هام: مرض خطير يصيب القطط...ما يجب معرفته للحفاظ على صحة صغار القطط    عفاف الهمامي: كبار السن الذين يحافظون بانتظام على التعلمات يكتسبون قدرات ادراكية على المدى الطويل تقيهم من أمراض الخرف والزهايمر    تحذير من تسونامي في اليابان بعد زلزال بقوة 6.7 درجة    النواب يناقشو مهمة رئاسة الحكومة: مشاريع معطّلة، إصلاح إداري، ومكافحة الفساد    عاجل-أمريكا: رفض منح ال Visaللأشخاص الذين يعانون من هذه الأمراض    الجزائر.. الجيش يحذر من "مخططات خبيثة" تستهدف أمن واستقرار البلاد    شوف وين تتفرّج: الدربي ومواجهات الجولة 14 اليوم    التشكيلات المحتملة للدربي المنتظر اليوم    تعرفش شكون أكثر لاعب سجل حضوره في دربي الترجي والإفريقي؟    سحب وأمطار بالشمال وانخفاض طفيف في الحرارة    طقس اليوم: أمطار غزيرة ببعض المناطق مع تساقط البرد    اختتام الدورة الثالثة للمهرجان الوطني للمسرح التونسي "مواسم الإبداع": مسرحية "الهاربات" لوفاء الطبوبي تُتوّج بجائزة أفضل عمل متكامل    الأربعاء المقبل / إطلاق تحدّي " تحدّ ذكاءك الاصطناعي" بالمدرسة العليا للتجارة    احتفاءً بالعيد الوطني للشجرة: حملة وطنية للتشجير وبرمجة غراسة 8 ملايين شتلة    المسرح الوطني يحصد أغلب جوائز المهرجان الوطني للمسرح التونسي    الشرع في واشنطن.. أول زيارة لرئيس سوري منذ 1946    مالي: اختطاف 3 مصريين .. ومطلوب فدية 5 ملايين دولار    تشيلسي يصعد لوصافة الدوري الإنجليزي بالفوز على وولفرهامبتون    الأحد: أمطار رعدية والحرارة في انخفاض    زيادة في ميزانية رئاسة الحكومة    وزارة الصحة: 1638 فحص أسنان: 731 حالة تحتاج متابعة و123 تلميذ تعالجوا فورياً    رأس جدير: إحباط تهريب عملة أجنبية بقيمة تفوق 3 ملايين دينار    منخفض جوي وحالة عدم استقرار بهذه المناطق    منتدى تونس لتطوير الطب الصيني الإفريقي يومي 21 و22 نوفمبر 2025    إعداد منير الزوابي .. غيابات بالجملة والبدائل جاهزة    الجولة 12 لبطولة النخب لكرة اليد :سبورتينغ المكنين وجمعية الحمامات ابرز مستفيدين    تونس تحتضن ندوة دولية حول التغيرات المناخية والانتقال الطاقي في أكتوبر 2026    الدورة 44 لمعرض الشارقة الدولي للكتاب: 10أجنحة تمثل قطاع النشر التونسي    من كلمات الجليدي العويني وألحان منير الغضاب: «خطوات» فيديو كليب جديد للمطربة عفيفة العويني    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    عماد الأمن الغذائي والمنظومة الإنتاجية .. الدعم لإنعاش الفلاّح وإنقاذ الفلاحة    دعوة الى رؤية بيئية جديدة    رئيس الجمهورية يكلّف المهندس علي بن حمودة بتشكيل فريق لإيجاد حلول عاجلة في قابس    تقرير البنك المركزي: تطور القروض البنكية بنسق اقل من نمو النشاط الاقتصادي    ألعاب التضامن الإسلامي – الرياض 2025: فضية لجميلة بولكباش في سباق 800 متر سباحة حرة    ربع التوانسة بعد الأربعين مهدّدين بتآكل غضروف الركبة!    منوبة: الكشف عن مسلخ عشوائي بالمرناقية وحجز أكثر من 650 كلغ من الدجاج المذبوح    تونس - الصين: 39 طالبا وطالبة يحصلون على "منحة السفير" في معهد كونفوشيوس بجامعة قرطاج    الرابطة الثانية – الجولة 8 (الدفعة الثانية): النتائج والترتيب    هذه نسبة التضخم المتوقع بلوغها لكامل سنة 2026..    