القضاء يشرع في كشف الحقيقة.. إيداع سعدية مصباح ورئيس جَمعية شؤون اللاجئين السّجن    ابطال اوروبا.. دورتموند يطيح بسان جرمان ويمر الى النهائي    بعض مناضلي ودعاة الحرية مصالحهم المادية قبل المصلحة الوطنية …فتحي الجموسي    البنك المركزي: ارتفاع عائدات السياحة بنسبة 8 بالمائة موفى شهر افريل    اتحاد الفلاحة بمدنين : الأضاحي تفي بحاجيات الجهة    Titre    الليلة: أمطار غزيرة ورعدية بهذه المناطق    ولاية رئاسية ''خامسة'' : بوتين يؤدي اليمين الدستورية    المهديّة :ايقاف امام خطيب بسبب تلفظه بكلمة بذيئة    نحو صياغة كراس شروط لتنظيم العربات المتنقلة للأكلات الجاهزة    من الحمام: غادة عبد الرازق تثير الجدل بجلسة تصوير جديدة    الاحتفاظ بمسؤولة بجمعية تعنى بشؤون اللاجئين و'مكافحة العنصرية'    لأول مرة في تونس.. البنك الفلاحي يفتح خط تمويل لمربي الماشية    عاجل : صحيفة مصرية تكشف عن الحكم الذي سيدير مباراة الاهلي و الترجي    وزيرة الأسرة تعلن عن احداث مركز جديد للاصطياف وترفيه الأطفال بطبرقة    المتلوي: حجز 51 قطعة زطلة بحوزة شخص محل 06 مناشير تفتيش    تالة: ايقاف شخص يُساعد ''المهاجرين الافارقة'' على دخول تونس بمقابل مادّي    سليانة: السيطرة على حريق نشب بأرض زراعية بأحواز برقو    هام/ الليلة: انقطاع المياه بهذه المناطق في بنزرت    هذه الآليات الجديدة التي يتضمنها مشروع مجلة أملاك الدولة    دوري أبطال أوروبا : ريال مدريد الإسباني يستضيف بايرن ميونيخ الألماني غدا في إياب الدور نصف النهائي    وزير السياحة : قطاع الصناعات التقليدية مكن من خلق 1378 موطن شغل سنة 2023    ليبيا تتجاوز تونس في تدفقات الهجرة غير النظامية إلى إيطاليا في 2023    حماس: اجتياح الكيان الصهيونى لرفح يهدف لتعطيل جهود الوساطة لوقف إطلاق النار    سليانة: تخصيص عقار بالحي الإداري بسليانة الجنوبيّة لإحداث مسرح للهواء الطلق    أبطال إفريقيا: الكاف يكشف عن طاقم تحكيم مواجهة الإياب بين الترجي الرياضي والأهلي المصري    انقلاب "تاكسي" جماعي في المروج..وهذه حصيلة الجرحى..    مخاوف من اختراق صيني لبيانات وزارة الدفاع البريطانية    اتصالات تونس تنخرط في مبادرة "سينما تدور" (فيديو)    تونس : 6% من البالغين مصابون ''بالربو''    وزارة التربية تنظم حركة استثنائية لتسديد شغورات بإدارة المدارس الابتدائية    لاعبة التنس الأمريكية جيسيكا بيغولا تكشف عن امكانية غيابها عن بطولة رولان غاروس    باكالوريا: كل التفاصيل حول دورة المراقبة    المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك: "أرباح القصابين تتراوح بين 15 و20 دينار وهو أمر غير مقبول"    متى موعد عيد الأضحى ؟ وكم عدد أيام العطل في الدول الإسلامية؟    فتوى تهم التونسيين بمناسبة عيد الاضحى ...ماهي ؟    الكشف عن وفاق إجرامي قصد اجتياز الحدود البحرية خلسة    الفنان بلقاسم بوقنّة في حوار ل«الشروق» قبل وفاته مشكلتنا تربوية بالأساس    حوادث: 13 حالة وفاة خلال يوم واحد فقط..    الرابطة الأولى: النجم الساحلي يفقد خدمات أبرز ركائزه في مواجهة الترجي الرياضي    في قضية رفعها ضده نقابي أمني..تأخير محاكمة الغنوشي    «فكر أرحب من السماء» شي والثقافة الفرنسية    رئيسة قسم أمراض صدرية: 10% من الأطفال في تونس مصابون بالربو    البطولة الانقليزية : كريستال بالاس يكتسح مانشستر يونايتد برباعية نظيفة    إشارة جديدة من راصد الزلازل الهولندي.. التفاصيل    عاجل/ هجوم على مستشفى في الصين يخلف قتلى وجرحى..    