في أول نشاط لها بعد وفاة شيخها محمد إبراهيم الشريف الحساني نظمت الطريقة قادرية منتصف شهر مايو المنصرم، الملتقى الثالث للطريقة الذي عقد تحت الرعاية السامية للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وحمل عنوان: "التربية الروحية في الطريقة القادرية". وتمكنت هذه المظاهرة الدينية من استقطاب العديد من أتباع ومريدي ومقاديم شيوخ الطريقة، الذين شدوا الرحال إلى مدينة ورقلة الجنوبية من مختلف أنحاء الجزائر وحتى من بعض البلدان العربية، وأبوا إلا الوفاء للتقاليد العريقة التي أسست لها الطريقة منذ نشأتها. وقال الخليفة العام للطريقة القادرية الشيخ حسن الحساني الذي خلف والده: إن وقوع الاختيار على موضوع "التربية الروحية في الطريقة القادرية" هذا العام، راجع ل"الأهمية البالغة التي تكتسيها التربية الروحية في نشاط الطريقة، باعتبار أن التربية الروحية مكون أساسي للشخصية؛ ذلك أن جوهرها يرتكز على علاقة الفرد بالخالق، وتعتبر الوسيلة المثلى لتربية النفوس". وأوْلت السلطات كالعادة اهتماما واسعا بهذا الملتقى؛ إذ لم تتوان في تقديم كل الدعم المادي والمعنوي لأتباع الطريقة القادرية لإنجاح هذه المظاهرة، وحتى وسائل الإعلام العمومية لعبت دورًا كبيرًا في الترويج له؛ فقد بث التلفزيون الجزائري على مدى أيام إعلانات إشهارية حول الملتقى وجدول أعماله؛ وهو ما ساهم دون شك في جلب الكثير من المشاركين. وأهم ما ميز الملتقى الثالث للطريقة القادرية هو الرسالة التي بعث بها الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بلة إلى شيوخ ومريدي الطريقة، والتي حيا من خلالها المبادرة التي قامت بها المشيخة، منوها بالجهود التي تبذلها مشيخة الطريقة القادرية من أجل حماية مكونات الشخصية الوطنية. وأد الفتنة ويبقى الملتقى الثالث للطريقة الصوفية مختلفًا تمام الاختلاف عن سابقيه، ليس من حيث الموضوع الذي طرح للنقاش فحسب، وإنما فيما يتعلق بالظرف الذي انعقد فيه، أي بعد فترة وجيزة من انتقال الشيخ محمد بن إبراهيم الشريف الحساني إلى الرفيق الأعلى، وما صاحب ذلك من بروز بعض الخلافات حول خلافته. تلك الخلافات التي كانت قد أخذت حيزا معتبرا من اهتمامات الصحافة المحلية وحتى الدولية، سرعان ما تبددت بتنظيم هذا الملتقى "التاريخي"، الذي رسم الشيخ حسن الحساني بصفة رسمية على رأس الطريقة القادرية في جو هادئ بعيد عن الضوضاء الإعلامية؛ مما يعني بكل جلاء أن شيوخ ومريدي الطريقة قد نجحوا في وأد الفتنة التي اشتعلت شرارتها الأولى بجملة من البيانات والبيانات المضادة بين أنصار الشيخ حسن الحساني وأتباع الدكتور محمد بن بريكة. ونشب خلاف كبير عقب وفاة الشيح محمد بن إبراهيم الشريف الحساني بين نجله والدكتور محمد بن بريكة المنسق الأعلى للطريقة القادرية في الجزائر وعموم إفريقيا، على الزعامة من خلال "حرب" بيانات أشعل فتيلها أنصار الطرفين، فالفريق الأول تمسك بخيار التوريث بناءً على وصية قيل إن الخليفة العام المتوفى تركها؛ حث فيها على أن يخلفه نجله على رأس الطريقة؛ لما رأى فيه من خصال حميدة، بينما تمسك الطرف الآخر بإعلان البيعة للدكتور محمد بن بريكة عملا بوصية المعلم الأول للطريقة "سيدي محمد الجيلاني"، الذي أوصى بتولي العلماء والفقهاء للمشيخة. وفي وقت توقع الجميع أن الأمر مرجح للتفاقم وربما ظهور الطريقة القادرية أمام العالم برأسين، خرج الدكتور محمد بن بريكة على أعمدة صحيفة "الفجر" الجزائرية، ليعلن أنه لم يرغب أبدا في تولي شئون الطريقة، وأن كثرة نشاطاته العلمية والثقافية لا تسمح له أبدا بالتفرغ لهذا المنصب الحساس، وبذلك فسح المجال واسعا أمام الشيخ حسن الحساني ليواصل المسيرة التي بدأها والده منذ أزيد من نصف قرن من الزمن. في قلب السياسة القوة التي عادت بها الطريقة القادرية إلى الواجهة على غرار باقي الطرق الصوفية في الجزائر، بفعل الدعم الكبير الذي تحظى به من قبل الدولة، تدل دلالة عميقة على الدور السياسي الكبير الذي تلعبه هذه الطرق الصوفية وعلى رأسها الطريقة القادرية، والتي تحظى بعناية خاصة من قبل السلطات