شنيا حكاية فاتورة معجنات في إزمير الي سومها تجاوز ال7 آلاف ليرة؟    حريق في مستودع للعطور بتركيا يخلف 6 قتلى و5 مصابين    البنك المركزي: نشاط القطاع المصرفي يتركز على البنوك المقيمة    عاجل: من مساء السبت والى الأحد أمطار رعدية غزيرة ورياح تتجاوز 90 كلم/س بهذه المناطق    الدورة الاولى لمهرجان بذرتنا يومي 22 و23 نوفمبر بالمدرسة الوطنية للمهندسين بصفاقس    العلم يكشف سر في المقرونة : قداش لازمك تحط ملح ؟    عاجل/ محاولة اغتيال سفيرة إسرائيل بالمكسيك: ايران ترد على اتهامها..    هام/ الهيئة الوطنيّة للوقاية من التعذيب تنتدب..#خبر_عاجل    بسمة الهمامي: "عاملات النظافة ينظفن منازل بعض النواب... وعيب اللي قاعد يصير"    بايدن يوجه انتقادا حادا لترامب وحاشيته: "لا ملوك في الديمقراطية"    جلسة عمل بوزارة الصحة لتقييم مدى تقدم الخطة الوطنية لمقاومة البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية    أمطار بهذه المناطق خلال الليلة المقبلة    تونس: ارتفاع ميزانية وزارة الثقافة...علاش؟    تعرف قدّاش عندنا من مكتبة عمومية في تونس؟    من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير    خطبة الجمعة ... مكانة الشجرة في الإسلام الشجرة الطيبة... كالكلمة الطيبة    مصر.. فتوى بعد اعتداء فرد أمن سعودي على معتمر مصري في المسجد الحرام    عاجل: حدث نادر فالسماء القمر يلتقي بزحل ونبتون قدام عينيك..هذا الموعد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوارمع التعليقات على الرؤية الشرعية للانتخابات (2) أ.د. عبد الرحمن البر
نشر في الفجر نيوز يوم 08 - 10 - 2010

أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر وعضو مكتب الإرشاد
هل المسألة سياسية بحتة:
يجرنا الكلام السابق إلى فكرة تكررت في كثير من التعليقات بشكل واضح وعبر عنها بوضوح الأخ الشيخ عصام تليمة الذي رأي أنني أسبغت عباءة الشرع على توجهي (هكذا يرى!) في أمر سياسي بحت يجب أن نتركه لأهل الذكر فيه وهم أهل السياسة، ولا نقحم الشرع فيه!
وأنا أوافق من حيث المبدإ على القول بوجوب سؤال أهل الذكر في كل مجال قبل الإفتاء فيه، وقد كان الأئمة الكرام يأتون الأسواق وينزلون إلى أصحاب الصنائع ليعرفوا حقيقة المسألة، حتى تأتي فتاويهم منطبقة على واقع الأمر.
لكن هل معنى ذلك أن نترك أهل الذكر في المجالات المختلفة يفتون لأنفسهم، أم أن سؤالهم هو لمعرفة الحقائق، ثم تكون الفتوى لأهل الذكر من العلماء؛ لبيان مدى توافق المعاملة مع الشريعة أو عدم توافقها؟
وماذا فعلت أنا في هذه الرؤية إلا أنني نقلت فوائد المشاركة ومفاسد المقاطعة التي قرأتُها وسمعتُها ولمستُها بنفسي من خلال أكثر من ثلاثين سنة في ميدان العمل العام ومنه السياسي والدعوي (أم لا يصلح أن يكون من أهل الذكر في الميدان السياسي إلا من تخرج في العلوم السياسية؟)، ثم كان رأيي بناء على هذا أن المشاركة واجبة في الأصل، وأن المقاطعة ما لم تكن هناك مصلحة شرعية معتبرة تعد هروبا من المسؤولية (ودعني هنا أسحب عبارة: «أشبه بالتولي يوم الزحف»، حيث أسيء فهمها، ولست في وارد الدخول في جدل لفظي أو فقهي حولها ليس هذا وقته ولا مجاله).
