة المهمة ، وهي وجوب توفر رجال من هذا النوع ، يشكلون أسوارا مانعة من الاختراق والتسلق ، ويفعلون فعل المضادات الحيوية التي تمنع التجرثم ، ويثبتون خرسانات قوية تحفظ من التزلزل والتزعزع والانحراف ، فيتوفر بهم الاتزان وتضمن الأصالة وتستقيم الانطلاقة وتستمر الحركة وتحفظ المسيرة ويتدعم الرصيد وتتحقق الأهداف . إن مسببات الاستهلاك الإيماني كما سماها فتحي يكن رحمه الله كثيرة ومتشعبة ومتجددة في دنيانا المتقلبة ، وعمليات الإستفراغ الروحي متواصلة من دون توقف ، بل تزداد يوما بعد يوم ، والتخلية من عناصر القوة الإيمانية مستمرة هي كذلك ، تحت وقع المغريات والشهوات ، وستترك الفرد خالي الوفاض وعلى الحديدة كما يقال وكذلك المجموع إن لم يتم تدارك ذلك ، وضمان التزود والتعويض والتحلية الدائمة ببرامج عملية وانتصاب قدوات يحيون سيرة الصالحين من السلف في هذا الجانب تحديدا . فما أحوج الدعوة والحركة والإسلام والأمة إلى رجال كمحمد بن واسع رحمه الله ، يأخذون بمجامع الطرق ويكونون أسباب نصر وعوامل تمكين وعناصر ترجيح في ميادين التدافع والصراع . فمن النفوس جداول وجلامد ومن النفوس حرائر وإماء 1 إحياء علوم الدين للغزالي ج2 ص 275