لاليغا الاسبانية.. سيناريوهات تتويج ريال مدريد باللقب على حساب برشلونة    معرض تونس الدولي للكتاب: الناشرون العرب يشيدون بثقافة الجمهور التونسي رغم التحديات الاقتصادية    كأس تونس لكرة اليد : الترجي يُقصي الإفريقي ويتأهل للنهائي    الاتحاد المنستيري يضمن التأهل إلى المرحلة الختامية من بطولة BAL بعد فوزه على نادي مدينة داكار    بورصة تونس تحتل المرتبة الثانية عربيا من حيث الأداء بنسبة 10.25 بالمائة    الأنور المرزوقي ينقل كلمة بودربالة في اجتماع الاتحاد البرلماني العربي .. تنديد بجرائم الاحتلال ودعوة الى تحرّك عربي موحد    اليوم آخر أجل لخلاص معلوم الجولان    الإسناد اليمني لا يتخلّى عن فلسطين ... صاروخ بالستي يشلّ مطار بن غوريون    الرابطة الثانية (الجولة العاشرة إيابا)    البطولة العربية لألعاب القوى للأكابر والكبريات: 3 ذهبيات جديدة للمشاركة التونسية في اليوم الختامي    مع الشروق : كتبت لهم في المهد شهادة الأبطال !    رئيس اتحاد الناشرين التونسيين.. إقبال محترم على معرض الكتاب    حجز أجهزة إتصال تستعمل للغش في الإمتحانات بحوزة أجنبي حاول إجتياز الحدود البرية خلسة..    بايرن ميونيخ يتوج ببطولة المانيا بعد تعادل ليفركوزن مع فرايبورغ    متابعة للوضع الجوي لهذه الليلة: أمطار بهذه المناطق..#خبر_عاجل    عاجل/ بعد تداول صور تعرض سجين الى التعذيب: وزارة العدل تكشف وتوضح..    قطع زيارته لترامب.. نقل الرئيس الصربي لمستشفى عسكري    معرض تونس الدولي للكتاب يوضّح بخصوص إلزام الناشرين غير التونسيين بإرجاع الكتب عبر المسالك الديوانية    الملاسين وسيدي حسين.. إيقاف 3 مطلوبين في قضايا حق عام    إحباط هجوم بالمتفجرات على حفل ليدي غاغا'المليوني'    قابس.. حوالي 62 ألف رأس غنم لعيد الأضحى    حجز عملة أجنبية مدلسة بحوزة شخص ببن عروس    الكاف: انطلاق موسم حصاد الأعلاف مطلع الأسبوع القادم وسط توقّعات بتحقيق صابة وفيرة وذات جودة    نقيب الصحفيين : نسعى لوضع آليات جديدة لدعم قطاع الصحافة .. تحدد مشاكل الصحفيين وتقدم الحلول    نهاية عصر البن: قهوة اصطناعية تغزو الأسواق    أهم الأحداث الوطنية في تونس خلال شهر أفريل 2025    الصالون المتوسطي للبناء "ميديبات 2025": فرصة لدعم الشراكة والانفتاح على التكنولوجيات الحديثة والمستدامة    انتفاخ إصبع القدم الكبير...أسباب عديدة وبعضها خطير    هام/ بالأرقام..هذا عدد السيارات التي تم ترويجها في تونس خلال الثلاثي الأول من 2025..    إلى أواخر أفريل 2025: رفع أكثر من 36 ألف مخالفة اقتصادية وحجز 1575 طنا من المواد الغذائية..    الفول الأخضر: لن تتوقّع فوائده    مبادرة تشريعية تتعلق بإحداث صندوق رعاية كبار السن    تونس في معرض "سيال" كندا الدولي للإبتكار الغذائي: المنتوجات المحلية تغزو أمريكا الشمالية    إحباط عمليات تهريب بضاعة مجهولة المصدر قيمتها 120 ألف دينار في غار الماء وطبرقة.    تسجيل ثالث حالة وفاة لحادث عقارب    إذاعة المنستير تنعى الإذاعي الراحل البُخاري بن صالح    زلزالان بقوة 5.4 يضربان هذه المنطقة..