قال رفيق الرحلة معللاً حرصه على القيام بهذه الزيارة إلى المملكة العربية السعودية تلبية لدعوة المشاركة في مهرجان الجنادرية: «إنها فرصتي الوحيدة لزيارة المملكة، ذلك أن منح تأشيرة الدخول لغير الوافدين للعمل أو لغير قاصدي الأماكن المقدسة أمر متعذّر». كانت تلك الرحلة فعلا فرصة نادرة يتطلع إليها باحثون ومثقفون عرب ومسلمون وأجانب للاطلاع على جزء من المشهد الثقافي الداخلي والتعرف على ما يعتمل فيه من حراك وما تطرح فيه من قضايا وتساؤلات. ذلك ربما كان أيضا أحد الأغراض التي يرمي إليها القائمون على المهرجان الوطني للتراث والثقافة بدعوتهم المئات من الشخصيات الثقافية والسياسية من خارج المملكة.. إنه الحرص على إزالة انطباع يجعل المملكة تبدو للوهلة الأولى بلدا منقبضا عن الناس متمنِّعا عن التطور الفكري يتوارى عن الزوّار الطلعة الراغبين في السياحة والتعارف ولو كانوا من أمة الإسلام. ما يدركه الزائر منذ دخوله مطار الملك خالد الدولي بفخامته وهندسته ثم ما يلمسه بعد ذلك في طريقه إلى قلب العاصمة يجعله متسائلا عن الدلالات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تعنيها تلك المشاهد الأولى لمدينة الرياض. من هذا الاتصال الأول وما تعبر عنه المدينة باتساعها وامتداد شوارعها وحركة السير فيها وما تحفل به من جِدّة البناءات والمحال التجارية الفخمة، تنبعث مقولة تراود الزائر مفادها أن التحديث مر من هنا، وأنه سيتجاوز مجرد توفير الأدوات ومكتسبات مدنية الوفرة والاندراج في نسقها العالمي. تعود تلك المقولة لتلح على الزائر ثانية عند النظر في قائمة المدعوين لمهرجان الجنادرية والمحاضرين فيه والمشاركين في الندوات العامة والمتخصصة. في هذا المستوى لا يمكن أن تخطئ العين شعار المهرجان في دورته الخامسة والعشرين: «عالم واحد.. ثقافات متعددة». تبنّي مثل هذا الشعار إقرار بأنه أصبح من المتعذر إنكار أن العالم قرية كونية لا بد للثقافات والمعتقدات والأفكار فيه أن تتعايش وأنه لذلك أصبح من المسلَّم به دعوة الرأي والرأي الآخر. من ثَمَّ كان لافتا في الجنادرية أن تستمع إلى الدكتور رضوان السيد المفكر اللبناني السنّي، يحاضر إلى جانب السيد هاني فحص المثقف اللبناني والتقدمي الشيعي. إلى جانبهما لا تستغرب أن تلحظ الدكتور جمال سلطان الإعلامي المصري السلفي بمعية الدكتور عبدالله البريدي الباحث الاجتماعي السعودي الشاب مؤلف كتاب «السلفية والليبرالية: اغتيال الإبداع في ثقافتنا العربية». حين يحاضر هؤلاء مع غيرهم ممن لهم آراء مختلفة عن السلفية: المفهوم.. المراحل.. التحولات، فإنك لا بد أن تتساءل عن الدلالة الفكرية والسياسية لهذا الحدث حين يحصل في الرياض على مرأى ومسمع من علماء المملكة المعروفين بتوجههم العقدي الذي يقال عنه إنه متحيز. أيعقل أن يكون كل هذا مجرد دعاية لا تعني شيئا في واقع الحياة الوطنية فكريا وثقافيا وسياسيا؟ حين نقرأ لعبدالله البريدي في كتابه المذكور آنفا قوله في فقرة بعنوان: السلفية مصطلح يحمل بذور فنائه، «السلفية كما يقول أحد رموزها ومنظريها (المقصود هنا هو عبدالرحمن عبدالخالق) لا تعني عندنا أكثر من الإسلام الصحيح الموافق للكتاب والسنة والمتبع للسلف الصالح... وأنها لا تقبل المناقشة والتخطئة... وأنها هي الفرقة الناجية»، حين نقرأ هذا ندرك أن المسألة تتجاوز طبيعة البحث الجامعي المتعلق بمسائل العقيدة لتؤشر على توجه نقدي صارم من المذهب المرجعي السائد في البلاد وعلى تصدعات عميقة في تلك المذهبية. يواصل البريدي بعد هذا فيعلق على ما يكتب في التعريف بالسلفية فيرى أنه لا يعدو أن يكون خلطا جليا وتشوشا ظاهرا وأن هناك ضرورة للقيام بجهود بحثية تبتعد عن التحيز وتتحلى بدرجة كافية من الحياد قصد تشخيص السلفية ونقد تصوراتها والوقوف على