الخطاب المتطرف للقاعدة يساهم في خلق صورة سوداء مرعبة عن الإسلام الثورة الإيرانية أصابت المصالح الحيوية للغرب بالشرق الأوسط في الصميم وردود الفعل عليها كانت عنيفة وهائجة بعد سقوط جدار برلين .. عدنا إلي عصر الفتوحات الاستعمارية حيث وقعت حرب الخليج وتفجيرات سبتمبر وغزو أفغانستان والعراق المخيال المسيحي داخل العالم العربي يختلف عن المخيال المسلم، والمخيال السني غير الشيعي، والكردي أو الأماز يغي غير العربي وهكذا اللاهوت المسيحي بعد المجمع الكنسي الشهير بإسم الفاتيكان الثاني تجاوز لاهوت القرون الوسطي واعترف بالآخر المسلم أو اليهودي
بعد ان انتهيت من المقدمة العامة أقدم هنا نص الكتاب علي حلقات وعلي هيئة أسئلة وأجوبة أجيب فيها علي الاسئلة التي طرحها علي بعض الصحفيين الفرنسيين بخصوص الاسلام وتاريخه وحضارته. وأبتدئ بالرد علي السؤال الأول. السؤال الأول: هل يمكن القول بوجود معرفة علمية حقيقية عن الإسلام في الغرب؟ أم ان الموجود هو فقط متخيل غربي عن الاسلام وكذلك هلوسات وأحكام سلبية مسبقة ورواسب تاريخية متراكمة منذ العصور الوسطي؟ جواب أركون: في هذا الكتاب الموجه في نسخته الفرنسية إلي الجمهور العام بفرنسا وربما إلي الجمهور الغربي الأوسع في كل اوروبا وامريكا فانه من المفيد بل والضروري أن ننطلق من هذا السؤال لتوضيح الأمور. يحق لنا بالفعل أن نتساءل عن قيمة المعرفة السائدة عن الإسلام في الغرب وموضوعيتها. وتوجد حول الموضوع نقاشات عديدة، متواصلة، كانت قد اتخذت طابعا حادا وهائجا جدا وبخاصة منذ الخمسينات إبان اندلاع حركات التحرر الوطني من الاستعمار. أذكر بهذا الصدد أن حرب الجزائر استمرت من عام 1954 إلي عام 1962 وكل الفرنسيين يستطيعون أن يتذكروا تلك المجادلات العنيفة والصدامات الدموية التي حصلت علي مدار تلك الحرب. وهي جدالات وصدامات دارت ليس فقط حول الإسلام وإنما أيضا حول العالم العربي بشكل عام وحول الثقافة العربية داخل سياق الناصرية وانبثاق العالم الثالث في باندونغ وصراع الصهيونية من اجل إقامة دولة إسرائيل. وقد ازدادت المناقشات آنذاك عنفا وضراوة بسبب ارتباطها بخصومات دينية وسياسية قديمة تعود بجذورها إلي القرون الوسطي. ولكن هذا التأزم بين الطرفين الغربي والعربي الاسلامي تواصل بعدئذ ولا يزال مستمرا حتي يومنا هذا. أقول ذلك وأنا أفكر بما حصل بعد اندلاع الثورة الإيرانية ووصول الخميني إلي السلطة. وكل هذا دشن انفعالات هائجة بين الطرفين ليس فقط في فرنسا هذه المرة وإنما في العالم الغربي كله أيضا وبخاصة في الولاياتالمتحدةالأمريكية التي نعرف مدي حجم حضورها ووزنها في الشرق الأوسط. ينبغي العلم بان الثورة الإيرانية أصابت المصالح الحيوية للغرب في منطقة الشرق الأوسط في الصميم. وردود الفعل العنيفة الهائجة التي أثارها هذا الحدث ولا يزال يثيرها زادت من التهاب المتخيل الغربي ضد الإسلام وأضافت إليه هلوسات وصورا جديدة. بعد سقوط جدار برلين عام 1989 ظهر مفكران في أمريكا لكي يعلنا نهاية التاريخ وصدام الحضارات. الأول هو فرانسيس فوكوياما والثاني صموئيل هانتنغتون. وكانت النتيجة أن حصدنا حرب الخليج الأولي وتفجيرات 11 سبتمبر وغزو أفغانستان والعراق. وهكذا عدنا إلي عصر الفتوحات الاستعمارية. وأما الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني فقد تصلب أكثر وأصبح اكثر حدة وعنفا مع انتعاش المشروعية المرتبطة بضرورة استئصال الإرهاب الدولي علي