عاجل- قضية الافارقة غير النظاميين : سعيد يكشف عن مركز تحصل على أكثر من 20 مليار    سيدي حسين: مداهمة "كشك" ليلا والسطو عليه.. الجاني في قبضة الأمن    أولا وأخيرا .. دود الأرض    مشروع لإنتاج الكهرباء بالقيروان    في لقائه بخبراء من البنك الدولي: وزير الصحة يؤكد على أهمية التعاون المشترك لتحسين الخدمات    بمناسبة اليوم العالمي لغسل الأيدي: يوم تحسيسي بمستشفى شارل نيكول حول أهمية غسل الأيدي للتوقي من الأمراض المعدية    فيديو/ تتويج الروائييْن صحبي كرعاني وعزة فيلالي ب"الكومار الذهبي" للجوائز الأدبية..تصريحات..    الفنان محمد عبده يكشف إصابته بالسرطان    نسبة التضخم في تونس تتراجع خلال أفريل 2024 الى 2ر7 بالمائة في ظل ارتفاع مؤشر أسعار الاستهلاك    الفنان محمد عبده يُعلن إصابته بالسرطان    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    العمل شرف وعبادة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة النور ج2/4: الاستاذ : حسن الطرابلسي
نشر في الفجر نيوز يوم 07 - 11 - 2008


الفجرنيوز خاص www.alfajrnews.net
إقرأ أيضا: رحلة النور ج1/4
غار ثور: نشاة التاريخ
لئن أعلن اللقاء بين السماء والأرض في غار حراء بناء الإنسان وبدء السالة الخاتمة ، فإن اللقاء في غار ثور لا يقل أهمية وروعة. ففي هذا اللقاء اكتمل بناء الإنسان عبر نشاة التاريخ ، فحدث الهجرة وهو الذي اختاره الصحابة الكرام بداية للتأريخ الإسلامي قد كان اختيارا واعيا ودقيقا، فالإعلان الأول في حدث البعثة لبناء الإنسان لا بد أن يعقبه الحدث المتمم له لاكتمال بناء الإنسان وهو نشأة التاريخ، باعتبار الصلة الرابطة بين الإنسان والتاريخ، بله اللحمة بينها إلى الحد الذي دفع البعض بتحديد الإنسان على انّه التاريخ.
لقد كان حدث الهجرة يعج بالعبر والمواعظ والدروس:
فقريش التي فشلت في قتل النبي صلى الله عليه وسلم رصدت لمن يأتيها به وبصاحبه مائة ناقة.
وقبل الهجرة، أي بداية التاريخ، بقي الرسول صلّى الله عليه وسلّم في مكة في ظروف صعبة، يبني في الصحابة الإنسان/الرسالة لمدة ثلاثة عشر سنة.
ولمّا قرر صلّى الله عليه وسلّم الهجرة أخذ بالأسباب، كل الأسباب، فأعدّ بدقة متناهية خطة للخروج من مكة، فأمّن وسيلة السفر، واتفق مع الدليل، وقام بتأمين الغذاء، واتفق مع من يقوم بتعمية الطريق لتضليل فرق البحث والتفتيش، واتفق مع عليّ كرّم الله وجهه على المبيت في مكانه، ولكن الله أراد أن يبيّن أنّه مع الأخذ بالأسباب لابدّ من التوكّل على الله، لأنّ الأخذ بالأسباب وحده لا يكفي لولا العناية الربّانية والحفظ الإلهي لصاحب الدعوة. فرغم أن الإنسان مطالب بالأخذ بالأسباب والنواميس الكونية لكنّه لا يجب بأي حال أن ينفصل عن الحبل الموصول بالله والثقة في وعده. فطبقا للنواميس الكونية استطاعت قريش بجهدها أن تصل إلى الكهف الذي اختبأ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه ولكن الله سلم. وهنا تدخل عامل مهم في التأثير على حركة التاريخ وهو المشيئة الإلهية والتوجيه الرباني. فأدعياء القول بالتفسير الأحادي للتاريخ سواء أن كان هذا العامل مادّيا أو غيره، قاصرعن فهم حقيقة حركة الكون والإنسان.