غير أن ما أخشاه أن يفهم من كلام الأخ الشيخ عصام وغيره أن معنى (فاسألوا أهل الذكر) ترك الفتوى في كل مجال لأهله، وعدم إقحام الشرع وعلماء الشريعة في المجالات المختلفة، بحيث لا يبقى لهم ما يفتون فيه ويتكلمون عنه إلا العبادات المحضة. وهذا أقصى ما يطمح إليه كل الداعين إلى فصل الدين عن واقع الحياة, وغالب ظني – الذي يقارب اليقين- أن الأخ الشيخ عصام وغيره لم يقصدوه، لكنه مؤدى القول بعدم إقحام الشريعة في الموضوع، وعدم إقحام علماء الشريعة أنفسهم في الموضوع.
والعجيب أن الأخ الشيخ عصام في (خامسا) يعود فيقول: «إن المقال يؤصل لشرعية المشاركة في الانتخابات على وجه العموم، كوسيلة إصلاحية، وهو ما لم يعد أحد ينكر شرعيته» فهو من الأمور التي تكلم فيها علماء الشريعة إذاً؟ فعلام الإنكار على شخصي الضعيف إذا سرت على درب العلماء الشرعيين الذين تصدوا لهذه القضية؟
وأسجل تحفظي على القول «وهو ما لم يعد أحد ينكر شرعيته» فهذا إطلاق مبالغ فيه، ولا يزال نفر غير قليل ينكر شرعية الانتخابات، وقد كان ذلك أحد أهم الأسباب التي دفعتني لكتابة هذه الرؤية.
وجوب المشاركة هو الأصل:
هنا أقول لكثير من الإخوة الذين علقوا بأن القضية دائرة بين الصواب والخطأ (ودعوني أعبِّر بالتعبير الفقهي: بين الجواز وعدم الجواز، أو بين المشروعية وعدم المشروعية): هذا رأيكم وهو يوافق رأي كثير من أهل العلم القائلين بجواز المشاركة في الانتخابات، باعتبارها لا تصادم الشريعة، ومستندهم في الغالب هو أنها أمر مستحدث خاضع لأصل الإباحة، ولم يتعرض أحد لنقض الوجوه التي قال بها القائلون بالوجوب.
لكنني مع القائلين بأن المشاركة واجبة، وقد سقت كثيرا من الأدلة في عرض الرؤية، ومن أراد أدلة أكثر فليراجع كتاب أخينا وشيخنا الأستاذ الدكتور صلاح سلطان « مشاركة المسلمين في الانتخابات الأمريكية.. وجوبها وضوابطها الشرعية».
ولست أول من قال بالوجوب، وسأكتفي هنا بذكر مختصرات من أقوال أئمة كرام وفقهاء عظام، لست أكثر من تلميذ بالنسبة لهم:
قال شيخ الأمة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
«...ومن تخلف عن أداء واجبه الانتخابي حتى رسب الكفء الأمين وفاز بالأغلبية من لا يستحق ممن لم يتوفر فيه وصف القوي الأمين فقد خالف أمر الله في أداء الشهادة وقد دُعِي إليها وكتم الشهادة أحوج ما تكون الأمة إليها، وقد قال الله تعالى:﴿ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا﴾[البقرة: 283]، ﴿ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه﴾[البقرة: 283]».
