إنَّ ممَّا أودعه الله في الخلق ، وغرسه في النفوس الانتماء إلى شيء من الأشياء ، فمن الناس من ينتمي إلى دينه ، ومنهم من ينتمي إلى عرقه ، ومنهم من ينتمي إلى وطنه ، بل منهم من ينتمي إلى عالم فيتسمَّى به ويعرف بالانتساب إليه ، وليس خفياً في أيامنا الانتماء إلى ناد رياضي يُفخر به ، ويُتشاجر لأجله ، لهذا فلا عجب أن تسكب من أجل الوطن الدِّماء ، ويتغنَّى به الأدباءُ والشُّعراء . وقد تعارف الناس على أنَّ من لا ينتمي إلى شيء إمَّا أن يكون مخبولاً مطروحاً لا يدري حتى نفسه التي بين جنبيه ، وإمَّا أن يكون من همج الهمج ، محلُّه الازدراء ، وموطنه السُّوء . والانتماء إلى الوطن والافتخار به لا يرفضه الدين ، ولا يمنعه الشرع ، بل جاء في السيرة النبوية ما يبين تعلُّق الرَّسول بموطنه مكَّة حتى قال قولته المشهورة :" (( والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله وأحب بلاد الله إلي ، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت )) ، وروى الترمذي " وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أخرجه قومه من مكة مخاطبها إياها ةمودعاً لها، قائلاً: "ما أطيبكِ من بلد، وأحبَّكِ إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيركِ " ( الحديث رقم 3926 ) . ونحن نرى كثيرين من الناس في بلاد مجاورة يعشقون تراب بلدهم ويتغنون بوصفها ولا يساوون بها شيئا ، وهي لم تقدِّم لكثير منهم شيئاً ، وكثيراً ما نعجب به، وقد نغبطهم على هذا الانتماء الشَّديد ، ولن نقول الحبَّ الغريب ؛ لأنَّ محبة الوطن ليست غريبة عند ذوي الطِّباع السَّليمة. والانتماء إلى الوطن لا يكون فقط بالتغني بمآثره ، وترداد فضائله ، فذلك مما ينبغي أن يُركَّز عليه في المدارس والإذاعات وبحديث الوالدين شريطة ألَّا ينقص قدر غيرنا من إخوتنا العرب والمسلمين ، أويبعث العصبية المقيتة ، والجاهلية الخبيثة ( انتماء إيجابيٌّ ) ، وإنما يكون الانتماء بالعمل من أجل النهوض بالوطن ، وهذا النهوض يكون ببراعة السِّياسي في مخطَّطاته ، وحنو الطَّبيب مع مريضه ، وحرص الأستاذ مع طلَّابه ، و حبِّ القائد لجنده ، و التحام الموظَّف مع روَّاده ، و صدق التَّاجر مع زبائنه ... إنَّ الَّذي دعاني إلى كتابة هذه السُّطور موقفٌ لا أنساه أبداً خلاصته سماعي لطالبين من طلبة كلية الاقتصاد عند دخولي لإعطاء محاضرة ذات صباح فنمى إلى سمعي قول أحدهم بالدَّارجة ( : أمتى انتخرجوا وناخذوا حقنا من هالفلوس الرايحة ) وكأن القائل أراد عمدا إسماعي ليعرف رأي الشرع فيما قال أو ليستفزني.. ، فتألمت من كلامه ، وأسفت لما وصل إليه حال بعض من نعقد عليهم الآمال في صلاح الوطن وتقدمه إذا أخذنا قوله على ظاهره . فقلت له : يا أخي إنَّ مال الدَّولة مثل مال اليتيم إذا رأينا البعض ينهبه فلا يعني أن نخوض فيه ونستحلَّه ؛ لأنَّه يؤدي إلى الفوضى ، وضياع الحقوق ، وهو مغضب لله ، ومستوجب للعقوبة " إنَّ المشاكل الاقتصادية في بلادنا كعدم توافر المسكن ، وتأخر سن الزواج ، وغياب فرص العمل ، وعدم معاقبة بعض المسيئين لا يمكن أن نجعلها سببا لقتل الانتماء إلى هذه البلاد التي هي قطعة من أرض الإسلام ، وقدِّم من أجل تحريرها دماء الشهداء ، وشرد من أجلها آلاف الأفراد ؛ ،لأنه متى ضعف الانتماء فعل المواطن الضعيف كلَّ شيء من أجل راحته ومتعه ضاربا بعرض الحائط كلَّ القيم والمثل ، وأوامر الشَّرع ونواهيه ، بل تراه يستحلُّ هذه المحرمات كأكل المال العام الذي صار ظاهرا لا يخفى على أحد . إن سرقة المال العام ، وتهريب الأموال خارج البلاد بعيداً عن أعين الرُّقباء ، والعمل على تغليب القبلية على مصلحة الوطن وغيرها من أعمال السوء كلُّها مؤشرات صادقة على فقدان الانتماء . إنَّ الحل الحقيقي في نظري يجب أن يكون بتظافر الجهود من أجل تقوية الرِّباط بين المواطن وبين أرضه وذلك لا يكون إلا بتوجيه الخطباء لجمهرة الناس بأنَّ حب الوطن والعمل على نهوضه وتقدُّمه وحفظ مكتسباته هو ما يأمر به الدِّين ، ويقاس به الولاء . ولا نغفل دور المدرسة والمدرِّس ، فكلَّما رعينا الانتماء عند المدرس ونمَّيناه قوي الانتماءُ عند طلَّابه ، أمَّا إذا تركنا المدرس ضعيف الماهيِّة يتخبَّط في مشاكل العيش فلن نرجو انتماء صادقاً في الأجيال اللاحقة.