قبلي: اجراء 37 عملية جراحية مجانية لازالة الماء الابيض في اطار اليوم الوطني الاول لصحة العيون    "اليونيدو" والوكالة الايطالية للتعاون من أجل التنمية توقعان اتفاقا لتمويل مشروع "تونس المهنية " بقيمة 5ر6 مليون اورو    وزير السياحة يؤكد ادماج جميع خريجي الوكالة الوطنية للتكوين في مهن السياحة والحاجة الى رفع طاقة استيعاب وحدات التكوين    الزيت البيولوجي التونسي ينفذ إلى السوق الأمريكية والفرنسية بعلامة محلية من جرجيس    رسمي : محسن الطرابلسي رئيسا جديدا للنادي الإفريقي    الكاف: لأول مرة.. 20 عملية جراحية لمرضى العيون مجانا    ميناء جرجيس… رصيد عقاري هام غير مستغل ومطالب باستقطاب استثمارات جديدة    أردوغان: متفائلون بأن النصر سيكون إلى جانب إيران    7 مؤسسات ستنتفع بامتياز تكفل الدولة بفارق الفائدة على قروض الاستثمار..وهذه التفاصيل..    قبلي: حادث مرور يودي بحياة جزائري وإصابة مرافقه    جندوبة: وزير السياحة يتابع استعدادات الجهة للموسم السياحي ومدى تقدّم عدد من المشاريع السياحية والحرفية    عاجل/ ترامب يمهل ايران أسبوع لتفادي الضربات الامريكية المحتملة..    جامعة تونس المنار تحرز تقدما ب40 مرتبة في تصنيف QS العالمي للجامعات لسنة 2026    هل يحل الذكاء الاصطناعي محل الأطباء النفسيين؟    اليوم: أطول نهار وأقصر ليل في السنة    عاجل/ الداخلية الليبية تؤكد تعرض عناصرها الأمنية لهجوم مسلح داخل طرابلس..    إيران تقدم شكوى إلى الأمم المتحدة ضد المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية    صدمة في قطاع الهندسة: 95% من مهندسي الإعلامية يغادرون تونس بحثًا عن فرص أفضل!    اكتمال النصاب القانوني وانطلاق أشغال الجلسة العامة الإنتخابية    القصرين: بطاقات إيداع بالسجن في قضية غسيل أموال مرتبطة بالرهان الرياضي    وزارة الثقافة تنعى فقيد الساحة الثقافية والإعلامية الدكتور محمد هشام بوقمرة    الفنان أحمد سعد يتعرض لحادث سير برفقة أولاده وزوجته    وفاة بريطانية بعد إصابتها بداء الكلب في المغرب    رئيس المخابرات الأمريكية الأسبق: الولايات المتحدة ستغرق إذا ضربت إيران    كاتس يعلن تصفية قائد إيراني وموجة صواريخ إيرانية جديدة    الوجهة السياحية جربة جرجيس الأولى وطنيا وتوقعات بتسجيل أكثر من مليون زائر    مدنين: اختصاصات جديدة في مهن سياحية وانفتاح على تكوين حاملي الإعاقة لأول مرة    طقس السبت.. ارتفاع طفيف في درجات الحرارة    ردّ فعل رسمي وعاجل من وزارة الخارجية بعد العثور على جثة عبد المجيد الحجري بستوكهولم    طقس اليوم السبت: أجواء صيفية مستقرة على كامل البلاد    اليوم: الإنقلاب الصيفي...ماذا يعني ذلك في تونس؟    