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
«أنا أرى أن الانتخابات واجبة, يجب أن نعين من نرى أن فيه خيراً، لأنه إذا تقاعس أهل الخير من يحل محلهم؟ أهل الشر! أو الناس السلبيون الذين ليس عندهم لا خير ولا شر, أتباع كل ناعق, فلابد أن نختار من نراه صالحا».
وقال المستشار فيصل مولوي حفظه الله وشفاه: «وأرى أن المشاركة في الانتخابات تعتبر نوعاً من الجهاد الأكبر لأنها:
1- جهاد ففيها بذل جهد كبير لخدمة الإسلام والمسلمين، أو رفع بعض الضرر عنهم، أو إزالة بعض المنكرات من حياتهم، ضمن حدود المستطاع.
2- وهي جهاد أكبر، لأنها فريضة الوقت كما يقول العلماء.
فقضية الإسلام اليوم هي انحراف الحكام عن دين الله، والجهاد الأكبر هو في إصلاحهم أو استبدالهم، والمشاركة في الانتخابات هي الوسيلة المعاصرة لذلك، وهي في حدود المستطاع.
أما الجماعات الإسلامية التي لا تشارك في عمليات الانتخابات فقد فاتها القيام بهذا الواجب، وأمامها واجبات أخرى كثيرة تستطيع أن تقوم بها إن أرادت، لكنها ليست بديلاً عن واجب المشاركة في الانتخابات في رأينا، ولا تزيل عنهم إثم التخلف عن هذه المشاركة، فالقيام بواجب له أجره، والتخلف عن واجب له إثمه ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفي بِنَا حَاسِبِينَ﴾[الأنبياء: 47] والله أعلم».
ويقول الأخ الفقيه الأصولي الأستاذ الدكتور صلاح سلطان: إنها (يعني المشاركة في الانتخابات) تعد ضرورة واقعية وفريضة شرعية، حتى لو كانت الدولة تزور تلك الانتخابات، فلا يكن التزوير سببا في تخلي المواطن عن أن يدلي بصوته».
وقد ذكر فضيلته أدلة الوجوب ووجه الدلالة التي ذكرتُ كثيرا منها في رؤيتي، ثم قال:
«لهذه الأدلة الشرعية والاجتهادات الفقهية والأسباب العقلية والشواهد الواقعية يبدو لي وجوب المشاركة الانتخابية، وأن يشارك كل مسلم في كل الانتخابات الرئاسية والنيابية والبلدية والجامعية والنقابية وغيرها».
وبعد أن استعرض الأستاذ محمد أحمد الراشد الأوضاع العالمية وحكم المشاركة في الانتخابات في البلاد الغربية، قال:
«ولذلك كله أرى، وبالمقدار الذي حصل لي بحمد الله من الموازين والعلوم الشرعية والفقه الإيماني: أن إدلاء المسلم بصوته الانتخابي لمرشحي التيارات المعتدلة في البلاد الغربية النصرانية صار في عداد الواجبات الإسلامية» مؤكدا أنه اعتمد في ذلك على ما قاله الشيخ الفقيه الأصولي الدكتور عبد الكريم زيدان.
فإذا كانت المشاركة في البلاد الغربية واجبة، أليس وجوبها أولى في البلاد الإسلامية.
هذا رأيي:
هذا –إذاً- رأيي ورؤيتي التي لم أنفرد بها، ولم أكن أول من قال بها، قدمتُها في قضية المشاركة في الانتخابات بشكل عام، اقتنعتُ بهذا، ولا أزال مقتنعا به، وهو صواب يحتمل الخطأ، ولا أصادر على غيري رأيه، وديننا العظيم لا يعرف الكهنوت، ولا يعرف الشيخ أو العالم الذي لا يجوز أن تُعَارَض فتواه أو ينقد ويُنْقَض رأيُه.
