أي موقف يمكن أن يصدر عن أحد حين يُستفتى في دمه؟»إني أرى في المنام أني أذبحُك فانظر ماذا ترى؟»... النبي إبراهيم عليه السلام لم يشك في أن الذي رآهُ رؤيا وليس أضغاث أحلام لقد كان واثقا من أنه يتعرض إلى اختبار حقيقي لمدى خُلوص عقيدته وصفاء روحانيته... يُختبر في دم ابنه وهو الذي خسر والدهُ حين قطع معه متوعدا قاسيا: «قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيمُ لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا»... الجهلُ مجفف لعواطف الأبوة والقرابة والإنسانية، الجهل مصدر القساوة والتعصب والإستبداد يظن أصحابُه أنهم قادرون على التحكم في الأفكار والمعتقدات يتوهمون أنهم على الحق الدائم ومن سواهم ضال أو متآمر. لا يستعملون العقل ولا يعتمدون بينة في حوار بل ولا يُحاورون أصلا ولا يقبلون بمن يُحاورهم حتى وإن كان معهم على درجة عالية من التلطف والتعطف والتعقل: «يا أبت لِمَ تعبدُ ما لا يَسمعُ ولا يبصر ولا يُغني عنك شيئا؟ يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعي أهدك صراطا سويا...». أصحابُ القيم العالية والمبادئ السامية لا يتعاملون مع من خاصمهم أو عاداهم بأدواته ومفرداته إنما يتعاملون بقيمهم ومبادئهم هم « قال سأستغفر لك ربيَ إنهُ كان بي حَفيا»... إبراهيمُ الذي حاور الأصنام وحاور أهله وحاور والده لم يجد إلا صمما وقساوة وأذى ولكنه لم يشك في أن القوة لا يمكن أن تفرض أمرا ولم يشك في أن الحق ليس صنيعة الأغلبية كان مستعدا إلى أن يكون وحدهُ رمزا للفكرة العاقلة والإرادة الحرة يهزأ من الأصنام ومن عُبادها ذاهبًا إلى المدى بقامة قائمة وروحانية متوهجة: «إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين»... النبي إبراهيم ممثلا لجوهر «الإنسان» بما هو فكرة عاقلة وإرادة حرة وبصيرة نافذة يُضحي بكل ما يعوق مسيرته نحو الكمال الإنساني لم تنل من عزمه ألسنة ُ المستهزئين ولا ألسنة ُ النار: «إن إبراهيم كان أمة ً قانتا «... لم يكن ذهابهُ إلى الله مُجرد لجوءِ المستجيرين ممن تعرضوا إلى أذى أهلهم وأقوامهم إنما هو ذهابُ الواثق المتبصر القادر على مزيد التضحية... هاهو بعد أن ضحى بالكثير يُختبرُ في ذبح ابنه فلا يُكذبُ رؤياه ولكنه أيضا لا يغدر بابنه إنما يستشيره وهو واثق من أنه لن يكون مثل جده:» قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدنيَ إن شاء اللهُ من الصابرين»... الإبنُ إسماعيلُ يرتقي بالرؤيا من مستواها ذاك إلى مستوى الأمر الإلهي... إنها تضحية بعاطفة الأبوة من قبل إبراهيم وتضحية بالذات من قبل إسماعيل ولا يقدر على ذلك إلا من كان على درجة من الإنجذاب إلى الكمال الإنساني حين يتحرر من كل النوازع والأدران المُحبطة للعزائم والمكبلة للإرادات... لم يغدر النبي إبراهيم بابنه فيذبحه إرضاء لله دون استشارته ولم تحجب عنه عاطفة الأبوة وضوح الرؤيا... ولم يشعر بأنه يتجه نحو «الوِحدة» إذ هجره والدُهُ وإذ تآمر عليه قومُهُ وإذ يؤمرُ بذبح ابنه... كان نبع صبر وإرادة وتضحيةٍ... وكان منجذبا إلى أعماق الوجود ومراقي الكمال الإنساني... لقد بلغ وابنهُ «لحظة الذبح» بكل شجاعة وتسليم «فلما أسلما وتلهُ للجبين، وناديناهُ أن يا إبراهيم قد صدقتَ الرؤيا...» ذاك النداءُ الإلاهي إنما هو لحظة وجودية بارقة تتخطف فيها الذاتُ المتحررة معارفَ ومشاهدَ من عالم الكمال وهي لحظة السعادة غير الحسية يجدها صاحبها بروحه وعقله ونوازع الشوق والمحبة والرحمة... تلك أرقى مراحل الدربة البشرية على التضحية والإيثار والشجاعة حين تنتهي عند حالة من سماع نداءات الكمال وانقشاع الكوابيس المؤذية وآلام التضحية: «وفديناهُ بذِبْحٍ عظيمٍ وتركنا عليه في الآخرين» في «لحظة الذبح» تلك تتدخل الإرادةُ المُحيِيَة ُ لتستبدل دمًا آدميا بدم ذبيحةٍ حيوانية بما يؤسس لوعي بكون الإنسان لم يخلق ليكون ضحية إنما خلق ليكون سيدا على الطبيعة يروضها ويتدرب على التحرر من غموضها ومن هول ظواهرها وليبدع عليها حياة إنسانية تتجه نحو كمالاتها. كاتب وشاعر تونسي الصباح التونسية