#خبر_عاجل    النفيضة: حجز كميات من العلف الفاسد وإصدار 9 بطاقات إيداع بالسجن    تنبيه/ انقطاع التيار الكهربائي اليوم بهذه الولايات..#خبر_عاجل    برنامج مباريات اليوم والنقل التلفزي    هام/ توفر أكثر من 90 ألف خروف لعيد الاضحى بهذه الولاية..    خطير/كانا يعتزمان تهريبها إلى دولة مجاورة: إيقاف امرأة وابنها بحوزتهما أدوية مدعمة..    الدورة الاولى لصالون المرضى يومي 16 و17 ماي بقصر المؤتمرات بتونس العاصمة    أريانة: القبض على تلميذين يسرقان الأسلاك النحاسية من مؤسسة تربوية    بطولة فرنسا - باريس يخسر من ستراسبورغ مع استمرار احتفالات تتويجه باللقب    سوسة: الإعلامي البخاري بن صالح في ذمة الله    لبلبة تكشف تفاصيل الحالة الصحية للفنان عادل إمام    بعد هجومه العنيف والمفاجئ على حكومتها وكيله لها اتهامات خطيرة.. قطر ترد بقوة على نتنياهو    ترامب ينشر صورة له وهو يرتدي زي البابا ..    كارول سماحة تنعي زوجها بكلمات مؤثرة    هند صبري: ''أخيرا إنتهى شهر أفريل''    قبل عيد الأضحى: وزارة الفلاحة تحذّر من أمراض تهدد الأضاحي وتصدر هذه التوصيات    صُدفة.. اكتشاف أثري خلال أشغال بناء مستشفى بهذه الجهة    تونس: مواطنة أوروبية تعلن إسلامها بمكتب سماحة مفتي الجمهورية    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دحض مفتريات : محمد عطية الفيتوري
نشر في الفجر نيوز يوم 24 - 07 - 2010

يتخذ من يصفون أنفسهم بالعلمانيين المنهج :" النفاقي"سبيلاً للهجوم على الإسلام، وحضارته، ونظمه، وتشريعاته، فتراهم يزعمون في خطابهم النقدي أنهم مسلمون، وأن الإسلام إيمان، وحق، ويقين، و" مُقَدَّسٌ " فوق مستوى النقد !. ولكنهم يبطنون غير ذلك في نفوسهم إذ سرعان ما ينتقلون بعد المقدمات " النفاقية " التي يبتدرون بها أحاديثهم إلى التشكيك في عقائد أساسية وردت في القرآن الكريم، وفرائض شرعية هي من المعلوم من الدين بالضرورة بادِّعاء أنها مفاهيم خاصة ببعض الفقهاء، وبما أن الفقهاء رجال وهم كذلك رجال؛ فلهم - كما لغيرهم – الحق في زعم أن هذه العقائد وتلك الفرائض ليست مما شرعه الله، وإنما هي آراء رجال، يسري عليها ما يسري على آراء الرجال من نقد وتمحيص وتفنيد وإبطال(1) !.
لقد اجترأ بعضهم على شريعة الله فتساءل تساؤلاً استنكارياً فقال:
كيف للمسلمين أن يزعموا أن شريعتهم التي نزلت منذ أربعة عشر قرناً من الزمان صالحة للتطبيق في هذا العصر الذي وصل فيه الإنسان إلى سطح القمر، وصنع القنابل الذرية، والصواريخ العابرة للقارات، وحقق فيه " ثورة " المعلومات ... وما إلى ذلك مما تشهده العين ويسلِّم به العقل؟. ثم ما حاجة الإنسان المعاصر إلى الاحتكام إلى هذه الشريعة وبين يديه أرقى ما توصل إليه المجتمع البشري من التشريعات الحديثة، المستندة إلى أرقى المبادئ الإنسانية، المنظمة لعلاقاته، الملبية لحاجاته، الضابطة
(1) من الدراسات الماتعة في هذا الشأن، بحث كتبه الدكتور أحمد إدريس الطعَّان بعنوان: مآلات الإسلام في القراءات العلمانية، نشر بمجلة الشريعة والدراسات الإسلامية التي تصدرها جامعة الكويت، المجلد (21)، العددج: (65)، جمادي الأول 1427/2006، ص19-74.