مآلاتها. أما محصلة البريدي من هذا فهي، لا أكثر ولا أقل، نقضٌ للتصور والممارسة السلفيين لأن «النبي المعصوم، عليه الصلاة والسلام، لم يتجه إلى تنميط الفعل الإسلامي في كل صغيرة وكبيرة... فالقضية تؤخذ بقدر من التوازن والاعتدال ومراعاة تحصيل المصالح ودرء المفاسد في إطار ديناميكي يعترف بالواقع ومعطياته وضغوطاته ويستجيب لها بذكاء وكياسة. ليس ذلك فحسب بل العناية أيضاً بالاختلافات بين البشر في طباعهم واستعداداتهم النفسية والفكرية وظروفهم الاقتصادية وأوضاعهم الاجتماعية». في مجال آخر، مجال المشترك الإنساني وما يفرضه من حوار بين الثقافات من أجل السلام بين الشعوب، لم يتوانَ منظمو مهرجان الجنادرية في هذه الدورة عن الجمع بين أنماط من التفكير مختلفة ومناهج من التحليل متباينة مثلها الدكتور أبويعرب المرزوقي والدكتور عبدالمجيد الشرفي من تونس إلى جانب الداعية السعودي سلمان العودة مع الأستاذ هاشم صالح مترجم أعمال محمد أركون في مواجهة جيل كيبل (Gilles Kepel) الباحث الفرنسي المتخصص في العلوم السياسية والحركات الإسلامية المعاصرة في العالم العربي. هنا أيضا لا مناص من عودة السؤال الملحّ عن معنى هذا التوجه في لقاء رسمي ودولي يتابعه عدد مهم من الشباب المثقف السعودي في العاصمة السعودية وفي عدة مدن أخرى مع تغطية إعلامية واسعة. لذلك يعسر القبول بأنه لا حاجة إلى تفسير تركيبي لأقوال الداعية السعودي المعروف سلمان العودة، أحد مشايخ الصحوة وهو يقول: «لا مناص من الحوار بين بني البشر وشركاء الوجود»، ثم يضيف «الحوار أوسع من الدعوة لكونه ينطلق من الاعتراف بالآخر وأول هذه الحقوق الحق في التعبير عن رأيه وكذلك الإيمان بحقه في الحياة وحق الشعوب في الاعتزاز بخصوصيتها وهويتها وثقافتها». بعده ينبري المرزوقي الذي تابع محاضرته العديد من المثقفين السعوديين بعناية ملحوظة ليجيب عن السؤال: «لماذا يتعثر الحوار بين المسلمين والغرب؟»، مؤكداً عقم هذا الحوار. وهو عقم يعود، حسب المرزوقي، إلى ما تعاني منه وضعية المسلمين من انقسام وتشتت فضلا عن المبدأين اللذين يطبقهما الغرب في تعامله مع المسلمين واللذين استعملهما مع الهنود الحمر في استراتيجيات التفاوض والقضم المتدرج: «التفاوض معهم متفرقين وتكبير الصغير وتصغير الكبير بينهم بدفع الأول على الجرأة على الثاني في معركة الزعامة الوهمية». تسأل الأستاذ زكي الميلاد، أحد الكتاب السعوديين الشيعة ذائعي الصيت وأحد الذين يُستشارون عند وضع سياسات المهرجان، عن معنى كل هذا في الجنادرية، وهل نحن أمام مشروع «أسلمة الحداثة» فيسارع بإحالتك على ما كان سجله في كتابه «الإسلام والتجديد» من ضرورة تجديد الفكر الإسلامي وأنه بدون ذلك لا تقدم للحياة في عالم المسلمين. ويضيف أن هذا التجديد ليس مجرد عملية فكرية تستند على البحث والتحليل النظري المجرد المنقطع عن الواقع الموضوعي وعن طبيعة حركة الحياة. مؤدى هذا، حسب زكي الميلاد، أنه لا معنى للتجديد «إذا لم يبدع الفكر الإسلامي معاصرته وحداثته في إطار شروطه التاريخية والثقافية ويبرهن على قدرته في مواكبة العصر والانخراط في تجربة الحداثة العالمية والمشاركة في إنتاج المعرفة الإنسانية». مع كل هذا وفي ذات الفترة التي شهدت الفعاليات الثقافية لمهرجان الجنادرية تواصُلاً لمناقشة قضايا متنوعة عن الرواية السعودية وعن الإعلام الإلكتروني وقضايا الجيل وعن الأزمة المالية العالمية والاقتصادات، في تلك الأيام يخرج يوسف الأحمد، أحد علماء السعودية، بفتوى يطالب فيها بإعادة بناء الطواف حول الكعبة المشرّفة تفاديا للاختلاط بين الرجال والنساء. عند استحضار هذا النوع من المفارقات لا تملك إلاّ أن تثَنّي على مقالة عبدالله البريدي السابقة التي يؤكد فيها تفكك السلفية وقرب استنفاد أغراضها. العرب 2010-04-22