كما أن هذا الرأي المبني على الاجتهاد والنظر في الأدلة والوقائع قابل للتغيير، إذا ظهر لصاحبه من الأدلة وبان له من الفهم والمعرفة ما يمكن معه تغيير القول من الوجوب إلى الجواز، بل إلى القول بالمنع، متى كان ذلك مبنيا على الأدلة؛ لا على الهوى، وليس ذلك تلونا ولا مراوغة، بل دوران مع الحق ومتابعة للدليل، وهذا إمام الأمة وناصر السنة الإمام الشافعي كان له مذهب قديم ومذهب جديد، ولم يكن ذلك تلونا منه ولكنه تفاعل شرعي مع الأدلة وما يستجد من معرفة ووقائع، وهذا أمير المؤمنين الخليفة الفقيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أفتى في مسألة، ثم سئل فيها بعد ذلك فأفتى برأي آخر، فلما روجع قال: «ذاك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي».
الحكم الشرعي الثابت والمتغير:
لم أكن أتصور أنني سأضطر للدخول في بعض المسائل العلمية والأصولية الدقيقة، لولا أنني رأيت بعض إخواني من الشباب دخلوا في عمق بعض القواعد الأصولية والفقهية، ولشد ما أسعدني هذا، وإن كان التناول في كثير من الأحيان (فطيراً) في حاجة إلى عمق ودراسة، لكن المشاركة والحوار ربما ساعدت في الدفع إلى التنمية في هذا المجال، وهذا بحد ذاته مكسب عظيم، وأرجو أن أسعد برؤية عدد كبير من الفقهاء المتميزين النابهين المستكملين لأدوات الفقه والمعرفة.
هذه مقدمة لأقول: من البدهي لدى دارسي الشريعة أن ثمة فارقا بين الحكم الشرعي المطلق الثابت بنصوص محكمة لا تقبل التغيير، وبين الحكم الشرعي المبني على علة يدور معها وجودا وعدما، أو المبني على فهم واستنباط ونظر في النصوص، فالأول غير قابل للنقض أو التغيير بأي حال، والثاني يمكن أن تتفاوت فيه آراء أهل العلم، بل يمكن أن يتغير فيه رأي الفقيه الواحد، وقد عقد الإمام ابن القيم فضلا استغرق أكثر من مائة صفحة في كتابه القيم «إعلام الموقعين عن رب العالمين» بعنوان : «تغير الفتوي بتغير الزمان والمكان».
وهذا كله خلاف الفتوى التي ينظر فيها الفقيه إلى الواقع ومدى انطباق الحكم الشرعي على الواقعة محل الاستفتاء وتنزله عليها، وفي هذا الصدد فربما أفتى الفقيه في المسألة الواحدة فتاوى مختلفة؛ لاختلاف السياق أو الأشخاص أو الظروف المحيطة بكل مسألة، أو الأزمنة التي عرضت فيها.
فمثلا: الحكم الشرعي غير القابل للنقض في الربا: أنه حرام، فإذا جاء شخص يستفتي في معاملة معينة، فإن واجب المفتي أن يعرف حقيقة المسألة، ثم ينظر هل تنطبق عليها حقيقة الربا، فعندئذ يفتي بحرمة تلك المعاملة، أو أنها لا تنطبق عليها حقيقة الربا، ومن ثم لا يجري عليها حكمه.
وفي المسألة محل الحوار وهي الانتخابات: نرجع إلى أصول الشريعة فنرى أن الإيجابية وممارسة الحسبة والقيام بالأمر والمعروف والنهي عن المنكر كلها واجبات شرعية، والانتخابات إحدى الوسائل المعاصرة التي يتحقق بها هذا الأمر، والغياب عنها يؤدي إلى المفاسد التي ذكرتها في أثناء عرضي للرؤية وذكرها غيري، ومن ثم تأخذ المشاركة فيها حكم الوجوب، بشكل عام.
