بطولة إفريقيا لكرة اليد للصغريات: تونس في النهائي بعد فوز مثير على غينيا    التنس: تأهل التونسي معز الشرقي الى نهائي بطولة سان تروبيه للتحدي    مهرجان بورسعيد السينمائي الدولي يحتفي بالسينما التونسية    "أمامكم 24 ساعة فقط".. كبرى الشركات الأمريكية توجه تحذيرا لموظفيها الأجانب    مسرحية "على وجه الخطأ تحرز ثلاث جوائز في مهرجان صيف الزرقاء المسرحي العربي    جندوبة: حملة نظافة بالمستشفى الجهوى    تحذير هام: تناول الباراسيتامول باستمرار يعرّضك لهذه الأمراض القاتلة    حوادث المرور في تونس: السهو والسرعة يبقيان الأكثر تهديدًا للأرواح    سوسة: اليوم العلمي الأول حول صحة المرأة    هذا ما تقرّر ضد فتاة أوهمت شبّانا بتأشيرات سفر إلى الخارج.. #خبر_عاجل    عاجل: وفاة عامل بمحطة تحلية المياه تابعة للصوناد في حادث مرور أليم    بعد اجتياح غزة.. حماس تنشر "صورة وداعية" للرهائن الإسرائيليين    عاجل/ وزير ألماني أسبق يدعو لحوار مع تونس والمغرب بشأن هذا الملف    معاناة صامتة : نصف معيني مرضى الزهايمر في تونس يعانون من هذه الامراض    رابطة الأبطال الافريقية: الترجي الرياضي والاتحاد المنستيري من أجل قطع خطوة هامة نحو الدور الثاني    زغوان: غلق مصنع المنسوجات التقنية "سيون" بالجهة وإحالة 250 عاملا وعاملة على البطالة    أبرز الأحداث السياسية في تونس بين 13 و20 سبتمبر 2025    بنزرت "بين الجسرين" .. "المتحرك" معاناة و"الثابت" أمل    سليانة: وضع 8 ألاف و400 قنطار من البذور منذ بداية شهر سبتمبر    الوكالة الوطنية للتحكم في الطاقة ستتولى ابرام ملاحق لعقود برنامج "بروسول الاك الاقتصادي" بصفة استثنائية    اليوم العالمي للزهايمر: التأكيد على أهمية حماية المُعين من العائلة ومن الإطار شبه الطبي للمصابين بالزهايمر من الانهيار النفسي    غدا الأحد: هذه المناطق من العالم على موعد مع كسوف جزئي للشمس    الاحتلال الإسرائيلي يغتال عائلة مدير مجمع الشفاء في غزة    عاجل/ بشائر الأمطار بداية من هذا الموعد..    عاجل/ حملة أمنية في أسواق الجُملة تُسفر عن إيقافات وقرارات بالإحتفاظ    جمعية المرسى الرياضية تنظم النسخة الرابعة من ماراطون مقاومة الانقطاع المبكر عن الدارسة    بنزرت: حجز أطنان من اللحوم والمواد الغذائية المخزّنة في ظروف غير صحية    من بينها تونس: 8 دول عربية تستقبل الخريف    صرف الدفعة الأولى من المساعدات المالية بمناسبة العودة المدرسية في هذا الموعد    عاجل/ ترامب يُمهل السوريين 60 يوما لمغادرة أمريكا    لكلّ من فهم بالغالط: المغرب فرضت ''الفيزا'' على هؤلاء التوانسة فقط    الكاف: قافلة صحية تحت شعار "صحتك في قلبك"    أكثر من 100 ألف تونسي مصاب بالزهايمر ومئات الآلاف من العائلات تعاني    الفيفا يتلقى 4.5 مليون طلب لشراء تذاكر مباريات كأس العالم 2026    عاجل: تأخير وإلغاء رحلات جوية بسبب هجوم إلكتروني    عاجل/ عقوبة سجنية ضد الشاب الذي صوّب سلاحا مزيّفا تجاه أعوان أمن    اليوم: استقرار حراري وأمطار محدودة بهذه المناطق    لماذا يضعف الدينار رغم نموّ 3.2 بالمائة؟ قراءة معمّقة في تحليل العربي بن بوهالي    "يوتيوب" يحظر حساب مادورو    بعد موجة من الانتقادات.. إيناس الدغيدي تلغي حفل زفافها وتكتفي بالاحتفال العائلي    القيروان.. 