إن صناعة التاريخ ليست بالأمر الهيّن، فهي معاناة وجهد ومأساة. معاناة لأنّ حركة التاريخ بطيئة رتيبة مملّة إذا نظرنا إليها من وجهة نظر الإنسان المنغمس في واقعه اليومي، والمتقوقع في دائرته الضيّقة المحدودة وهو ما عارضه القرآن ورفضه، فالوحي كان ينزل على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون في حالة ضعف يبشّرهم بانتصار الروم، وهو في واقع الأمر انتصار لصفّ الإيمان على قوى الشرك، واعتبر ذلك بمثابة الدعم الروحي والمعنوي للصحابة وللدعوة الوليدة، كما أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأثناء حصار المدينة في غزوة الأحزاب وما صاحبها من حالة فزع وخوف سيطرة على الصحابة رضوان الله عليهم حتى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يجد متطوّعا يأتيه بأخبار القوم ، في هذه الحالة كان الرسول أثناء حفر الخندق يحمل فأسه ويضرب الصخرة ويبشر المسلمين الضعفاء بالإنتصار على الروم وفتح فارس. إذن فالوحي يخرج الإنسان من حالة المعاناة اليومية لا لينقله إلى عالم المتخيل وإنما ليضخه بالقوّة والصبر والأمل.
وهو جهد، لأن صناعة التاريخ متعبة وقاصية، ونحن اليوم إذ نقرأ تجارب الأنبياء والرسل عليهم السلام في حالة من الإسترخاء قد لا يستطيع البعض منا أن يتصوّر معاناة وجهد ذلك الرسول أو النبيّ ومكابدته وصبره، وحدث الهجرة مشحون بهذه المعاني، فالطريق طويل وقاس، والمُطاردون حريصون ومجهّزون[1].
وهو مأساة لأنك بعد أن عرفت ما عرفت، تنظر فيما حولك فتذهل وتصيبك الدهشة، لأنّك عرفت الطريقة ورأيت الطريق، ولكنّك سوّفت وغرّتك الأماني، فأفلت الزمن من بين يديك، وحاولت أن تدركه فلم تستطع فزاد ذلك من مأساتك، ورأيت أنه يجب أن تعود القهقرى حيث وقفت، ولكنك لن تعود، بل لا تستطيع أن تعود لأنّ ما مضى فات، وما هو آت آت، ولكنك لا تعلمه، وهو سيؤثّر فيك.
وعندما وصلت إلى هذه النتيجة فزعت، فتوقفت عن المسير، وكنت ساعتها متجها إلى غار ثور لزيارته ، توقّفت وسألت نفسي ما هو الحل؟ وأخذت أفكّر في الأمر وتبيّن لي أن العقاد كان محقّا عندما قال بأن التاريخ هو عرض الأمة، فالعبث به عبث بعرض الأمة وأن الدّول التي ألغت التاريخ الإسلامي حدث لها نوع من الإستلاب الخطير أذ لم تعد ترى قيمة حدث الهجرة بالنسبة للإنسان، ليس المسلم فقط، بل الإنسان بصفة عامّة. فأنتج ذلك شعوبا جاهلة مذبذبة سهلة الإنقياد عاجزة على البناء وحتى بعض المحاولات والتحركات في هذا البلد او ذاك في أغلبها ردود أفعال مؤقّتة سرعان ما تذهب أدراج الرياح إلا ما رحم ربّك. إذا فالطريق هنا وراء خطوات المصطفى صلّى الله عليه وسلّم ومن لم يهاجر فليحدّث نفسه بالهجرة. وواصلت صعود الجبل وكأني رضيت بهذه النتيجة التي وصلت إليها.