لسلوك أفراده وجماعاته، وفوق ذلك هي نتاج تجاربه وتطلعاته، صاغتها عقول أكبر مفكري الدنيا وأساطين القانون؟. ولو سلَّمنا جدلاً بأن الإسلام خطوة " تقدمية " في عصره الذي طُبِّقَ فيه؛ فإننا نجده الآن قد استنفذ أغراضه، وتجاوزه الزمن فصار تخلُّفاً لا يليق بالبشرية أن تفيء إليه.
وينبغي قبل الشروع في دحض هذه المفتريات من التنبيه على أولوية في البحث، كثيراً ما يغفل عنها مثيرو هذه القضية من المستشرقين الحاقدين على الإسلام ومسوخهم المشوهة الذين أخذوا عنهم، مما يخرجهم عن دائرة الباحثين عن الحقيقة الملتزمين بمقتضياتها.
تشير هذه الأولوية إلى أنه يتحتم على الباحث قبل دراسة أي فكرة، ومعرفة نظرتها للكون والإنسان والحياة، وطريقة معالجتها للمشاكل التي تواجه الإنسان في الحياة – يتحتم عليه أن يكون له اطلاع واسع على مصادر الفكرة، ومراجعها الأصلية ليكون على دراية كاملة بها، وبالأصول والقواعد التي تقوم عليها، فيملك بعدئذٍ الأهلية لنقدها. أما من يستقي أصول الفكرة من كلام خصومها، ونقدها من تشكيكات الحاقدين عليها؛ فلا يُعد باحثاً حقيقياً بل هو أسيرٌ لهواه، تطفل على البحث العلمي، ليحكم على الأمور بأفكار مسبقة، ويصل إلى نتائج أعدَّها سلفاً مقَلَّدوه من خصوم الإسلام وأعدائه.
والحقيقة أن هؤلاء الأدعياء لايملكون في هذا الميدان سوى معلومات ابتدائية مشوهة مبتورة، منها ما قُرِئ عليهم في مناهج الصف السادس والسابع من التعليم الأساسي، ومنها صفحات مرتبكة من كتابات استشراقية حاقدة، أقل ما توصف به هو إنها بعيدة بعد المشرقين عن الحقيقة والإنصاف.
إنهم يتحدثون عن الإسلام وكأنهم درسوا كتابه، وأحاطوا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم رواية ودراية، فامتلكوا الأهلية العلمية في التفسير والحديث، وصاروا من العلماء الراسخين في العقائد والفرق، ومن أئمة الاجتهاد في الفقه والأصول.
ولعل القارئ الكريم قد أدرك من الأولية السالف بيانها أن هذه المفتريات جديدة قديمة، وأن الذي يثيرها في أيامنا هذه ليس مستشرقاً حاقداً من غلاة المستشرقين بل هم طائفة من بني جلدتنا، يتسمون بأسمائنا ويتكلمون لغتنا أبوا إلا أن يرددوا كلام مقلَّديهم الذي لم يكن نقداً معيباً لا في مصدر الشريعة، ولا في الأصول والقواعد التي تقوم عليها بل في أمرٍ خارجٍ عنها.
وبناءً عليه فإن مناقشة هذه المفتريات تقتضي الإجابة عن الأسئلة الآتية:
• هل هناك حساب للزمن في تقييم النظم والأفكار والمناهج؟
• وهل هناك شروط موضوعية إذا تحققت في شريعة من الشرائع؛ حكمنا بصلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان؟
• وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد تحققت فيها – كما نزعم - الشروط التي مر ذكرها؛ فما خصائص انفرادها بحق رعاية الإنسانية على امتداد الزمان والمكان؟
وكل سؤال من الأسئلة الثلاثة يشكِّل جانباً من جوانب المناقشة.. فأقول وبالله التوفيق ومنه وحده أستمد الرشد والصواب.