7 مصابين في حادث مرور    أمين عام الأمم المتحدة.. العالم يجب ألاّ يخشى ردود أفعال إسرائيل    استراحة «الويكاند»    تتويج مسرحي تونسي جديد: «على وجه الخطأ» تحصد 3 جوائز في الأردن    في عرض سمفوني بالمسرح البلدي...كاميليا مزاح وأشرف بطيبي يتداولان على العزف والقيادة    وزارة الدفاع تنتدب    تراجع عائدات زيت الزيتون المصدّر ب29,5 % إلى موفى أوت 2025    أكثر من 400 فنان عالمي يطالبون بإزالة أغانيهم من المنصات في إسرائيل    البنك التونسي للتضامن يقر اجراءات جديدة لفائدة صغار مزارعي الحبوب    مهذّب الرميلي يشارك في السباق الرمضاني من خلال هذا العمل..    قريبا القمح والشعير يركبوا في ''train''؟ تعرف على خطة النقل الجديدة    ما تفوتهاش: فضائل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة!    في أحدث ظهور له: هكذا بدا الزعيم عادل إمام    كيف سيكون طقس الجمعة 19 سبتمبر؟    بطولة العالم للكرة الطائرة رجال الفلبين: تونس تواجه منتخب التشيك في هذا الموعد    الرابطة المحترفة الاولى : حكام مباريات الجولة السابعة    وخالق الناس بخلق حسن    يا توانسة: آخر أيام الصيف قُربت.. تعرف على الموعد بالضبط!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سيدي بوزيد تفصح عن تونس الحقيقية:راشد الغنوشي
نشر في الفجر نيوز يوم 29 - 12 - 2010

مع أنه -بحكم النقص الأصيل في النفس البشرية- لا جرم أن تظل مسافة ما بين القول والفعل، بين المثال المأمول والواقع المتحقق، سواء أتعلق ذلك بالأفراد أم بالجماعات، على ألا يصل الأمر إلى حد التناقض والتصادم لدرجة تضيع فيها حقائق الأشياء وتفقد معها اللغة وظيفتها في التواصل، وهو ما دعاه القرآن الكريم بالنفاق ومقته أكبر المقت "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون".
إن ما يحدث للأسبوع الثاني في سيدي بوزيد وامتد إلى أرجاء البلاد، ليكشف عن هوة سحيقة بين تونس الرسمية، تونس السياحية، تونس تقارير المنظمات الدولية المنوّهة بنجاحات النموذج التنموي التونسي الذي وصفه الرئيس الفرنسي ب"المعجزة الاقتصادية"، وبين تونس الواقع، كما كشفت عنها انتفاضة الجياع بسيدي بوزيد وما سبقها وما أججته من نيران سرعان ما امتدت في أرجاء البلاد امتداد النار في الهشيم، فكيف ذلك؟ وماذا في الأفق؟
1- كان لنبأ إقدام الشاب الخريج الجامعي محمد البوعزيزي على إضرام النار في جسمه أمام مقر محافظة سيدي بوزيد وقع الصاعقة، لا على عشيرته العربية الأصيلة "الهمامّة" المعروفة بالشجاعة وبكسبها الثوري المعتبر، فحسب، بل كان بمثابة شرارة الانطلاق لمخزون من الغضب والمقت ظل يتراكم خلال العقدين الأخيرين، فسرت كالنار في الهشيم انتفاضة الجياع، على امتداد المنطقة، فهب الناس في غضبة عارمة يحاصرون مقر المحافظ ويمطرونه حجارة، محتجين على سلوكه الاستكباري إزاء شاب حاصل على درجة علمية عليا، قد عيل صبره بحثا عن شغل يليق به، فما ظفر به، ما اضطره من أجل إعالة أسرته بعد وفاة والده إلى أن يشتغل تاجرا متجولا بعربته يجرها، عارضا بضاعته البسيطة من الخضر والفواكه في الأسواق، فطارده عمال البلدية وبعثروا سلعته وافتكوا ميزانه، لانتزاع رشوة منه، فلما رفض أوسعوه ضربا، فاندفع إلى مقر المحافظ، فصفق الباب في وجهه، فأظلمت الدنيا في وجهه واستبد اليأس به، فأضرم النار في جسمه، فحمل إلى المستشفى على مشارف الموت، وقطعت أنباؤه عن ذويه، مما رجح هلاكه، كما هلك شبان قبله بنفس الوسيلة ولنفس الأسباب في أكثر من جهة في البلاد منهم الشاب تريمش بالمنستير.
