ليس المقام هنا للوقوف مع التحقيق حول الغلام الذي همّ إبراهيم عليه السلام بذبحه، أكان إسماعيل أم إسحاق عليهما الصلاة والسلام، ولكنّ الوقفة اليوم مع معنى التضحية ومعنى التسليم... وأحسب أنّ هذه الآيات المباركات لهي من الآيات الواضحات التي قد يحاول معها المسلمُ العادِي – مثلي - الفهم دون اعتماد كبير على أقوال المفسّرين، ليس اعتدادا بالنّفس أو استغناء عن أهل التفسير الأجلاّء، ولكن سياحة مع التفكّر والتصوّر في أيّام يجدر بنا فيها التفكّر في أحوال النّاس وتصوّر ظروف المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها... فالله سبحانه وتعالى قد بشّر إبراهيم عليه السلام بغلام حليم، تخفيفا عنه ممّا لاقى من قومه الغلاظ الجهلة من الأذى والصدود... والمرءُ إذا مُنح المعدوم كان شديد الحرص عليه، كثير العناية به دقيق النّظر إليه صادق الحبّ له عديم التفريط فيه، والولد عند إبراهيم عليه السلام كان قبل دعائه معدوما، فكان من الطبيعي – وقد مُنحه - أن يكون عليه حريصا وبه متمسّكا، غير أنّ الحبّ منعه ذلك فخالف سائر الآباء في التصاقهم بفلذات أكبادهم!... فإبراهيم عليه السلام قد غزا قلبَه حبّان، حبٌّ أصليّ أصيل وهو حبّ الله تعالى الذي بنمائه كانت النّار له بردا وسلاما، وحبٌّ مترتّب أو حادث وهو حبّ الولد، هذا الزينة الذي إنّما جاء دلالة وتأكيدا على صدق الحبّ الأوّل أو لأقل جاء دليل استقامة العلاقة بين العبد إبراهيم الذي نادى (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) وبين ربّه الكريم القريب المجيب الذي لبّى (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ)!...
لم تكد الفرحة تكتمل بقدوم الغلام الاستثنائي، القادم من بين العقم والشيخوخة، حتّى يُؤمَر الأب الشيخ – ورؤيا الأنبياء حق – بذبحه، فيتجلّى حبّ إبراهيم الكبير لله سبحانه وتعالى بالإماتة فيه يقينا وعبادة وتسليما، ويتجلّى حبّ الذبيح كذلك لله سبحانه وتعالى بالموت فيه والطاعة فيه والتصديق فيه بالإسلام له... عائلة طيّبة بعضها من بعض، أب شَابَ في عبادة الله وابن شبّ في طاعة الله!... أبٌ واقِعٌ بين الاستجابة اللاّمشروطة لأمر الله تعالى وبين عاطفة الأبوّة المجزوءة من رحمة الله، وابن رأى رضاء الله في رضاء الوالدين أو رأى تحقّق رضائِهما في صبره أو هو رأى صبرَه طريقَه لإرضاء ربّه، فأنجد والده يُضعِفُ فيه الاستجابة إلى نداء الأبوّة (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)!... فقِهَ أنّ التفكير في الجواب قد يورث التردّد ويقلّل العزم ويُنقص الاستجابة للمحبوب، فسبق عزمُه قولَه بعد أن بنى إيمانُه الصادقُ عزمَه (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)... وهو يقول ذلك – وهو الفتى اليافع – لم يغب عنه ما يتناول أباه داخل أبيه من مشاعر الأبوّة الحارّة، فلم يغفل – وهو الذبيح - عن التلطّف بالذابح الذي سيذبحه (يَا أَبَتِ)، ولم يُهمل - وهو المفعول به - المساندة والدفع للفاعل كي يفعل به ما أراد الله تعالى (افْعَلْ)، ولم ينس التذكير بصدق ونبوّة أبيه (مَا تُؤْمَرُ)، ولم يقصّر في تلطيف المشهد لأبيه (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)... مشهد نادر يدعوك أيّها المسلم، إلى عدم إطالة التوقّف أمام خير فعلتَه أو ستفعله تحصي العائد منه وتصوّر لنفسك عظم التضحية فيه لمّا ضحّيت به، فإنّك مهما فعلت لن تصل درجة التضحيّة بابنك تذبحه بيديك دون تردّد!...