قيمة الزمن في تقييم الأفكار والنظم والمناهج

باديء ذي بدء يخطأ من يجعل الزمن مسئولاً عن صلاحية الأفكار والنظم والمناهج، لأن سلامة الفكرة لا تتقرر بكونها حديثة أم قديمة بل بما يدعمها من الأدلة والبراهين الدالة على سلامتها، المقنعة للعقل بذلك.
ولعلنا إذا اتجهنا إلى مبعث هذه الفرية عند أصحاب هذه الدعوى لوجدنا مصدرها في مقررات الباحثين فيما يُعرَف بعلم النفس الغربي، الذي تأثر في كثير من مقرراته بإيحاءات نظرية النشوء والارتقاء التي ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فهم يقررون أن النفس البشرية ترى أن التمزق، والاستهلاك نتيجتان لبعض ما يتقادم عليه الزمن من الأشياء، فتتوهم أن كل ما يأخذ طابع القِدَم، لا بد أن يلازمه التمزق والاستهلاك، وهم يسمون ذلك بالارتباط الشرطي في النفس، فسيطر هذا المثير الوهمي على نفوس أصحاب هذه الدعوى فغرس فيها الاشمئزاز من التعامل مع كل ما هو قديم(1).
ولكن إذا كان هذا القانون النفسي هو سلاح المخرِّفين والمخادعين من الناس، لصرف خصومهم عن الحق، والتلبيس عليهم ما استطاعوا لذلك سبيلاً؛ فإنه لا يصح عقلاً أن يكون مجرد مرور الزمن هو الحاكم على الأشياء بالبطلان، لأن قيمة كل قديم وجديد بجدواه وآثاره، فَرُب جديد كان على الإنسان مبعث شقاء ودمار. ورُب قديم شهدت الدنيا كلها على أنه كان له وما يزال ينبوع سعادة وخير(2).
ولقد علم كل إنسان أن مقومات الحياة في هذه الدنيا لا تزال تنبع من معينها القديم الذي عرفه فجر الحياة فوق هذه الأرض: شمس وماء، وأرض وهواء، وزرع وضرع، لم يختلف شيء من ذلك منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا.
وإذا لم يصلح مجرد مرور الزمن لأن يكون حاكماً على الأشياء بالبطلان؛ فإن الزمن - من ناحية أخرى – لا يحدث في الإنسان تغييراً جوهرياً يستلزم تغيير النظم والمناهج تبعاً للقدم والحداثة. فالإنسان قديماً وحديثاً هو هو الإنسان بخصائصه الفطرية، وغرائزه، وحاجاته العضوية(3).
(1) محمد سعيد رمضان البوطي، "دعوى التعارض بين تشريعات الحدود ومفاهيم العصر"، مجلة دراسات قانونية، م8، ع7 (1978م)، بنغازي: كلية القانون بجامعة قاريونس، ص201-202 .
(2) المصدر نفسه، ص202.
(3) راجع في مفهوم الغرائز والحاجات العضوية: محمد عطية الفيتوري، فقه العقوبة الحدية في التشريع الجنائي الإسلامي،ط1( بنغازي: جامعة قاريونس، 1998) ج1، ص167-168.
فعلى سبيل المثال: حاجة الإنسان إلى الطعام هي حاجة عضوية فطرية، يقوم الإنسان بإشباعها كلما دعت الحاجة، سواء في هذا العصر أو في غيره. أما الكيفية التي يأكل بها الطعام؛ فإنها تتغير وتتطور على مر الزمن ... يستحدث كل يوم ألواناً جديدة من الطعام، وأنواعاً أخرى من أدوات الطهي، وأشكالاً لا حصر لها من الأواني، كما يستحدث كل يوم للطعام آداباً جديدة، وقواعد وتقاليد. إذن الذي يتغير هو صورة الطعام، لا الحاجة الضرورية للطعام، وقس على ذلك جميع الغرائز والحاجات العضوية الأخرى(1).
أما ما يمكن أن يحدثه الزمن في وضع الإنسان، فإنه لا يتعدى التغيير العارض الذي لا يمس جوهر الإنسان، بل يقتصر على تمييع في سلوكه تبعاً لدغدغة غرائزه، والانحراف بتفكيره عن جادة الصواب.