وعبّر أهل المدينة عن سخطهم بموجة احتجاج عارمة، فحاصروا مقر الحاكم وأمطروه حجرا وأحرقوا مقرات للحزب الحاكم وحاصروا مراكز أمنية.. وما لبثت موجة الغضب أن امتدت لمختلف أرجاء البلاد في انتفاضة عارمة في أكثر من بلدة ومدينة منها فوسانة وجبنيانة والصخيرة والمحرص والقيروان ومدنين وصفاقس وسوسة وبنزرت ومكثر.. وما تزال موجة الغضب وانتفاضة الجياع تتسع في أرجاء البلاد رغم قمع السلطة الوحشي الذي بلغ حد إطلاق الرصاص الحي الذي أودى بحياة العشرات بين قتيل وجريح منهم الجامعي السيد محمد العماري رحمه الله.
2- تعيد هذه الأحداث الجسام للأذهان ما حدث في منطقة المناجم منذ سنتين من إضراب عام امتد لأشهر مطالبة بالشغل واحتجاجا على المحاباة، وبعد فرض الحصار الأمني على المنطقة لأشهر عهدت السلطة إلى الجيش بفض الإضراب بالقوة الغاشمة سافكا دماء ومزهقا أرواحا لجياع، تاركا بقية المهمة القذرة للشرطة وللقضاء المدجن للاعتقال والتعذيب وعقد المحاكمات المصطنعة.. وما تزال مخلّفات القضية ودماؤها لم تجف، لتتبعها احتجاجات موضعية كان أبرزها ما حدث منذ بضعة أشهر من انتفاضة التجار الصغار بمدينة بنغردان الحدودية مع ليبيا وهم يعيشون على التجارة معها، فلما أغلق المنفذ الحدودي ضجت المنطقة بالاحتجاج فووجهت كالمعتاد بالقمع، ولم تبرد النار إلا بفتح المنفذ الذي يعتبر شريان الحياة لمئات الآلاف من أهل الجنوب والوسط، بما يشبه حالات أهل مناطق الحدود الغربية المهمشة الذين يلتقط الكثير منهم رمق الحياة من طريق تهريب البترول من الجزائر، وبلغت بهم الفاقة أن أقدمت عشائر منهم على الهجرة بالجملة إلى الجزائر حيث حوصروا هناك وردوا على أعقابهم... وذلك مقابل آلاف من الشباب يلقون بأنفسهم في لجج البحر على أمل الوصول إلى أوروبا هروبا من جنة "المعجزة الاقتصادية" فيغرق منهم الكثير، ويقع الكثير منهم بين أيدي الحرس التونسي الحدودي الذي قبض جعلا من حكومات أوروبا لحراسة حدودها من أمواج الجائعين، فيوقع بهم أشد العقوبات، غير عابئ بالتهديد النبوي بالنار لمن حبس هرة فلا هو أطعمها ولا هو ترك سبيلها لتأكل من خشاش الأرض، فكيف بحبس شعب؟
3- وكان واضحا اشتداد ضغط الأزمة الاجتماعية في البلاد تفاقما للبطالة وللفوارق المشطة بين الجهات وتفشي أخبار نهب الأرزاق من قبل العوائل المتنفذة وشركائهم في الحزب الحاكم والدولة بما يشبه أنظمة المافيا المحمية بجيوش من البوليس سرعان ما تحاصر أي تحرك احتجاجي لتعمل فيه آليات القمع والاعتقال والمحاكمات الصورية التعسفية والانتقام والتشفي والتشويه الإعلامي.