كأس العالم للأندية: برنامج مباريات اليوم السبت    إغتيال قائد لواء المسيّرات الثاني بالحرس الثوري الإيراني    الانقلاب الصيفي يحل اليوم السبت 21 جوان 2025 في النصف الشمالي للكرة الأرضية    بايرن ميونخ يفوز على بوكا جونيور و يتأهّل إلى ثمن نهائي كأس العالم للأندية (فيديو)    كأس العالم للاندية.. الترجي ينتصر على لوس انجلوس الامريكي    أسرة عبد الحليم حافظ تُقاضي مهرجان "موازين" الدولي بالمغرب    وزير الاقتصاد.. رغم الصدمات تونس لا زالت جاذبة للاستثمارات    بين طموح التميز وشبح الإقصاء .. النموذجي... «عقدة » التلاميذ !    في اختتام مهرجان « Bhar Lazreg Hood» منطقة البحر الأزرق .. معرض مفتوح لفن «الغرافيتي»    باجة: نسبة تقدم الحصاد بلغت 40%.    الأحد: فتح المتاحف العسكرية الأربعة مجانا للعموم بمناسبة الذكرى 69 لانبعاث الجيش الوطني    السبت 21 جوان تاريخ الانقلاب الصيفي بالنصف الشمالي للكرة الأرضية    صحتك النفسية فى زمن الحروب.. .هكذا تحافظ عليها فى 5 خطوات    ارتفاع لافت في مداخيل السياحة وتحويلات التونسيين بالخارج... مؤشرات إيجابية للاقتصاد الوطني    عاجل : أزمة جديدة تلاحق محمد رمضان    ارتفاع درجات الحرارة يسبب صداعًا مزمنًا لدى التونسيين    عاجل/ العامرة: إزالة خامس مخيّم للمهاجرين يضم 1500 شخصا    منصّة "نجدة" تساعد في انقاذ 5 مرضى من جلطات حادّة.. #خبر_عاجل    منتدى الحقوق الاقتصادية يطالب بإصلاح المنظومة القانونية وإيجاد بدائل إيواء آمنة تحفظ كرامة اللاجئين وطالبي اللجوء    التشكيلة المحتملة للترجي أمام لوس أنجلوس    "ليني أفريكو" لمروان لبيب يفوز بجائزة أفضل إخراج ضمن الدورة 13 للمهرجان الدولي للفيلم بالداخلة    كاس العالم للاندية : ريال مدريد يعلن خروج مبابي من المستشفى    بطولة برلين : من هي منافسة أنس جابر اليوم الجمعة ؟    ''التوانسة'' على موعد مع موجة حرّ جديدة في هذا التاريخ بعد أمطار جوان الغزيرة    تقص الدلاع والبطيخ من غير ما تغسلو؟ هاو شنو ينجم يصير لجسمك    الأوركسترا السيمفوني التونسي يحتفي بالموسيقى بمناسبة العيد العالمي للموسيقى    ملف الأسبوع...ثَمَرَةٌ مِنْ ثَمَرَاتِ تَدَبُّرِ القُرْآنِ الْكَرِيِمِ...وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوارمع التعليقات على الرؤية الشرعية للانتخابات (2) أ.د. عبد الرحمن البر
نشر في الفجر نيوز يوم 08 - 10 - 2010

أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر وعضو مكتب الإرشاد
هل المسألة سياسية بحتة:
يجرنا الكلام السابق إلى فكرة تكررت في كثير من التعليقات بشكل واضح وعبر عنها بوضوح الأخ الشيخ عصام تليمة الذي رأي أنني أسبغت عباءة الشرع على توجهي (هكذا يرى!) في أمر سياسي بحت يجب أن نتركه لأهل الذكر فيه وهم أهل السياسة، ولا نقحم الشرع فيه!
وأنا أوافق من حيث المبدإ على القول بوجوب سؤال أهل الذكر في كل مجال قبل الإفتاء فيه، وقد كان الأئمة الكرام يأتون الأسواق وينزلون إلى أصحاب الصنائع ليعرفوا حقيقة المسألة، حتى تأتي فتاويهم منطبقة على واقع الأمر.