وهذا كله يزول باعتناق الفكرة الأساسية الكلية، المقنعة لعقله، المقررة لخصائص فطرته، الملبية لمتطلبات غرائزه وحاجاته العضوية، المنظمة لعلاقاته بما حوله ومن حوله، وهذا هو موضوع الفقرة التالية التي تمثل الجانب الثاني من جوانب مناقشة هذه المفتريات.
(1) راجع للتوسع: محمد قطب، التطور والثبات في حياة البشر، بلا رقم طبعة ( بيروت: دار الشروق، 1394ه/1974م ) ص89 وما بعدها.

شروط صلاحية التشريع لكل زمان ومكان
إن التسليم لأي شريعة بصلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان، يوجب أن يتوافر فيها الشروط الآتية:
الأول: أن تكون صادرة عن مصدر مختص بالتنزيه عن كل نقص والاتصاف بكل كمال
1- لأن صاحب الحق في إصدار الأمر لا بد أن يكون:
- عليماً بطبيعة المأمور، وطبيعة الأمر الذي يناسبه.
- عليماً بوظيفة المأمور في الأرض، ومقتضيات تحقيقها بالدرجة التي تبرر وجوده فيها(1).
- قائماً بنفسه، غنياً عن المأمور بدرجة تجعله لا يتضرر منه بمعصية ولا ينتفع منه بطاعة حتى يبلغ درجة التجرد في إصدار الأمر، فيكون أمره خالصاً لصالح المأمور وحده لا لصالح ذاته معه أو من دونه(2).
- بالغاً حد الكمال المطلق الذي ينفي عنه النقص، ويجعل أمره فوق النقد المعيب بغض النظر عن ظهور ذلك الامتياز أو عدم ظهوره.
2- ولأن صاحب الحق في إصدار الأمر لا بد أن يكون خالقاً:
- لأن الخالق وحده هو المنزَّه عن كل نقص، والمتصف بكل كمال(3).
- ولأن الخالق وحده هو المالك لخصائص القدرة التي تؤهله لإصدار الأمر على النحو الذي تقدم ذكره.
3- ولأن صاحب الحق في إصدار الأمر:
- هو وحده صاحب الحق في الطاعة(4).
- وهو وحده الذي يملك حق السيادة على خلقه؛ لأنه:
(1) راجع مثلاً: سورة الملك، الآية 14، والانفطار، الآيات 6-8. وراجع: محمد بن عمر بن حسين الطبرستاني المعروف بالفخر الرازي(ت:606ه)، مفاتيح الغيب المعروف بالتفسير الكبير،ط1( القاهرة: المطبعة البهية المصرية، 1307ه)ج2، ص209.
(2) راجع: عبد العزير المحمد السلمان، الكواشف الجلية عن معاني الواسطية، ط11( الرياض: المؤلف، 1401ه/1981م) ص55-57 – مؤلف مجهول، شرح العقيدة الطحاوية، ط3، تحقيق لجنة من العلماء ( دمشق: المكتب الإسلامي، بلا تاريخ) ص63-64 – وراجع في ذلك أيضاً: الانفطار:15، والذاريات:56-58، ومحمد:38.
(3) راجع في هذا المعنى: محمد نعيم ياسين، الإيمان: أركانه، حقيقته، نواقضه، بلا( الإسكندرية: دار عمر بن الخطاب، بلا تاريخ) ص10 وما بعدها – علي جريشة، أصول الشرعية الإسلامية: مضمونها وخصائصها، ط2( القاهرة: مكتبة وهبة، 1407ه/1979م) ص30-33.
(4) أحمد عبد الحليم بن تيمية، الإيمان، بلا ( طرابلس الغرب: دار الكتاب العربي ومكتبة التضامن البيروتية، بلا تاريخ) ص42-43.
• هو مصدر الشريعة.
• وهو مصدر اتصافها بالسيادة(1). أما الإنسان فهو مالك السلطة التي يملك بها تنفيذ الشريعة:
- فتكون له السلطة(2).
- وتكون للشريعة السيادة.