والتي كان لها دور كبير في إنجاح ملتقاها الأخير. من جانب آخر كشفت جل المواعيد السياسية التي شهدتها الجزائر في العشرية الأخيرة الدور الفعال الذي لعبته الطريقة القادرية منذ زمن ليس بالقريب، في رسم المشهد السياسي الجزائري من خلال دعمها القوي للرئيس عبد العزيز بوتفليقة في انتخابات 1999 و 2004، وخاصة في الاستحقاق الرئاسي الأخير الذي شهد منافسة بين بوتفليقة وبن فليس؛ حيث رجحت الكفة في نهاية الأمر لصالح بوتفليقة وبنسبة عالية جدا. المؤازرة القوية لشيوخ ومريدي الطريقة القادرية للرئيس عبد العزيز بوتفليقة ودعمهم لبرنامجه ومشاريعه، تبين العلاقة الوطيدة التي توجد بين السلطة والطريقة القادرية التي باتت من المؤسسات الدينية التي يصعب تجاوزها في رسم سياسة البلاد، وأن دعمها لأي مشروع سياسي أصبح ضروريا ويعطي الكثير من المصداقية -في نظر المتتبعين للشئون السياسية- لأي خطوة سياسية. وأعلنت الطريقة القادرية عن دعمها ومساندتها القوية لتمديد حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسية ثالثة؛ لأن بوتفليقة بالنسبة لها يمثل "رجل التاريخ"، كما قال الدكتور محمد بن بريكة، الذي صرح أيضا بأن "بوتفليقة أعاد الاعتبار للطرق الصوفية والزوايا، وفتح المجال أمامها للتعبير عن مواقفها من كل الاستحقاقات السياسية". على درب العلم وإن كانت تولي اهتماما واسعا للشأن السياسي، وتدلو بدلوها في مختلف القضايا المطروحة على الساحة السياسية، إلا أن الطريقة القادرية لم تهمل الجانب العلمي والثقافي والتربوي، ولا زالت توليه عناية كبرى وفاء لشيوخها الأوائل، وفي مقدمتهم زعيمها الروحي "سيدي محمد الجيلاني" الذي أوصى بالعلم والتفقه في الدين. وعلى نفس الخطى سار الشيخ الراحل محمد بن إبراهيم الشريف الحساني الذي نقل عنه أنه كان من الشخصيات الفذة، التي عملت على نشر العلم في أوساط الجزائريين وحتى لدى الدول المجاورة من خلال استقبال الوفود المتتالية لطلبة العلم، الذين كانوا وما زالوا يتوافدون على مدارس وزوايا الطريقة القادرية المنتشرة خاصة في الجنوب الجزائري. ويكفي الطريقة القادرية شرفا أن مؤلف أول موسوعة في العالم العربي والإسلامي حول الطرق الصوفية هو أحد أتباعها، أي الدكتور محمد بن بريكة المنسق الأعلى للطريقة القادرية في الجزائر وعموم إفريقيا، الذي صرح بأن الهدف من هذا الإنجاز العلمي "هو خدمة الصورة الحقيقية لجوهر الإسلام وهو التصوف كعَلَم للأخلاق". وحملت هذه الموسوعة عنوان: "الإيضاح والبيان لمصطلح أهل العرفان"، وصدر منها حتى الساعة ثمانية أجزاء تعرف بمختلف الطرق الصوفية المنتشرة عبر العالم وخاصة في منطقة المغرب العربي، ومن المنتظر أن تصدر أربعة أجزاء أخرى من هذه الموسوعة في المستقبل القريب. قوة اقتراح وموازاة مع الجهود العلمية التي تبذلها الطريقة القادرية من خلال زواياها ومدارسها القرآنية المنتشرة في أنحاء شتى من التراب الجزائري، ما زال شيوخها ومريدوها يمثلون قوة اقتراح بالنسبة للطرق الصوفية الأخرى، التي ربما تفوقها في عدد الأتباع والمريدين. ومن أهم المقترحات التي طرحت في الساحة منذ أشهر قليلة دعوة الدكتور محمد بن بريكة أحد أنشط أتباع الطريقة القادرية، إلى إنشاء مشيخة تجمع كافة الطرق الصوفية لمواجهة المد السلفي في البلاد؛ حفاظا على المرجعية الدينية للدولة والمتمثلة في المذهب المالكي. هذا المقترح وإن كان في ظاهره يخص الجزائر إلا أنه يعني المنطقة برمتها، خاصة دول الجوار التي تشهد هي الأخرى انتشارا واسعا للفكر السلفي، التي تعد -حسب كثير من المتخصصين في دراسة شئون الحركات والتيارات الإسلامية- المحضن الأساسي للفكر التكفيري. ووجهت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في مؤتمرها الثالث المنعقد مؤخرا انتقادات لاذعة لبعض الطرق الصوفية، التي ترى بأنها تعمل على نشر بعض البدع التي ماتت في وقت من الأوقات، أو بإحيائها لبدع جديدة، متأسفة -كما ورد في كلمة الشيخ عبد الرحمن شيبان- للترويج الذي تلقاه هذه "البدع" من قبل وسائل الإعلام العمومية أو الخاصة عن قصد أو عن غير قصد.