لكن هل معنى ذلك أن نترك أهل الذكر في المجالات المختلفة يفتون لأنفسهم، أم أن سؤالهم هو لمعرفة الحقائق، ثم تكون الفتوى لأهل الذكر من العلماء؛ لبيان مدى توافق المعاملة مع الشريعة أو عدم توافقها؟
وماذا فعلت أنا في هذه الرؤية إلا أنني نقلت فوائد المشاركة ومفاسد المقاطعة التي قرأتُها وسمعتُها ولمستُها بنفسي من خلال أكثر من ثلاثين سنة في ميدان العمل العام ومنه السياسي والدعوي (أم لا يصلح أن يكون من أهل الذكر في الميدان السياسي إلا من تخرج في العلوم السياسية؟)، ثم كان رأيي بناء على هذا أن المشاركة واجبة في الأصل، وأن المقاطعة ما لم تكن هناك مصلحة شرعية معتبرة تعد هروبا من المسؤولية (ودعني هنا أسحب عبارة: «أشبه بالتولي يوم الزحف»، حيث أسيء فهمها، ولست في وارد الدخول في جدل لفظي أو فقهي حولها ليس هذا وقته ولا مجاله).
غير أن ما أخشاه أن يفهم من كلام الأخ الشيخ عصام وغيره أن معنى (فاسألوا أهل الذكر) ترك الفتوى في كل مجال لأهله، وعدم إقحام الشرع وعلماء الشريعة في المجالات المختلفة، بحيث لا يبقى لهم ما يفتون فيه ويتكلمون عنه إلا العبادات المحضة. وهذا أقصى ما يطمح إليه كل الداعين إلى فصل الدين عن واقع الحياة, وغالب ظني – الذي يقارب اليقين- أن الأخ الشيخ عصام وغيره لم يقصدوه، لكنه مؤدى القول بعدم إقحام الشريعة في الموضوع، وعدم إقحام علماء الشريعة أنفسهم في الموضوع.
والعجيب أن الأخ الشيخ عصام في (خامسا) يعود فيقول: «إن المقال يؤصل لشرعية المشاركة في الانتخابات على وجه العموم، كوسيلة إصلاحية، وهو ما لم يعد أحد ينكر شرعيته» فهو من الأمور التي تكلم فيها علماء الشريعة إذاً؟ فعلام الإنكار على شخصي الضعيف إذا سرت على درب العلماء الشرعيين الذين تصدوا لهذه القضية؟
وأسجل تحفظي على القول «وهو ما لم يعد أحد ينكر شرعيته» فهذا إطلاق مبالغ فيه، ولا يزال نفر غير قليل ينكر شرعية الانتخابات، وقد كان ذلك أحد أهم الأسباب التي دفعتني لكتابة هذه الرؤية.
وجوب المشاركة هو الأصل:
هنا أقول لكثير من الإخوة الذين علقوا بأن القضية دائرة بين الصواب والخطأ (ودعوني أعبِّر بالتعبير الفقهي: بين الجواز وعدم الجواز، أو بين المشروعية وعدم المشروعية): هذا رأيكم وهو يوافق رأي كثير من أهل العلم القائلين بجواز المشاركة في الانتخابات، باعتبارها لا تصادم الشريعة، ومستندهم في الغالب هو أنها أمر مستحدث خاضع لأصل الإباحة، ولم يتعرض أحد لنقض الوجوه التي قال بها القائلون بالوجوب.
لكنني مع القائلين بأن المشاركة واجبة، وقد سقت كثيرا من الأدلة في عرض الرؤية، ومن أراد أدلة أكثر فليراجع كتاب أخينا وشيخنا الأستاذ الدكتور صلاح سلطان « مشاركة المسلمين في الانتخابات الأمريكية.. وجوبها وضوابطها الشرعية».
ولست أول من قال بالوجوب، وسأكتفي هنا بذكر مختصرات من أقوال أئمة كرام وفقهاء عظام، لست أكثر من تلميذ بالنسبة لهم:
قال شيخ الأمة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
«...ومن تخلف عن أداء واجبه الانتخابي حتى رسب الكفء الأمين وفاز بالأغلبية من لا يستحق ممن لم يتوفر فيه وصف القوي الأمين فقد خالف أمر الله في أداء الشهادة وقد دُعِي إليها وكتم الشهادة أحوج ما تكون الأمة إليها، وقد قال الله تعالى:﴿ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا﴾[البقرة: 283]، ﴿ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه﴾[البقرة: 283]».