فإذا جاء السؤال إلى اتنخابات بعينها، كأن يسأل سائل عن انتخابات مجلس الشعب المصري في 2010، فهنا يلجأ الفقيه إلى النظر في المصالح والمفاسد المتوقعة من كل من المشاركة أو المقاطعة في هذه المرة؛ لا في أصل وجوب المشاركة، فإن ظهر له بعد البحث والفحص وتقليب الآراء واستشارة العقلاء أن تحقيق المصالح ودفع المفاسد أكثر تحققا بالمشاركة صارت المشاركة هذه المرة واجبة، وإذا بدا له في هذه المرة أو في غيرها أن المصالح المرجوة لن تتحقق والمفاسد المتوقعة لن تدرأ بالمشاركة صارت المقاطعة هي الواجبة.
وهذا عين ما أرى أن الإخوان المسلمين يفعلونه، فالأصل عندهم المشاركة في كل انتخابات، ولكن أمام كل استحقاق انتخابي يتم تقييم الموقف واستشارة الإخوان واستمزاج رأي المفكرين وأهل الرأي، وعندئذ ينزلون على الرأي الغالب، سواء بالمشاركة أو بالمقاطعة، تحقيقا لمعنى الشورى، والتماسا لبركة الاستشارة. وقد يوافقهم في هذا غيرهم أو يخالفهم، وهم لا يكرهون أحدا على ما استقرت عليه نتيجة الشورى عندهم، ولا يقبلون أن يلزمهم أحد بخلاف إرادة الأغلبية الإخوانية التي قالت رأيها.
أرجو أن يتفهم هذا الذين سألوا عن مقاطعة الإخوان لانتخابات 1990، أو مقاطعة إخوان الأردن للانتخابات الأردنية، فأهل مكة أدرى بشعابها، ولكل وجهة هو موليها.
لا ضرر من الاختلاف ما لم يكن اتباعا للهوى:
يجرنا هذا إلى الحديث عن (الحرج) الذي يرى بعض الإخوان الكرام أنهم يقعون فيه حين نقول بوجوب المشاركة وتأثيم الامتناع، إذ يرى هؤلاء الأحبة أن القول بذلك يصادر الرأي الآخر، وهو ما اعتبره البعض كارثة!!
وأقول: هذا الفهم خطأ، بني على مقدمة خطإ، إذ يرى البعض أن مخالفة عالم في فتواه أو جماعة في رأيها الشرعي هو مخالفة للدين، وبالتالي فيجب عدم المعارضة، وعلى هذا فالقول بالوجوب أو الحرمة تكميم للأفواه ومنع لإبداء رأي مخالف.
وهذا من القضايا التي يلح عليها الداعون لفصل الدين عن واقع الحياة، إذ يرون أن الدين مطلق، ووقائع الحياة نسبية! ويجب ألا يتحكم المطلق في النسبي، حتى لا يقع الناس في الحرج والضيق، وبالتالي فيكفي أن يكون الدين علاقة بين العبد وبين الله تمارس في المسجد وفي داخل النفس فقط، فهل هذا صحيح؟
الحقيقة أن هذه الفلسفة خلط (أكاد أجزم أنه غير بريء) ففي الدين ما هو مطلق وما هو نسبي، ومن أحكامه ما هو ثابت لا يتغير، ومنها ما هو دائر مع مصلحة العباد، كما سبق أن بينت من قبل. ولهذا وجدنا المذاهب الفقهية تختلف في نحو ثلاثة أرباع المسائل في العبادات والعاديات، دون أن يقول أصحاب أحد المذاهب: إن فتوى المذهب الفلاني بوجوب كذا أو تحريمه مصادرة للرأي على الإطلاق، ولم أقف – في حدود علمي – على وجود لهذا الخلط الفلسفي الذي يروجه البعض هذه الأيام؛ لتخويف الناس من الشريعة الإسلامية ومحاولة فض الجماهير من حول الداعين إليها. ولا أحب أن أمضي في هذا الجدل الفلسفي الذي لا أصل له في كلام الفقهاء والعلماء، ولم نسمع به إلا في كتابات بعض الكتاب المحدَثين، فلهذا مجال آخر.