عندما وصلت إلى قمة الجبل ثار في ذهني سؤال محير، لماذا تم الإعلان على بناء الإنسان[2] في قمة الجبل؟ ولماذا كان الإعلان عن بداية التاريخ في قمة الجبل؟
وفكّرت في الأمر وقلت قد يكون لأنّ الجبل عال ومرتفع عن الوضع العادي الذي يراه الإنسان في حياته العادية، والمطلوب منه في هذه الحالة أن يرتفع عن واقعه المادّي وألا يثّاقل إلى الأرض حتى يقوم بعملية التأسيس. ثم قد يكون لأن عظمة الجبال وصلابتها ، خاصة جبال مكة الصخرية ، أرادت أن تلفت الإنسان دوما إلى عظم الإنجاز الذي سيقوم به من ناحية وإلى أنه برغم ما للجبال من صلابة فإنها عند بطش الله لا تساوي شيئا ، فالله قادر على أن ينسفها نسفا فيذرها قاعا صفصفا . "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجِبَال قُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفَا ، فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفَا ، لاَ تَرَى فِيهَا عِوِجًا وَلاَ أَمْتًا"[3] وتأكّد لي ان صانع النواميس والمحدد الأساسي لها هو الله الواحد الأحد.
المناسك
تبدأ المناسك بمنى التي يدخلها الحاج محرما، والإحرام هو لباس بسيط، متكوّن من جزئين جزء يستر به الحاج نصفه الأسفل وجزء للنصف الأعلى من جسده. وكنت وانا ألبسه قبل الخروج إلى منا أحس بالإرتياح الكبير ولعل ذلك هو الهدف النفسي الأساسي لهذا اللباس ، إذ هو نوع من التخفف من كل ما هو دنيوي والدخول في عالم المقدس وهي لحظة فاصلة دقيقة، إذا جاوزتها في أحد حدّيها خرجت عن المطلوب، فهي ليست نوعا من الأسطرة التي تدخل الإنسان في عالم المتخيل والوهم ليحسّ بأنه يعيش حالة من "الوجد" الروحي الذي سرعان ما يتبين للحاج زيفه إذا استفاق منه ، فهذا قد يوجد في بعض الديانات والمذاهب الموغلة في الروحية . فهو ليس هربا من الدنيا وإنما هو تخلّص وإخراج للدنيا من القلب لتكون في اليد . هذا من ناحية وهو على الطرف الآخر ليس مظهرا للتغني أو التفاخر أو التظاهر الذي يقيد صاحبه بالدنيوي ويوقعه في تلبيس إبليس . وإنما هو تعادلية فهو بقدر ما يترك الحاج في الدنيا ويطلب منه أن يعيش تجربة الحج في الزمان والمكان بقدر ما يجعل الحاج يرتبط بما هو أعلى من الآني المؤقت المحكوم بظروف الزمان والمكان إلى لحظة "الإشراق" و"الإتصال" أو بتعبير أدق الإخلاص . وهو ما يعيشه الحاج خاصة يوم عرفة.
الحج عرفة
بعد منى انتقلنا إلى عرفة ، وعرفة لها طابع خاص في الحج ، إذ الرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول :"الحج عرفة" فترى الحجيج بالرغم من التعب والإرهاق يحاولون ادّخار بعض قوتهم إلى هذا اليوم حيث يتصل الإنسان بربه آملا في القبول. وصلنا إذا إلى عرفة وكان الطقس حارا فطلب منا الإخوة من الندوة البقاء في الخيمة وعدم الخروج إلى جبل عرفة.
المؤسف أن العديد من المسلمين يعتقدون أنه إذا لم يذهب إلى عرفة ويزاحم ويتعب من أجل الصعود على الجبل، يعتبر أن حجه لم يتم، أو أنه على الأقل مثلوم. وأنا لا ألوم عامة الناس على القيام بذلك فربما تكون محدودية إمكانياتهم لا تتجاوز ذلك وقد شرحنا بعض مظاهر ذلك في عقلية تقبيل الحجر الأسود، وهي هنا نفس الظاهرة فلا فائدة من الإعادة والإطناب. ولكنّ الذي أثار دهشتي هو حرص بعض المثقفين على القيام والمساهمة أيضا في ذلك الزحام. فتعرفت على عدد منهم يذهب ويزاحم ويفرح بعد ذلك الزحام بأنه لا يزال قويا وحقق السنة. لا اريد ان أعلق.