والثاني: أن تكون صادرة عن فكرة أساسية كلية تصلح أساساً لكل فكر، لضمان
التوافق والانسجام بين جميع جزئياتها، ولضمان خلوها من التناقض
1- لأن تناقض مشارب الشريعة، وصدورها عن فكر متعددة، ليست أساسية، ولا كلية، يؤدي إلى حدوث فوضى فكرية تشريعية، يتولد عنها انعدام التوازن في بنية المجتمعات التي تحكمها.
2- ولأن صدور الشريعة بهذه الكيفية، يجعلها وحدة موضوعية يساند بعضها بعضاً، ويساعد بعضها على تطبيق بعض.
3- ولأن فاعلية الشريعة، وقدرتها على ضبط الناس على الانقياد لحكمها، يتطلب انبثاقها من تصور عام، ومن فكرة أساسية كلية عن الإنسان وعن المجتمع البشري اللائق بهذا الإنسان:
• فيجب أن تكون القوانين الجزائية الضابطة لسلوكيات المكلَّفين من جنس الشريعة التي فرضت العقوبة مع غيرها من الأحكام.
• ويجب أن تكون الشريعة من جنس الفكرة الأساسية التي انبثقت منها.
• ويجب أن يكون الإنسان الذي يراد حكمه بالشريعة قد اعتنق الفكرة الأساسية الكلية التي انبثقت منها؛ لتكون لديه القناعة الفكرية بجدواها أو يكون قد اعتنق عقيدة أخرى؛ لكنه قَبِلَ أن يُحْكَم بالنظام الذي يَحْكُم بتلك الشريعة(3)، لتكون لديه القناعة الفكرية بالحرية في ظلِّها.
والثالث: أن تكون الفكرة الأساسية الكلية التي صدرت عنها الشريعة:
• مقنعة للعقل.
• مقررة لخصائص الفطرة الإنسانية.
• ملبية لمتطلبات غرائز الإنسان وحاجاته العضوية.
• قادرة على حل جميع ما يعترض طريقه من مشكلات، وتنظيم علاقاته بما حوله ومن حوله.
(1) إبراهيم عبد الكريم الغازي، الدولة والنظم السياسية، ط1( أبوظبي: دار المتنبي،1409ه/1989م )ص286-293.
(2) المصدر نفسه، ص293 وما بعدها.
(3) كالذميين وغيرهم من رعايا دولة الإسلام من غير المسلمين.
خصائص انفراد الشريعة الإسلامية
بحق رعاية الإنسانية في كل زمان ومكان
شريعة الإسلام هي وحدها الشريعة الصحيحة الصالحة لرعاية الإنسانية في كلِّ زمان ومكان، الجديرة باستجابة الإنسان لأوامرها، والتزامه بمقتضياتها. أما خصائص انفرادها بهذا الحق فتتمثل فيما يلي:
أولاً: أن الانقياد لحكمها هو رسالة المكلَّف التي خلقه الله لحملها إلى أن يلقاه(1).
فلقد اقتضت حكمة الله تعالى خلافة الإنسان في هذه الأرض تجسيداً لحريته فيها. قال جلَّ شأنه في سورة البقرة:{وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة. قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون(30) وعلَّم آدم الأسماء كلَّها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين(31) قالوا سبحانك لا علم لنا إلاَّ ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم(32) قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون(32)}.
وقد جاء ذلك بحكم أنه جلَّ شأنه صاحب الحق في أن يأمر؛ لأنه هو وحده صاحب الحق في أن يطاع. قال جل شأنه في سورة الأعراف:{ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين(54)}. وقد ملك الحق في إصدار الأمر لأسباب كثيرة منها:
1- أنه قد اختص بالتنزيه عن كل نقص والاتصاف بكل كمال(2)، وهذا يعني:
• أن أوامره كلها فوق النقد المعيب سواء أدرك الإنسان ذلك أم لم يدرك(3).
• وأنها غاية في الحكمة والعدل والرحمة من جميع جوانبها.
(1) راجع:مقالاً لي بعنوان: نقض القانون الوضعي نشرته في مجلة قاريونس العلمية (جامعة قاريونس – بنغازي)، س9،ع(3-4) ص92، وهامش رقم1- وراجع: فقه العقوبة الحدية، ج1، ص97-103.