وكانت الشعارات العفوية المرفوعة من قبل الجماهير تفصح عن الطبيعة الاجتماعية لهذه الغضبة واقترانها بقضية فساد الحكم، فكان أبرز هذه الشعارات "الشغل استحقاق يا عصابة السراق" وهو شعار يعبر بوضوح عن وجود أزمة كما يعبر عن طبيعتها أنها أزمة حكم، قد احتجن لنفسه الثروة والسلطة والإعلام، جاعلا من جهاز الدولة ما يشبه أنظمة المافيا، وهو التعبير الذي استخدمه السفير الأميركي فيما سربه موقع ويكيليكس في توصيفه للنظام، مع صداقته له.
4- لم يكن للنظام وهذه طبيعته وارتباطاته، من خيار، من أجل الحفاظ على مصالحه الاحتكارية الاستئثارية بالسلطة والثروة وإطلاق العنان لقوى النهب داخل الأسرة الحاكمة غير:
أ- إفراغ كل مؤسسات الحكم من السلطة: الأحزاب والبرلمان والوزراء ومجلسهم والإعلام والبنوك، كلها قلاع فارغة، تدار من غرفة قيادية في القصر أدواتها الأساسية من طبيعة أمنية، بما جعل جهاز الأمن يتضاعف ميزانيات وأعدادا أكثر من ستة أضعاف خلال عقدين من حكم ابن علي، وأطلقت يده في أموال الناس وأعراضهم، بينما تدهورت الخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم وتم تسليعها، وسحب ما كان لها وللفقراء من دعم، فالتهبت الأسعار وفشت البطالة بأثر الخيارات التي فرضتها المؤسسات الرأسمالية الدولية على البلاد فصودر القطاع العام إما لصالح الرأسمالية الدولية أو لشركائها من أقطاب عائلات الحكم.
ب- كما أن من مقتضيات هذا الخيار التنموي فرض الصمت على كل صوت يمكن أن يحتج ويعرقل إجراء الجراحات الصعبة على الجسم التونسي خدمة للرأسمالية الدولية وشركائها القلة المحظوظة، فكانت الهيمنة على الإعلام (وحتى الإعلام الخاص الذي سمح به قصر على أفراد الأسرة الحاكمة) والهيمنة على الاقتصاد والهيمنة على الأحزاب، إما باستهدافها بالتدمير كما فعلوا مع الحركة الإسلامية خاصة.. أو بالاحتواء والتدجين)، وكذا الهيمنة على مؤسسات المجتمع الأهلي كالنقابات.
5- ومن أجل ضمان ولاء ودعم الرأسمالية الدولية كان لا بد من عدم الاقتصار على تلبية مطالبها المالية الاقتصادية بل التوفر على الاستعداد للاندراج ضمن سياساتها الإستراتيجية العليا من مثل الاندراج في مشاريع التسوية في القضية الفلسطينية وتوثيق العلائق مع الإسرائيليين، بؤبئ العين الغربية، وكذا الاندراج في "المجهود الدولي للحرب على الإرهاب" ولا بأس من وضع شيء من البهارات المحببة للمستهلك الغربي مثل قضية تحرير المرأة!! تمريرا لسياسات لا يحبها الغرب أو يزعم ذلك مثل التعذيب والإعلام الخشبي ووضع اليد على مؤسسات المجتمع المدني وتزييف الانتخابات لضمان النجاح بالنسب المعروفة 90% فما فوق والعبث المتكرر بالدستور لتيسير ترشح الرئيس للمرة الخامسة رغم ما يشاع عن مرضه، بل التمهيد لتوريث المنصب ربما لسيدة تونس الأولى التي كانت من بين المستهدفين بشعارات الانتفاضة الهمّاميّة "تونس حرة والطرابلسية على برة".
6- وهكذا في بلد لا يتمتع بثروات طبيعية كبيرة لا يمكن لأهله من أجل ضمان مستوى معقول لعيشهم إلا أن يكدحوا وأن تسوسهم سلطة تتمتع بقدر معقول من حسن الإدارة ومن الإنصاف، فإذا هي أسرفت في النهب كما هو حاصل في عهد ابن علي فلا مناص من أن يتفاقم إحساس الشعب بالضيم والقهر والفاقة والحرمان، لا سيما وهو يرى أثر الثراء السريع والإنفاق السرفي السفيه الباذخ من قبل الأثرياء الجدد المرتبطين بالحكم فتزداد نقمته وألمه، وفي غياب قنوات ومؤسسات حرة لامتصاص الغضب كوسائل الإعلام والمساجد والجمعيات والأحزاب، وفي غياب انتخابات حرة يمكن للشعب أن يغير من خلالها سلطة لا تعجبه، وفي غياب جغرافيا تتيح للمظلومين الثائرين الاحتماء بها لمناهضة الظلمة -وهذه حال شعب تونس الأصيل- ماذا يبقى غير تخزين الغضب ومراكمته في انتظار الانفجار في طور تبدو فيه على السلطة ظواهر الانحلال وانقطاع الصلة بالواقع على حقيته، والعجز عن توفير الحد الأدنى من العيش لمواطنيها، لا يمكن لدولة أن يستتب لها أمن دون توفيره.