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
«أنا أرى أن الانتخابات واجبة, يجب أن نعين من نرى أن فيه خيراً، لأنه إذا تقاعس أهل الخير من يحل محلهم؟ أهل الشر! أو الناس السلبيون الذين ليس عندهم لا خير ولا شر, أتباع كل ناعق, فلابد أن نختار من نراه صالحا».
وقال المستشار فيصل مولوي حفظه الله وشفاه: «وأرى أن المشاركة في الانتخابات تعتبر نوعاً من الجهاد الأكبر لأنها:
1- جهاد ففيها بذل جهد كبير لخدمة الإسلام والمسلمين، أو رفع بعض الضرر عنهم، أو إزالة بعض المنكرات من حياتهم، ضمن حدود المستطاع.
2- وهي جهاد أكبر، لأنها فريضة الوقت كما يقول العلماء.
فقضية الإسلام اليوم هي انحراف الحكام عن دين الله، والجهاد الأكبر هو في إصلاحهم أو استبدالهم، والمشاركة في الانتخابات هي الوسيلة المعاصرة لذلك، وهي في حدود المستطاع.
أما الجماعات الإسلامية التي لا تشارك في عمليات الانتخابات فقد فاتها القيام بهذا الواجب، وأمامها واجبات أخرى كثيرة تستطيع أن تقوم بها إن أرادت، لكنها ليست بديلاً عن واجب المشاركة في الانتخابات في رأينا، ولا تزيل عنهم إثم التخلف عن هذه المشاركة، فالقيام بواجب له أجره، والتخلف عن واجب له إثمه ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفي بِنَا حَاسِبِينَ﴾[الأنبياء: 47] والله أعلم».
ويقول الأخ الفقيه الأصولي الأستاذ الدكتور صلاح سلطان: إنها (يعني المشاركة في الانتخابات) تعد ضرورة واقعية وفريضة شرعية، حتى لو كانت الدولة تزور تلك الانتخابات، فلا يكن التزوير سببا في تخلي المواطن عن أن يدلي بصوته».
وقد ذكر فضيلته أدلة الوجوب ووجه الدلالة التي ذكرتُ كثيرا منها في رؤيتي، ثم قال:
«لهذه الأدلة الشرعية والاجتهادات الفقهية والأسباب العقلية والشواهد الواقعية يبدو لي وجوب المشاركة الانتخابية، وأن يشارك كل مسلم في كل الانتخابات الرئاسية والنيابية والبلدية والجامعية والنقابية وغيرها».
وبعد أن استعرض الأستاذ محمد أحمد الراشد الأوضاع العالمية وحكم المشاركة في الانتخابات في البلاد الغربية، قال:
«ولذلك كله أرى، وبالمقدار الذي حصل لي بحمد الله من الموازين والعلوم الشرعية والفقه الإيماني: أن إدلاء المسلم بصوته الانتخابي لمرشحي التيارات المعتدلة في البلاد الغربية النصرانية صار في عداد الواجبات الإسلامية» مؤكدا أنه اعتمد في ذلك على ما قاله الشيخ الفقيه الأصولي الدكتور عبد الكريم زيدان.
فإذا كانت المشاركة في البلاد الغربية واجبة، أليس وجوبها أولى في البلاد الإسلامية.
هذا رأيي:
هذا –إذاً- رأيي ورؤيتي التي لم أنفرد بها، ولم أكن أول من قال بها، قدمتُها في قضية المشاركة في الانتخابات بشكل عام، اقتنعتُ بهذا، ولا أزال مقتنعا به، وهو صواب يحتمل الخطأ، ولا أصادر على غيري رأيه، وديننا العظيم لا يعرف الكهنوت، ولا يعرف الشيخ أو العالم الذي لا يجوز أن تُعَارَض فتواه أو ينقد ويُنْقَض رأيُه.