المهم أنّنا بقينا في الخيمة وكلما اقتربنا من ساعات المغرب ازدادت ترنيمات الدعاء ودعوات الحجيج واشتداد النشيج بله البكاء والتضرع ، فأسأل الله القبول للجميع.
مزدلفة
لا شكّ أنّ القلوب بعد وقفة عرفة قد رقّت، وتطهرت من درن الدنيا، ولا شك أن الإنسان بلغ قمّة ارتفاعه وسموّه من خلال تمام تجرّده وعبوديته يوم عرفة. فبعد لقاء الحاج المباشر مع الله، غدى الإنسان سويّا مكتملا، ناضجا وكفؤا لحمل الأمانة من جديد. ومن الممتع حقا أنه بعد ذلك ينتقل الإنسان إلى مزدلفة ليبدأ الطريق من جديد كيوم ولدته أمه، صفحة بيضاء، وحتى في المستوى المادي فإن المبيت بمزدلفة هو مبيت على تلك الحالة، وهو حال العودة إلى البدء، لذلك يفترش الحاج في مزدلفة الأرض ويلتحف السماء، وبما أنّ الولادة عسيرة والمبدأ صعب لا بد أن يتوفر الوازع الذي يجعل من هذه العملية بسيطة، فيكون الذكر، ذكر الله، وهو ما أكده الأمر الإلاهي الحاسم :"فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَات ، فَاذْكُرُوا الله عِنْدَ الْمَشْعَرِ الحَرَامِ"[4] ثم يزيد اله سبحانه هذا الأمر بيانا ووضوحا في آية تليها "فَإِذَا قَضَيْتُم مَنَاسِكَكُم فَاذْكُرُوا الله كَذِكْرِكُم آبَاءَكُم أَوْ أَشَدُّ ذِكْرًا"[5] ذلك أن الإنسان بعد الولادة وفي خطواته الأولى يكون شديد التعلق بوالديه، معتمدا كثيرا عليهما، وهنا ولادة اخرى لذلك قرّب الله لنا المشهد والصورة حتى نفهم معنى الذكر والإتصال بالله لأنه هو الذي سيعين في عملية الولادة الجديدة والبعث الجديد حتى يتيسّر للإنسان رفع لواء الدين من جديد.
وإن أنسى فإني لا أنسى ذلك المشهد الرائع عندما وصلت إلى مزدلفة ورأيت حشود الحجيج كلها على أمتداد البصر ملتحفين الملابس البيضاء وكأنهم قد بعثوا يوم الحشر. هذا المشهد جعلني أشعر بسعادة عارمة لأني لم أتعود رؤية هذا المشهد الرائع والمذهل للمساواة بين كل البشر، هذا المشهد الذي حلم به الفلاسفة والمصلحون ونظّروا له ودونوا فيه كثيرا أراه هنا يتحقق تحقق العين ، ويتجسّد أمامي صورة حية لا مبالغة فيها ولا إطراء .
في اليوم الموالي استيقظنا باكرا ورمينا الجمرات وأديت بعد ذلك طواف الإفاضة ثم عدت إلى النزل لأغتسل وأستريح بعض الشيء. بعد أن تمت المناسك وأيّام التشريق أعلمنا الإخوة أننا سوف نسافر إلى المدينة المنوّرة فازداد انشراحنا وحمدنا الله وبدأنا الإستعداد للسفر.
الطريق إلى المدينة المنوّرة: تأسيس الفكرة داخليّا
كان يوما مشمسا، الرؤية فيه واضحة، والطريق سالكة، وكانت الجبال الصخرية الصلبة تحيط بالطريق من الجانبين، أشعة الشمس الحارقة أجبرتني على أن أنزل الستارة حتى أقي نفسي وجاري حرارة أشعتها.