الاختلاف في الفتوى لا يعني بالضرورة حيرة الناس:
يتلطف البعض –كما فعل أخونا الشيخ عصام وغيره- فيقول: إن العالم إذا أصدر فتوى بوجوب المشاركة، وأصدر آخر فتوى بوجوب المقاطعة؛ وقع الناس في الحيرة، وصار الدين –على غير الحقيقة- سببا للحيرة، بدلا من أن يكون سببا للهداية.
وأقول لإخواني: رفقا بأنفسكم وبالأمة، فالاختلاف بين العلماء لا مفر منه، ولا سبيل لمنعه، ولا خوف منه على الإطلاق، إذا صحت النيات، ولم تكن الفتاوى على سبيل المكايدة أو مبنية على الميل مع الهوى، ففي كثير من المسائل خالف أبو حنيفة مالكا، وخالف الشافعي كليهما، وخالفه أحمد، وخالفهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وخالفه غيره، وكان ذلك في مسائل من أصول الدين وفروعه أهم بكثير من موضوع الانتخابات،ومع ذلك لم نتزل بالأمة كارثة، ولا حاقت بها الحيرة، بل كان الاختلاف إثراء للفقه والفكر وتوسعة على الأمة.
بل غالب مسائل الدين فيها اختلاف، والعبرة بأن يكون الاختلاف مؤسسا على علم وفقه ودلائل شرعية ومقصودا به طلب الحق وابتغاء وجه الله، وليس قائما على الهوى الشخصي والميل النفسي، وعلى المختلفين أن يعذر كل منهما الآخر، ولا يلزم أحدهما أن ينزل عما يراه أصح بحجة حماية الناس من الوقوع في الحيرة.
وأما العوام (وهم غير المتخصصين في علوم الشريعة وغير القادرين على الاجتهاد والنظر الشرعي) فيسعهم أن يقلدوا من يثقون بدينه وأمانته وعلمه وكفايته، فإن تساوى المفتون في ذلك فله أن يقلد أيا منهم حتى يجد من يترجح لديه كفايته العلمية والأخلاقية، ولا حرج في ذلك على الإطلاق، ولم تزل الأمة تختلف (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم).
أليست هذه إحدى صور حرية الرأي الناضجة النافعة التي تدل على أن تحكيم الشريعة في كل المجالات يفتح آفاقا رحبة للاجتهاد والنظر وحرية الرأي، وتدحض قول القائلين: إن إقحام الشريعة في المجال العام يسبب الحرج للأمة.
لو أننا في كل مسألة يختلف فيها أهل العلم قلنا: لا داعي لذكر الراجح، ولا داعي لاستخدام ألفاظ الوجوب والتحريم والتأثيم ونحوها واكتفينا بعرض الآراء فقط لكنا مضرب المثل في التضييع والتمييع.
لهذا لا أجد أدنى حرج من إبداء رأيي في تأييد القول بوجوب المشاركة في الانتخابات متى كان في ذلك مصلحة شرعية معتبرة واجبة، كما لا أجد أدنى حرج في القول بالمقاطعة إذا اقتعت بأنها التي تحقق المصالح الشرعية، وإذا تغيرت الظروف.
فلو فرضنا مثلا: أن الحزب الوطني وحكومته البائسة منعت بالتسلط والقهر والتحايل المرشحين الإسلاميين من الترشح للانتخابات فسيكون من البدهي الدعوة إلى المقاطعة.
وفي ختام هذه الحلقة أقول للذين يقولون: الانتخابات ليست الباب الوحيد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلماذا التمسك بها؟
نعم ليست الباب الوحيد، ولا يصح لأحد أن يقول بذلك، وقد ذكرت ذلك في عرضي لرؤيتي، والسؤال: إذا كانت أحد أهم الأبواب المؤثرة فلماذا التخلي عنها؟
وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة والأخيرة إن شاء الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.