كما أن هذا الرأي المبني على الاجتهاد والنظر في الأدلة والوقائع قابل للتغيير، إذا ظهر لصاحبه من الأدلة وبان له من الفهم والمعرفة ما يمكن معه تغيير القول من الوجوب إلى الجواز، بل إلى القول بالمنع، متى كان ذلك مبنيا على الأدلة؛ لا على الهوى، وليس ذلك تلونا ولا مراوغة، بل دوران مع الحق ومتابعة للدليل، وهذا إمام الأمة وناصر السنة الإمام الشافعي كان له مذهب قديم ومذهب جديد، ولم يكن ذلك تلونا منه ولكنه تفاعل شرعي مع الأدلة وما يستجد من معرفة ووقائع، وهذا أمير المؤمنين الخليفة الفقيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أفتى في مسألة، ثم سئل فيها بعد ذلك فأفتى برأي آخر، فلما روجع قال: «ذاك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي».
الحكم الشرعي الثابت والمتغير:
لم أكن أتصور أنني سأضطر للدخول في بعض المسائل العلمية والأصولية الدقيقة، لولا أنني رأيت بعض إخواني من الشباب دخلوا في عمق بعض القواعد الأصولية والفقهية، ولشد ما أسعدني هذا، وإن كان التناول في كثير من الأحيان (فطيراً) في حاجة إلى عمق ودراسة، لكن المشاركة والحوار ربما ساعدت في الدفع إلى التنمية في هذا المجال، وهذا بحد ذاته مكسب عظيم، وأرجو أن أسعد برؤية عدد كبير من الفقهاء المتميزين النابهين المستكملين لأدوات الفقه والمعرفة.
هذه مقدمة لأقول: من البدهي لدى دارسي الشريعة أن ثمة فارقا بين الحكم الشرعي المطلق الثابت بنصوص محكمة لا تقبل التغيير، وبين الحكم الشرعي المبني على علة يدور معها وجودا وعدما، أو المبني على فهم واستنباط ونظر في النصوص، فالأول غير قابل للنقض أو التغيير بأي حال، والثاني يمكن أن تتفاوت فيه آراء أهل العلم، بل يمكن أن يتغير فيه رأي الفقيه الواحد، وقد عقد الإمام ابن القيم فضلا استغرق أكثر من مائة صفحة في كتابه القيم «إعلام الموقعين عن رب العالمين» بعنوان : «تغير الفتوي بتغير الزمان والمكان».
وهذا كله خلاف الفتوى التي ينظر فيها الفقيه إلى الواقع ومدى انطباق الحكم الشرعي على الواقعة محل الاستفتاء وتنزله عليها، وفي هذا الصدد فربما أفتى الفقيه في المسألة الواحدة فتاوى مختلفة؛ لاختلاف السياق أو الأشخاص أو الظروف المحيطة بكل مسألة، أو الأزمنة التي عرضت فيها.
فمثلا: الحكم الشرعي غير القابل للنقض في الربا: أنه حرام، فإذا جاء شخص يستفتي في معاملة معينة، فإن واجب المفتي أن يعرف حقيقة المسألة، ثم ينظر هل تنطبق عليها حقيقة الربا، فعندئذ يفتي بحرمة تلك المعاملة، أو أنها لا تنطبق عليها حقيقة الربا، ومن ثم لا يجري عليها حكمه.
وفي المسألة محل الحوار وهي الانتخابات: نرجع إلى أصول الشريعة فنرى أن الإيجابية وممارسة الحسبة والقيام بالأمر والمعروف والنهي عن المنكر كلها واجبات شرعية، والانتخابات إحدى الوسائل المعاصرة التي يتحقق بها هذا الأمر، والغياب عنها يؤدي إلى المفاسد التي ذكرتها في أثناء عرضي للرؤية وذكرها غيري، ومن ثم تأخذ المشاركة فيها حكم الوجوب، بشكل عام.