كان هدفي من الرحلة وأحسب أنه أيضا هدف إخواني اقتفاء أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في هجرته من مكة إلى المدينة فارا بدينه بعد أن آذته قريش وأمعنت في السخرية به وبدعوته. فهاجر إلى المدينة بعد أن وجد في الأنصار خير نصير للدعوة الجديدة. وهكذا شكلت المدينة المنوّرة اللحظة الفاصلة، والنقلة النوعية بين عصرين، عصر البناء الداخلي، إي بناء فكرة وعقيدة التوحيد وبالتالي تأسيس القضية النظرية والمركزية لكل حضارة ناشئة: تأسيس الفكرة داخليا.
ثم تأتي المرحلة الثانية وهي مرحلة تأسيس الدولة أو بتعبير آخر تأسيس الإطار القيمي والفكري والعسكري والسياسي للدعوة وبدء التبشير بها والدعوة إليها.
كان طابع الإنشراح والسعادة هو الجانب الطاغي علىكل المسافرين طبعا مع وجود بعض الإخوة الذين حرصوا على أن تكون الرحلة فرصة للنوم وتدارك ما فاتهم في الأيام الأخيرة، أما آخرون فإنّهم انشغلوا في نقاش استمعت إلى أطراف منه، فكان يشمل جوانب شرعيّة وسياسية وفكرية.
فجأة وبدون مقدمات سأل أحد الإخوة، وعرفت من صوته أنه فتحي، هل هناك طريق سريعة؟ ولما لم يجبه أحد، ضربني بلطف على رأسي وقال: هل هناك طريق سريعة يا حسن؟ قلت: إننا لا نزال داخل مكة ولم نخرج بعد! ولست أعلم كيف كان تفاعله، إلا أنني سمعت صديقه يواصل نقاشه معه ثم سرعان ما انغمس هو الآخر في نقاشه.
الحافلة مقسمة إلى نصفين، النصف الأول احتجزه الإخوة الكنديون يترأسهم أخ اسمه علاء يتقن اللغة الإنجليزية ويشرح لهم ما استشكل عليهم من أمور الحجّ والرحلة . وأما النصف الثاني منها فكان خاصا بنا أي الإخوة القادمين من ألمانيا . في الكرسي الأول من الحافلة جلس مشرف الحافلة الأخ محمّد الذوّادي من السعودية وكان شابا مؤدّبا أحبه كلّ الإخوة المسافرين.
ما أن توسطنا الطريق حتى افتتح الأخ محمد الرحلة بالقرآن الكريم ثمّ عرض علينا البرنامج الذي أعدّه والذي كان يشتمل على أناشيد ومواعظ وحكم...
على جنبات الطريق كانت تظهر لنا الخيام، الشيء الذي يوحي ببساطة الحياة وفطريتها.
في الوقت الذي كنت فيه مشغولا بتدوين ملاحظاتي، كان جاري من الناحية اليمنى منشغلا بترتيب أوراقه. ومع توغلنا في الطريق كانت كثافة الجبال تقلّ تدريجيا وتظهر الإمتدادات الصحراوية القليلة الأشجار.
وتأخذني سنة من النوم، وعندما أستفيق أجد أنّنا نسير في الطريق تحيط بنا جبال شاهقة مسترسلة تتخلّلها أخاديد وصخور متتالية، ويتجدد المشهد، الرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم ورفيقه أبو بكر الصديق رضي الله عنه يتعثران بين هذه الصخور، ووسط هذه الأخاديد فرارا بالدين والرسالة، متحملا عبئ الأمانة. فأتذكر اليقين الذي كان يغمر نفس النبيّ صلى الله عليه وسلّم والذي أشع به على صديقه وبعد ذلك على المؤمنين كلهم إلى يوم الدين.
"لا تحزن إن الله معنا" أو "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" هكذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يربي صديقه والأمة من بعده.
أما أبو بكر فإنه كان الصاحب الوفيّ والمحب الأول لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكنت تراه مرة أمام الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومرة يسير خلفه ومرة على يمينه وأخرى على شماله وعندما سأله الرسول لم يفعل ذلك أجاب بأنه كلما تصور أن النبي يمكن أن يأتيه سوء من ناحية ذهب إليها ليفديه بنفسه.
ما أعظمك يا رسول الله وما أروع صاحبك، لقد كانت هجرتك، رحلة للنور فتحت بها قلوبا متشوّقة للسلام، وحضارات متعطّشة إلى الأمان، وأقواما ترنوا إلى الإنعتاق، وطمست بها ظلمات من الجهالات، وأخضعت طواغيتا هيمنت على الإرادات، وقمعت سلاطينا وملوكا تألهت فوق الأرض وتحت السماوات.