(2) راجع في هذا المعنى: شرح العقيدة الطحاوية، ص37 وما بعدها – عبد العزيز السلمان، الكواشف الجلية، ص92-95- محمد نعيم ياسين، الإيمان، ص10- علي جريشة، أصول الشرعية الإسلامية، ص30-33.
(3) راجع في هذا المعنى: الأنعام: الآية 57، والآية 153، وهود: 123، والرعد: 41، ومريم: 64، والأنبياء:22، والقصص: 70-88. ومثل ذلك كثير في القرآن.
2- وأن من صفاته القيام بالنفس والاستغناء عن الخلق(1). وهذا يدل قطعاً على:
• أن أوامره كلها قد صدرت لصالح المخلوق وحده لا لصالحه جلَّ شأنه.
• وأنه لا ينتفع بطاعة هذه الأوامر، ولا يتضرر بعصيانها، بل المكلَّف هو المنتفع بالطاعة، المتضرر بالعصيان؛ لأنه قد خسر الانتفاع بالأمر الذي يعلم يقيناً أنه ما صدر إلا لصالحه(2).
3- ولأن من صفاته جلَّ شأنه أنه الخالق(3). وبمقتضى كونه خالقاً:
• هو عليم بطبيعة خلقه.
• وبطبيعة رسالة المكلَّف التي خلق لها.
• وبدوره في خدمتها.
• وبما يمكن أن يحول بينه وبين الوفاء بمقتضياتها(4).
ولذلك فهو أحق من يصدر له الأمر في كل جانب من جوانب حياته كلها. وبما أنه صاحب الحق في أن يأمر؛ كذلك هو صاحب الحق في أن يطاع(5).
4- وأنه جلَّ شأنه – بحكم اختصاصه بالتنزيه عن كل نقص، والاتصاف بكل كمال – لا يعبث(6)، ولذلك فهو لم يخلق الإنسان عبثاً، بل خلقه لرسالة مثلى، وهو يعلم أنه وحده العليم بالكيفية السليمة لتحقيقها(7):
• فهو يعلم الكيفية التي يستطيع بها حفظ نفسه بجميع إمكاناتها من كل ضياع.
• وهو يعلم الكيفية التي تمكنه من تسخيرها لإعلاء كلمته.
• وكذلك هو يعلم الكيفية السليمة التي تمكنه من تعمير أرضه العمارة المثلى.
5- وأن المكلَّف لا يمكن أن يفي بمسئولياته في الحياة الدنيا، ويلبي مبررات وجوده فيها ما لم يكن حرّاً من العبودية لمخلوق مثله، ولو كان جزءاً من مكونات ذاته نفسها كعقله، وقلبه، وحواسه، وغرائزه، وحاجاته العضوية، وقواه العضلية التي تخدمها جميعاً. وكذلك فإنه لا بد أن يتلقى من الأوامر ما يكفي للوفاء بما تقدم ذكره من مسئولياته الكبرى، فإما أن يتلقاها من مخلوق مثله فيكون
(1) السلمان، الكواشف الجلية، ص55-57 – شرح العقيدة الطحاوية، ص63-64 – عبد الحميد السائح، عقيدة المسلم وما يتصل بها، ط1( عمان: وزارة الأوقاف، 1398ه/1978م) ص124.
(2) راجع في ذلك مثلاً: الأنعام: 153، فاطر: 15، الذاريات: 56-58، محمد: 38.
(3) عبد الرحمن حسن حبنكة، العقيدة الإسلامية وأسسها، ط2( دمشق: دار القلم،1399ه/1979م) ص253-261 – شرح العقيدة الطحاوية، ص75-80 – السلمان، الكواشف الجلية، ص57 – محمد أشرف، " نظرة الإسلام إلى العدل والعقوبات الجنائية "، مجلة البعث الإسلامي التي تصدر عن ندوة العلماء بالهند، المجلد13، ع6( مارس1969م) ص55 وما بعدها.
(4) راجع مثلاً: الملك: 14، الأنعام: 153.
(5) ابن تيمية، الإيمان، ص42-43.
(6) راجع مثلاً: الآية 115 من سورة المؤمنون.
(7) شرح العقيدة الطحاوية، ص90-94.