فإذا جاء السؤال إلى اتنخابات بعينها، كأن يسأل سائل عن انتخابات مجلس الشعب المصري في 2010، فهنا يلجأ الفقيه إلى النظر في المصالح والمفاسد المتوقعة من كل من المشاركة أو المقاطعة في هذه المرة؛ لا في أصل وجوب المشاركة، فإن ظهر له بعد البحث والفحص وتقليب الآراء واستشارة العقلاء أن تحقيق المصالح ودفع المفاسد أكثر تحققا بالمشاركة صارت المشاركة هذه المرة واجبة، وإذا بدا له في هذه المرة أو في غيرها أن المصالح المرجوة لن تتحقق والمفاسد المتوقعة لن تدرأ بالمشاركة صارت المقاطعة هي الواجبة.
وهذا عين ما أرى أن الإخوان المسلمين يفعلونه، فالأصل عندهم المشاركة في كل انتخابات، ولكن أمام كل استحقاق انتخابي يتم تقييم الموقف واستشارة الإخوان واستمزاج رأي المفكرين وأهل الرأي، وعندئذ ينزلون على الرأي الغالب، سواء بالمشاركة أو بالمقاطعة، تحقيقا لمعنى الشورى، والتماسا لبركة الاستشارة. وقد يوافقهم في هذا غيرهم أو يخالفهم، وهم لا يكرهون أحدا على ما استقرت عليه نتيجة الشورى عندهم، ولا يقبلون أن يلزمهم أحد بخلاف إرادة الأغلبية الإخوانية التي قالت رأيها.
أرجو أن يتفهم هذا الذين سألوا عن مقاطعة الإخوان لانتخابات 1990، أو مقاطعة إخوان الأردن للانتخابات الأردنية، فأهل مكة أدرى بشعابها، ولكل وجهة هو موليها.
لا ضرر من الاختلاف ما لم يكن اتباعا للهوى:
يجرنا هذا إلى الحديث عن (الحرج) الذي يرى بعض الإخوان الكرام أنهم يقعون فيه حين نقول بوجوب المشاركة وتأثيم الامتناع، إذ يرى هؤلاء الأحبة أن القول بذلك يصادر الرأي الآخر، وهو ما اعتبره البعض كارثة!!
وأقول: هذا الفهم خطأ، بني على مقدمة خطإ، إذ يرى البعض أن مخالفة عالم في فتواه أو جماعة في رأيها الشرعي هو مخالفة للدين، وبالتالي فيجب عدم المعارضة، وعلى هذا فالقول بالوجوب أو الحرمة تكميم للأفواه ومنع لإبداء رأي مخالف.
وهذا من القضايا التي يلح عليها الداعون لفصل الدين عن واقع الحياة، إذ يرون أن الدين مطلق، ووقائع الحياة نسبية! ويجب ألا يتحكم المطلق في النسبي، حتى لا يقع الناس في الحرج والضيق، وبالتالي فيكفي أن يكون الدين علاقة بين العبد وبين الله تمارس في المسجد وفي داخل النفس فقط، فهل هذا صحيح؟
الحقيقة أن هذه الفلسفة خلط (أكاد أجزم أنه غير بريء) ففي الدين ما هو مطلق وما هو نسبي، ومن أحكامه ما هو ثابت لا يتغير، ومنها ما هو دائر مع مصلحة العباد، كما سبق أن بينت من قبل. ولهذا وجدنا المذاهب الفقهية تختلف في نحو ثلاثة أرباع المسائل في العبادات والعاديات، دون أن يقول أصحاب أحد المذاهب: إن فتوى المذهب الفلاني بوجوب كذا أو تحريمه مصادرة للرأي على الإطلاق، ولم أقف – في حدود علمي – على وجود لهذا الخلط الفلسفي الذي يروجه البعض هذه الأيام؛ لتخويف الناس من الشريعة الإسلامية ومحاولة فض الجماهير من حول الداعين إليها. ولا أحب أن أمضي في هذا الجدل الفلسفي الذي لا أصل له في كلام الفقهاء والعلماء، ولم نسمع به إلا في كتابات بعض الكتاب المحدَثين، فلهذا مجال آخر.
