لا يستطيع المرء أن يخفي دهشته حين يقال له إن مصر التي تتفاقم فيها مشكلة البطالة تعاني من أزمة في العمالة الماهرة. وإنه لهذا السبب، ولأسباب أخرى تستحق الدراسة والعلاج السريع، فإن الشركات الكبرى التي تصنع منتجاتها من النسيج في مصر بدأت في التحول إلى بلدان أخرى مثل الهند وتركيا وبنجلاديش وفيتنام. وهي المعلومات التي تلقيتها من مصادر عدة عقب ما نشرته في هذا المكان يوم السبت الماضي (22/5) عن سوق العمالة الأجنبية في مجال خدمة البيوت، والسماسرة الذين يتلاعبون بتلك السوق، الذين أوصلوا أجر المربية الفلبينية إلى 800 دولار في الشهر، وهو مبلغ يعادل ما يتقاضاه وكيل أول أي وزارة في مصر. ذكرت الرسائل التي تلقيتها أن المشكلة أفدح في قطاع الصناعة، لأن معاناة بعض الميسورين من قلة المربيات أو الشغالات المدربات محدودة الحجم، فضلا عن أنها تظل أخف وطأة من أزمة المناطق الصناعية جراء النقص الفادح في العمالة الماهرة. وهي الأزمة التي رتبت عدة نتائج سلبية أضرت ضررا بالغا بقطاع الصناعة من أوجه متعددة. فقد أدى ذلك إلى عدم التزام الشركات المصرية بمعايير الجودة، كما أدى إلى إخلالها بالمواعيد المقررة للتصدير. من تلك النتائج السلبية أيضا أن تدني كفاءة العامل المصري في قطاع النسيج على الأقل أدى إلى ارتفاع تكلفة السلع المنتجة. وفي دراسة مهمة تلقيتها في هذا الصدد أن تكلفة ساعة العامل المصري في صناعة الملابس قدرت بما يساوى 0.88 من الدولار، في حين أن تلك التكلفة تصل إلى 0.32 في بنجلاديش وفيتنام. وتبلغ 0.55 من الدولار في الصين والهند. بينت الدراسة أيضا أنه بقياس عنصر الوقت في إنتاجية العامل المصري مقارنا بمثيله في سريلانكا وبنجلاديش فإن الإنتاجية في مصر تقل بنسبة 0.50 تبين أيضا أن معدل دوران العمالة في مصر يصل إلى 0.15 شهريا، ومعدل الغياب اليومى يصل إلى 10 .0 يوميا. وتلك أمور تؤدي إلى انخفاض الجودة وعدم القدرة على الالتزام بمواعيد الشحن. وحين يصبح الأمر كذلك فلا غرابة في أن تسوء سمعة المنتج المصري من النسيج، وأن تنقل الشركات العالمية تعاقدها من مصر إلى الدول الأخرى التي سبقت الإشارة إليها. ورغم أن تلك الدول الأخرى لجأت إلى عوامل أخرى لتعزيز قدرتها على التصدير، مثل تخفيض قيمة العملة وتكلفة التمويل، فإن الذي لا شك فيه أن مهارة العمال وارتقاء ثقافة العمل والإنتاج من العوامل الحاسمة التي رفعت من قدرتها التنافسية ورجحت كفتها في مجال جذب الاستثمارات وتصدير المنتجات. أغلب الرسائل التي تلقيتها شكت من أن الدولة في مصر مهتمة بالتجارة والاستيراد بأكثر من اهتمامها بالصناعة والإنتاج. ونبهت إلى أن مشكلات الصناعة ليست مأخوذة على محمل الجد، بدليل أن هناك مشكلات كثيرة تعترضها لا يعنى أحد بحلها. أما ما اتفق عليه الجميع فهو أن العامل المصري يحتاج إلى إعادة تأهيل، سواء في قدراته وكفاءته المهنية، أو في التزامه بقيم العمل الناجح، التي في مقدمتها الاتقان والانضباط والالتزام بالمواعيد وبالسلوك الجاد في الأداء. انعقد الاتفاق أيضا على أن التعليم الفني المتوسط عجز عن تحقيق هدفه في توفير العمالة الماهرة، لأنه بدوره لم يؤخذ على محمل الجد. فلم توفر له أي إمكانيات ولم يلتحق به إلا الفاشلون في الدراسة، ولم يقم بالتدريس في مدارسه إلا أضعف المدرسين شأنا وأقلهم أجرا. إلى غير ذلك من الأسباب التي أدت إلى انهيار التعليم الفني باختلاف مدارسه الصناعية والتجارية والزراعية. حين يلاحظ المرء أن التراخي وعدم أخذ الأمور على محمل الجد من القواسم المشتركة بين عناصر المشهد وحلقاته فإن الدهشة تتحول عنده إلى صدمة، إذ يصبح فريسة لحيرة شديدة تدفعه إلى التساؤل: إذا كانت قضية الإنتاج على حيويتها يتم التعامل معها بذلك القدر المشهود من التراخي واللامبالاة، فما هو الشيء الجاد في واقعنا إذن وعلى أي شيء نراهن في تحقيق التقدم وإحياء الأمل لدى الأجيال الجديدة؟ الشروق 2010-05-24