له عبداً، وإما أن يتلقاها من خالقه فيكون لخالقه وحده عبداً. ولذلك فلا بد أن يكون عبداً لله وحده ليكون حرّاً من العبودية لغيره(1).
ثانياً: أنها هي وحدها الكفيلة بتمكين الإنسان من إقناع غيره بمبررات وجوده في الحياة، والوفاء بمقتضيات الخلافة في الأرض، وتعميرها العمارة المثلى الجامعة بين اتقان البناء في عمارتها شكلاً ومضموناً، بدرجة يكون الإنسان فيها بشراً سويّاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
ثالثاً: أنها هي وحدها الشريعة المنبثقة من(2)فكرة أساسية كلية مقنعة للعقل، مقررة لخصائص الفطرة الإنسانية، ملبية لجميع متطلبات غرائز الإنسان وحاجاته العضوية، منظمة لجميع علاقاته بما حوله ومن حوله.
رابعاً: أن الفكرة الأساسية الكلية التي انبثقت منها قد صدرت عن خالق الإنسان المنزَّه عن كل نقص، المتصف بكل كمال، وذلك أمر ثابت عقلاً ونقلاً.
خامساً: أنها انفردت بسمات أساسية من أبرزها:
1- الضبط على القواعد الأساسية التي تحفظ للبشرية الوضع السليم المناسب لحفظ إنسانيتها على مر الزمن، وذلك بالقطع بالتحريم في الأمور المتعلقة بالقيم الأساسية التي تمس كيان المجتمع المسلم، والتي – بطبيعتها – لا تقبل التبديل أو التعديل أو التطوير، فهي لصيقة بالكينونة البشرية، ووظيفتها في الحياة، كتحريم الرِّدة عن الإسلام بعد اعتناقه واتخاذه عقيدة ومنهاجاً، وتحريم الزنى وما يقود إليه من اختلاط وتبرج، وتحريم شرب الخمر والاتجار فيها، وغير ذلك.
2- المرونة التي تلزم الإنسانية بالتطلع إلى الكمال الإنساني على مر الزمن، وذلك بوجود النصوص الظنية التي تتطلب استفراغ المجتهد جهده في استنباط الحكم الشرعي منها.
3- الشمول والانسجام الذي ينفي عن الإنسانية الافتقار إلى غيرها، ويضمن لها الاستغناء الدائم على مر الزمن.
(1) السلمان، الكواشف الجلية، ص49 – ابن تيمية، الإيمان، ص42-43 – محمد نعيم ياسين، الإيمان، ص102-105.
(2) عدَّ الأستاذ زهدي جار الله قول القائل: "انبثق عنه " بمعنى صدر وفاض – عدَّه من الأخطاء. والصواب في رأيه أن نقول: " انبثق منه ". والحقيقة يستوي عند أئمة النحو قولك: " انبثق منه الشيء " و " انبثق عنه الشيء "إذا قصدت " بمن" كون المجرور بها موضعاً انفصل عنه الشيء وخرج منه. راجع: زهدي جار الله، الكتابة الصحيحة، بلا رقم طبعة (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بلا تاريخ) ص38 – وراجع كذلك ما ذكره العلامة المحقق رضي الدين محمد بن الحسن الاستراباذي (ت:688ه)، في شرحه على كافية ابن الحاجب، الذي طبعته جامعة قاريونس بعنوان: شرح الرضي على الكافية بتصحيح وتعليق الأستاذ: يوسف حسن عمر، ط2، 1996، ج2، ص265.
سادساً: أنها شريعة عالمية لا يقيدها زمان أو مكان أو قوم بعينهم أو قضايا خاصة ببعض بني الإنسان، فهي طليقة من جميع هذه القيود، تمتاز بالكمال، والشمول في كل جانب من جوانب حياة الإنسان.
لذلك كله فإن الأمور التي سلف بيانها مجتمعة هي رسالة المكلَّف التي خلقه الله لحملها، ولا بد له جلَّ شأنه من تزويده بما يعينه من أوامره على الوفاء بمقتضياتها، وينجيه من الضياع في متاهات العبودية لغيره، وفقد حريته العظمى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.