الاختلاف في الفتوى لا يعني بالضرورة حيرة الناس:
يتلطف البعض –كما فعل أخونا الشيخ عصام وغيره- فيقول: إن العالم إذا أصدر فتوى بوجوب المشاركة، وأصدر آخر فتوى بوجوب المقاطعة؛ وقع الناس في الحيرة، وصار الدين –على غير الحقيقة- سببا للحيرة، بدلا من أن يكون سببا للهداية.
وأقول لإخواني: رفقا بأنفسكم وبالأمة، فالاختلاف بين العلماء لا مفر منه، ولا سبيل لمنعه، ولا خوف منه على الإطلاق، إذا صحت النيات، ولم تكن الفتاوى على سبيل المكايدة أو مبنية على الميل مع الهوى، ففي كثير من المسائل خالف أبو حنيفة مالكا، وخالف الشافعي كليهما، وخالفه أحمد، وخالفهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وخالفه غيره، وكان ذلك في مسائل من أصول الدين وفروعه أهم بكثير من موضوع الانتخابات،ومع ذلك لم نتزل بالأمة كارثة، ولا حاقت بها الحيرة، بل كان الاختلاف إثراء للفقه والفكر وتوسعة على الأمة.
بل غالب مسائل الدين فيها اختلاف، والعبرة بأن يكون الاختلاف مؤسسا على علم وفقه ودلائل شرعية ومقصودا به طلب الحق وابتغاء وجه الله، وليس قائما على الهوى الشخصي والميل النفسي، وعلى المختلفين أن يعذر كل منهما الآخر، ولا يلزم أحدهما أن ينزل عما يراه أصح بحجة حماية الناس من الوقوع في الحيرة.
وأما العوام (وهم غير المتخصصين في علوم الشريعة وغير القادرين على الاجتهاد والنظر الشرعي) فيسعهم أن يقلدوا من يثقون بدينه وأمانته وعلمه وكفايته، فإن تساوى المفتون في ذلك فله أن يقلد أيا منهم حتى يجد من يترجح لديه كفايته العلمية والأخلاقية، ولا حرج في ذلك على الإطلاق، ولم تزل الأمة تختلف (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم).
أليست هذه إحدى صور حرية الرأي الناضجة النافعة التي تدل على أن تحكيم الشريعة في كل المجالات يفتح آفاقا رحبة للاجتهاد والنظر وحرية الرأي، وتدحض قول القائلين: إن إقحام الشريعة في المجال العام يسبب الحرج للأمة.
لو أننا في كل مسألة يختلف فيها أهل العلم قلنا: لا داعي لذكر الراجح، ولا داعي لاستخدام ألفاظ الوجوب والتحريم والتأثيم ونحوها واكتفينا بعرض الآراء فقط لكنا مضرب المثل في التضييع والتمييع.
لهذا لا أجد أدنى حرج من إبداء رأيي في تأييد القول بوجوب المشاركة في الانتخابات متى كان في ذلك مصلحة شرعية معتبرة واجبة، كما لا أجد أدنى حرج في القول بالمقاطعة إذا اقتعت بأنها التي تحقق المصالح الشرعية، وإذا تغيرت الظروف.
فلو فرضنا مثلا: أن الحزب الوطني وحكومته البائسة منعت بالتسلط والقهر والتحايل المرشحين الإسلاميين من الترشح للانتخابات فسيكون من البدهي الدعوة إلى المقاطعة.
وفي ختام هذه الحلقة أقول للذين يقولون: الانتخابات ليست الباب الوحيد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلماذا التمسك بها؟
نعم ليست الباب الوحيد، ولا يصح لأحد أن يقول بذلك، وقد ذكرت ذلك في عرضي لرؤيتي، والسؤال: إذا كانت أحد أهم الأبواب المؤثرة فلماذا التخلي عنها؟
وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة والأخيرة إن شاء الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.