7- لقد استهدفت سلطة 7 نوفمبر الحركة المعارضة الأكبر في البلاد، حركة النهضة بالاستئصال باعتبارها المنافس الأعظم لسلطة ليس في تراثها غير تراث الحزب الواحد والزعيم المتأله، زادتها خبرتها الأمنية الوحيدة تعويلا على هذه الخبرة، فما كادت تبقى أسرة في البلاد لم ينلها حظ مما نال الحركة الإسلامية على نحو غير مسبوق في تاريخ البلاد، واجدة دعما من غرب فزع من الإسلام ومن نخب متغربة هلعة من صعود الإسلام السياسي بزعم الدفاع عن مكاسب "حداثة " لم يبق من رصيد لحمايتها غير هراوة البوليس ووضع الخبرة النضالية المتقدمة تحت تصرفه، وذلك بوعد ديمقراطي يتحقق يوم الخلاص من العدو الأصولي المشترك، إلا أنه وريث دولة الحزب الواحد والزعيم الأوحد مضى إلى نهايته في الانفراد بالغنيمة ضاربا بهراوته على كل مطالب بنصيبه من الغنيمة، وهكذا تجلت سافرة حكمة أكلت يوم أكل الثور الأبيض، إلا أنه مع بدايات القرن الجديد أخذت تعود مياه المعارضة الجادة إلى مجاري الحوار والبحث عن المشتركات، بما أفضى إلى أرضية صالحة لتنهض عليها جبهة للمعارضة الجادة تجمع بين قوى أساسية يسارية وليبرالية وقومية وإسلامية، مما يمكن أن يمثل محضنا مستقبليا لشعب تشتد عليه وطأة الظلم لدرجة الإقبال على الموت ويستشعر أن الوقت قد حان لانتزاع حقوقه المضيعة.
8- لم تكن انتفاضة الهمامّة منعزلة عن تطورات سبقتها ومهدت لها ألمعنا إلى بعضها ونضيف إليها هنا عاملين مهمين: الأول اقتصادي ويتمثل في انعكاسات الأزمة الدولية على اقتصاديات البلاد رغم الادعاء المتكرر بعكس ذلك وهو أمر لا يمكن تصديقه مع نظام يقوم اقتصاده على التبادل مع السوق الرأسمالية ، فكيف تصاب هذه بالزلازل، وهو آمن مطمئن بما يذكر بأنشودة كنا نتغنى بها صغارا "سقف بيتي حديد ركن بيتي حدر.. فاعصفي يا رياح واهطلي يا مطر... ويكفي الالتفات إلى القطاع السياحي وهو العمود الفقري لاقتصاد البلاد ماذا عساه يبقى منه قائما لو ظل معتمدا على الأوروبيين خلال الأزمة ولم يعوضهم أكثر من مليونين قدموا من الجوار الليبي والجزائري؟. وما سيبقى من سلم اجتماعي في مناطق الجنوب لو أصرت ليبيا على استبقاء حدودها مغلقة لأكثر من أسبوع؟ كفى ادعاء.
أما العامل الثقافي النفسي الهام فيتمثل في اندلاع صحوة إسلامية عارمة منذ نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي بأثر الفضائيات والإنترنت التي حركت مخزونا من التدين أثّلته الحركة الإسلامية خلال عملها وتغلغلها في المجتمع التونسي لأكثر من عقدين لا سيما واتساع حجم القمع الذي نال من الحركة الإسلامية قد مس الجسم الاجتماعي كله، فكمن هذا الاثر خلال اشتداد العاصفة حتى إذا أخذت طريقها إلى الخمود اهتزت الأرض إسلاما ناقما ساخطا بلغ سخطه حد حمل السلاح في مواجهة الدولة منذ بضع سنوات معارضا لسياساتها الدولية تجاه فلسطين والعراق.