وإذ نحتفل سنويّا بعيد الأضحى (العيد الكبير) وعيد الفطر (العيد الصغير)، فإنّه يحقّ لنا ذلك، فقد سنّهما لنا نبيُّنا صلّى الله عليه وسلّم وسنّ لنا الفرح وإظهار البهجة والتزاور والتواصل والأكل فيهما والتهاني بهما، ولكنّ ترقيّةً إيمانيّةً بمناسبتيهما هي أرجى عمل ينتظرنا جميعا على أعتابهما!... لا بدّ أن نحسن الفرح إذا فرحنا فلا نضحك على أنّات الأسرى والمرضى والمشرّدين منّا والمحرومين ولا نبتهج بضرّاء تصيب أهلنا في فلسطين أو في العراق أو في أفغانستان أو في أيّ رقعة من الأرض التي دلف عليها الإسلام والمسلمون، وانتعش فيها أعداء الإسلام أو المفسدون!... لا بدّ أن نحسن الأكل، فلا نشبع حتّى درجة صعوبة التنفّس والنّاس من حولنا طوابيرَ ينبشون المزابل ودور القمامة!... لا بدّ أن نحسن اللبس، فلا ننشط كثيرا في اقتناء ما نُثقِل به كاهل دواليبنا ممّا تبتكره دور الموضة التي خبرت تهافتنا والنّاس قد عجزوا عن افتكاك جلودهم العارية من حرّ شديد أو برد قارص في دنيا اللامبالاة!... خير كثير ذلك الذي قدّمه الرجل لأيتامٍ هنا أو هناك قد فقدوا العائل فاستعصت عليهم الابتسامة إلاّ بسعيه... معروف كبير ذلك الذي أسداه الرّجل إلى عائلة شهيد ضحّى شهيدهم بنفسه خلوصا لربّه واقتداء بابن إبراهيم وبالمحسنين... مروءة ورجولة وكرم ذلك الذي جسّمه الرّجل في وقفته النّادرة مع عائلة سجين غُيّب كافلها في السجون المظلمة فحوسب أفرادها على انتسابهم وانتمائهم، حتّى بات النّاس يتحاشون قربهم كي يسلموا ممّا ناله ونالهم!...
لمّا استجاب إبراهيم عليه السلام لأمر ربّه مصدّقا؛ رفع الله عنه مشقّة التضحية بالولد العزيز على النّفس ذبحه، مثنيا عليه أن كان مصدّقا تصديقا أبلغه مقام المحسنين!... فالله غنيّ عنّا لا تنقص معصيةُ خلقه جميعا من ملكه شيئا، ولا تزيد طاعةُ خلقه جميعا إلى ملكه شيئا، ولكنّ الله يحبّ من عباده الطاعة والاستقامة ويحبّ لهم الترقّي في منازل الإيمان حتّى بلوغ درجة الإحسان، بل ويفرح لتوبتهم، فقد روى مسلم: "لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دَوّيّة مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فنام فاستيقظ وقد ذهبت فطلبها حتى أدركه العطش ثم قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده طعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده"... فهل نقلّل في العيد من الاعتناء بلحم الخروف ليزداد تركيزنا على أسباب نزوله محلّ الغلام الحليم في الذبح، فنخلص أعمالنا لله ونزداد ثقة به وتسليما له وانقيادا إليه، فنقترب بذلك من منازل المؤمنين فنطمع في بلوغ مدارج المحسنين!... وهل نأخذ من إبراهيم عليه السلام التضحية بأعزّ ما نملك، ومن الذبيح عليه السلام القبول بالأذى في الله وفي الدّين، ومن حبيبنا محمّد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام معنى التكافل الذي أرشد إليه بقوله محذّرا: "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به"...
أسأل الله أن يعيد العيد على الجميع باليمن والإيمان والسلامة والإسلام، وأن يجعلنا ممّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وكلّ عام وأنتم بخير...