اثر 11 سبتمبر. وهذا التصلب العام ناتج عن الاستقطاب المانوي السائد في الغرب بين إسلام معتبر انه يمثل محور الشر وغرب معتبر انه يمثل محور الخير ويحميه. ولا يبدو إننا سنستطيع تجاوز هذا التقهقر الفكري والانتكاسة إلي الوراء في المدي المنظور. وهو تقهقر أو تراجع مبرمج سلفا منذ عام 1945 عندما اقتسمت الدول العظمي مناطق النفوذ في العالم غير عابئة الا بمصالحها وامتيازاتها. لقد أثار السؤال المطروح علي هنا مفهوم المتخيل أو المخيال. وهو مفهوم أصبح له تاريخ الآن. انه مرتبط بالطفرات المنهجية والابستمولوجية لعلوم الإنسان والمجتمع بدءا من 1950- 1960 . وكانت مدرسة الحوليات الفرنسية هي التي بلورته لأول مرة علي يد المؤرخين الكبيرين جورج دوبي وجاك لوغوف وذلك ضمن اطار دراسة تاريخ العقليات البشرية أيا تكن. ولكن الجمهور العام لا يستطيع التوصل إلي فهمه جيدا لأنه حتي الاختصاصيين لم يتوصلوا بعد إلي بلورة حدود المفهوم ووظائفه ومستويات تحقق هذه الملكة التي ندعوها الخيال أو المخيال أو المتخيل. وبعضهم يقول المخيلة كتعريب للمصطلح الفرنسي. وقد احترنا في الترجمة. سوف أحاول هنا تقديم تعريف مختصر. سوف أقول بان مخيال فرد ما أو فئة اجتماعية ما أو أمة ما يعني جملة التصورات المتجسدة في الثقافة الشعبية. وهي ثقافة كانت قد أصبحت شعبية عن طريق الملاحم الأدبية والشعر والخطاب الديني بل وحتي التاريخ الوضعي والقوموي الذي ساد في القرن التاسع عشر.ونلاحظ اليوم أن وسائل الإعلام الغربية ومختلف الخطابات الاجتماعية والسياسية بل وحتي المدرسية تقوي التصورات الخيالية للذات ضد الآخر وذلك من خلال حركة جدلية ديالكتيكية. كان الفيلسوف الفرنسي بول ريكور قد نشر كتابا ممتعا وغنيا وعميقا تحت عنوان: الذات كآخر. وفيه يحاول الحد من المخيال الذي يؤدي بشطحاته ومبالغاته إلي تثمين الذات وتبخيس الآخر أو نبذه في المدرسة. ولكن المشكلة هي أن البحث الفلسفي الحر عن المعني والقيم لم يعد يثير اهتمام أحد في هذه الأيام. إن العنف الأزلي البنيوي المرتبط حتما بكل مجتمع بشري بصفته نظاما من اللامساواة هو في طوره لان يتحول إلي عنف منتظم او شرعي سائد علي صعيد العالم كله. ينبغي أن نضيف أيضا انه منذ ولادتنا أو استفاقتنا علي الحياة فإننا نبتدئ بادراك العالم الخارجي الموضوعي عن طريق لغة معينة هي اللغة الأم بالضرورة. وهي لغة تحمل معها مضامين الذاكرات الجماعية المغذاة من قبل الحكايات الأسطورية - التاريخية السائدة لدي كل جماعة بشرية أو أمة دينية أو دولة قومية حديثة أيا تكن. وبالتالي فيوجد مخيال فرنسي، وانكليزي، وألماني، وعربي، وفارسي، وتركي، الخ.. وهو مخيال يشكل صورة معينة عن الذات والآخر. وبالطبع فان صورة الذات هي دائما الأفضل والأجمل.. وهذه المخيالات الكبري تنقسم إلي مخيالات صغري داخل نفس اللغة البشرية وذلك طبقا للتعددية العرقية والطائفية الموجودة في المجتمع. فالمخيال المسيحي داخل العالم العربي يختلف عن المخيال المسلم، والمخيال السني غير المخيال الشيعي، والكردي أو الامازيغي غير العربي الخ..وكل واحد يمجد ذاته بالطبع ويبخس الآخر.. ينتج عن كل ذلك جهل حقيقي بالذات والآخر. لماذا؟ لان المخيال يميل كما قلنا إلي تعظيم الذات وتصغير الآخر. ثم يزداد الجهل ويتعقد مع اندلاع الحروب الأهلية وكذلك الدولية المرتبطة هي الأخري أيضا بلعبة قوي العولمة التي تؤدي إلي ازدياد التفاوتات الاجتماعية في كل مجتمع من جهة ثم بين المجتمعات المتقدمة والمجتمعات النامية من جهة أخري. فالعولمة الرأسمالية جائرة وتزيد الغني غني والفقير فقرا. وهناك فرق شاسع بين المجتمعات المتخلفة تنمويا وغير المدروسة أوغير المحللة علميا بشكل جيد، وبين المجتمعات الغنية المتفوقة التي تحتكر تقريبا اتخاذ كل القرارات الجيوبوليتيكية والاقتصادية والمصرفية الكبري. فهي تسيطر علي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية هذا ناهيك عن الشركات الكبري العابرة للقارات. ومع ذلك فان الإسلام المضخم من قبل وسائل الاعلام الغربية مقدم وكأنه السبب الأول والأخير للإرهاب الدولي الذي يجبر الغرب علي خوض الحروب لإنقاذ السلام العالمي!.. لا ريب في أن الخطاب المتطرف للقاعدة يساهم في خلق هذه الصورة السوداء المرعبة عن الإسلام ويزيد من خيالات الغربيين وهلوساتهم ومخاوفهم. انه يوهم بوجود إسلام واحد مشترك يعتقد أتباعه بأنه النموذج المثالي الأعلي للعمل التاريخي الإنقاذي الخلاصي. وهذا يعني أن الحرب القاتلة والمدمرة فعليا لا تنفصل عن حرب التصورات الخيالية التي يشكلها كل طرف عن الطرف الآخر. إنها عبارة عن حرب ذاكرات جماعية ومخيالات متعادية علي مدار التاريخ. ثم يزيد من تفاقم هذه الإستفزازات اليومية والحقد المتبادل بين كلا المخيالين أو المخيلتين الغربية والاسلامية خلاف أقدم بكثير من 11 سبتمبر وما تلاه. (نقصد هنا بالطبع المخيال الغربي عن الإسلام والمخيال الإسلامي عن الغرب). انه خلاف أقدم بكثير وأخطر بكثير لأنه يمس الأصول والمصادر الأكثر قداسة للأديان التوحيدية الثلاثة. ينبغي العلم بان الرهان الأكبر لما يحصل حاليا في حوض البحر الأبيض المتوسط منذ ظهور الإسلام عام 610.632 وحتي اليوم يتجسد بذلك التنافس المتواصل بين ثلاث طوائف دينية والذي لم يستطع أحد تجاوزه حتي الآن. وأقصد به التنافس بين اليهودية والمسيحية والإسلام. انه تنافس علي احتكار الرأسمال الرمزي الأعظم لما يدعونه جميعا بالوحي. فكل طائفة تدعي أنها تمتلك الوحي الإلهي الصحيح الكامل من دون غيرها. وهذا يعني ضمنيا تكفير الآخر او حرمانه من نعمة الله. وحده اللاهوت المسيحي بعد المجمع الكنسي الشهير باسم الفاتيكان الثاني استطاع ان يتجاوز لاهوت القرون الوسطي ويعترف بالآخر المسلم او اليهودي. ولكن هذا التجديد اللاهوتي الكبير لم يحصل بعد في الاسلام ولا في اليهودية علي عكس المسيحية الاوروبية المتطورة والمستنيرة والمتفاعلة ايجابيا مع الفكر العلمي والفلسفي الحديث. وهذه مسألة ضخمة ذات أهمية حاسمة ولكنها في ذات الوقت مطمورة تحت ركام الخطابات المعلمنة للإيديولوجيات التي استخدمت في بناء القوميات الحديثة في أوروبا إبان القرن التاسع عشر. كما أنها مطموسة تحت ركام الخطابات اللاحقة بدءا من الكارثة النازية وحروب التحرير الوطنية من الاستعمار والخطابات التيتلتها والتي لا تقل خداعا. وأقصد بها خطابات الأنظمة التي نشأت بعد الاستقلال والتي مجدت نفسها أكثر من اللزوم. فطالما تحدثت عن التنمية وسوء التنمية دون أن تحقق شيئا يذكر ودون أن تستطيع إخراج شعوبها من الفقر والجهل والتخلف. وهي الخطابات التي سادت في الستينات من القرن الماضي بعد استقلال الجزائر. ومعلوم أن بلدان العالم الثالث هذه قلدت النموذج اليعقوبي المركزي الفرنسي بعد نيلها لسيادتها السياسية من اجل بناء الأوطان و لذلك همشت أو حتي قضت علي الخصوصيات اللغوية أو سواها كما فعلت فرنسا بعد الثورة الفرنسية.