وإذا كان اليوم يجثم وراء القضبان عدة آلاف من شباب الصحوة الإسلامية بما راكم غضبا زائدا منضافا، فضلا عما سكبته صحوة الإسلام في النفوس على اختلاف الفئات الاجتماعية من إيمان واطمئنان ونقمة على الفساد والمفسدين، يمكن لنا أن نكون قد اقتربنا من جملة العوامل والسياقات التي راكمت المواد التي فجرت هذه الانتفاضة التي بدت لغير العارفين كأنها حدث عارض وعمل معزول بينما هي تراكم طبيعي لعمليات مركبة ومعقدة قد نضجت وحان وقت انفجارها فانفجرت وكنا دائما على يقين من أنها آتية لا ريب فيها.
9- وكان يقيننا مؤسسا على قاعدة في التوقع الإستراتيجي لردود أفعال شعب ما تجاه ظلم يحيق به: كيف سيتصرف؟ أقوم سبيل لهذا التوقع هو النظر إلى سوابق ردود أفعال هذا الشعب على ما كان قد حاق به من مظالم. بالنظر إلى أن ردود أفعاله تلك هي ثمرة خبرته التاريخية التي هي مزيج من جغرافيته وتاريخه وعقائده وتمدنه. ومن ذلك ما ذكره الأستاذ عبد الحميد مهري الأمين العام السابق لجبهة التحرير في محاضرة له بلندن مجيبا عن سؤال أحدهم: كيف تصف الجماعات الإسلامية المقاتلة في الجزائر، هل هي إرهابية؟ أجاب بأنها معارضة مسلحة، مضيفا: في تراث الجزائريين أنه عندما يصل الظلم إلى حد لا يطاق تندفع منا ثلة إلى الجبال، تحتمي بها، فتصنع توازنا مع الدولة تضطرها للتراجع أو تهزمها جملة.
نحن في تونس بلد صغير بجغرافية منبسطة وسكان متجانسين بما يتيح قيام دولة شديدة التمركز، تغريها بالطغيان، بينما لا تقدم الجغرافيا ما يحتمي به الثائر ويقاوم، وذلك لا يجعل الاستسلام قدرا فالله الذي حرم الظلم وتوعد الظالمين بسوء العاقبة لم يحرم شعبا من فرص للمقاومة والانتصار على الظلم، ففي مجتمع مديني يتكون من مدن يبقى السبيل الأقوم لصنع توازن مع الدولة يضطرها للتفاوض أو حتى يطيح بها إذا استكبرت هو سبيل العصيان المدني بأساليبه المعروفة كالمسيرات العارمة التي تصنع في الأرض المنبسطة جبلا لا يجد معه الحاكم المستبد إلا أن يقول مع بورقيبة صاغرا يوم 26 يناير/ كانون الثاني المجيد "رجعنا فين كنا".
10- تقديرنا: إن ما تشهده البلاد انتفاضة قد تجمعت أسبابها ولئن بدت طبيعتها اجتماعية فهي في الحقيقة مركبة بل السياسي فيها هو الأعمق، وهي لا محالة بالغة هدفها في تغيير سلطة الاستبداد سلطة المافيا على نحو من الأنحاء. لا تملك السلطة القائمة رغم الوجه الاجتماعي الأبرز للانتفاضة أن تستجيب للمطالب الاجتماعية توفيرا للشغل، لا يمكن لها انتزاع ما استولت عليه المافيا من منهوبات لتعيدها لتوزع على أصحابها الشرعيين. ما تملكه السلطة إذا احتفظت بمسكة من عقل هو الصرف من جيبها السياسي تنفيسا للاحتقان الاجتماعي، على غرار ما فعل بورقيبة جزئيا عقب أحداث 3 يناير/ كانون الثاني المجيدة تغييرا لوجوه واعترافا بأحزاب وتسريحا لمساجين ولمنابر إعلامية، بما لا يغير طبيعة النظام ولكنه يهبه وقتا إضافيا {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
الجزيرة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.