وظلت حافلتنا تسير إلى أن وصلنا إلى مكان استراحة حيث جددنا الوضوء واشترى البعض منا قهوة أو شايا ترشفه وهو يتمشى داخل الإستراحة.
أشرف الوقت على الغروب، فكانت شمس الأصيل ترسل أشعتها الذهبية، الجميلة، فتضفي على الجبال سحرا جميلا، خاصة وأن الطريق كانت سالكة وكنت أحسب أنها ستكون مليئة بالسيارات والحافلات لأن أغلب الحجيج يذهبون بعد أداء الشعائر إلى زيارة المسجد النّبوي في المدينة المنوّرة. كانت روح الغبطة والحبور سائدة بين المسافرين، فطلب منا مشرف الرحلة أن نستغل هذه اللحظات قبل الغروب في الدعاء والتضرّع والإبتهال، خاصة وأن اليوم يوم جمعة وفيه ساعة يستجاب فيها الدعاء فعسى أن تكون تلك الساعة هي ساعة الإجابة.
بدأ الليل يرخي سدوله على الأرجاء، ولا يزال الأخوة في صلة مع الله بالدعاء، والنجيج، أما البعض الآخر فقد استسلم لنوم هادئ عميق. جاري ، وهو رجل اعمال فاضل تعرفت عليه أثناء هذه الرحلة، كان يغط في نوم عميق هو الآخر.
وألتفت إلى أبي أيمن فأجده غارقا في حالة من النوم والوجد، فهو منشغل، لم ير أم أيمن منذ مدة، وهي تصل هذا اليوم إلى مدينة ميونيخ بعد زيارة أدتها إلى مصر، ولكنها سوف لن تجده في انتظارها. أبو أيمن كما يحلو لإخوانه أن ينادوه هو المعادلة الصعبة والورقة الهامّة في مدينة ميونيخ بله في ألمانيا كلها، فبقدر ما يحبه المسلمون بقدر ما تكرهه المخابرات. ولكن محبّيه أو أعدائه إذا أرادوا الحوار فإنه هو الرجل الأنسب والأصلح لذلك. فمحبّوه يقصدونه لأنه يمثّل لهم الصدر الحنون والأذن الصاغية، ومعادوه يحاورونه لأنه الرجل المسؤول وصاحب الكلمة والموقف. ولكن من المؤسف حقا أن مدينة كميونيخ ليس لها بديل عنه ولا خليفة يخلفه.
أما عم الهادي وفتحي فإنهما كانا يسبحان في بحر من التأمّل أوالدعاء أو الإسترخاء… لا أستطيع أن أحدده لأنهما كانا في حالة صمت مطبق بعد أن كانا يتناقشان ويتحاوران في واقع الصحوة وفقه التدين.
لم يبق الآن إلا بضع كيلومترات تفصلنا عن المدينة المنوّرة، تقدّمنا منشد الحافلة وبدأ يردد "طلع البدر علينا" فاستفاق الجميع وبدأ يردد معه هذه الأنشودة الرائعة، وسيطرت على الجميع مشاعر الغبطة والسعادة. ألقيت نظرة من خلال شباك الحافلة على المدينة المنوّرة فلاحت أنوارها ساطعة لامعة.
المدينة المنوّرة هي المكان التي وجدت الدعوة فيه الأمان، فكانت نقطة بداية جديدة أشعت أنوارها ليس فقط على ما جاورها من قبائل وتجمّعات وإنما على الإنسانية جمعاء. وهكذا ينفتح التاريخ من جديد على المستقبل بعد أن استحضر الماضي من خلال تجديد دعوة التوحيد في مكة المكرمة. وغدى التاريخ/الإنسان وحدة متكاملة تتواصل أجزاؤه وترتبط حلقاته، الماضي الحاضر والمستقبل.
في المدينة تتغير الطبيعة الجغرافية الصخرية والجبلية، فالأرض هنا منبسطة وممتدة.
وفي هذه الآونة يعلمنا الأخ المشرف أننا وصلنا إلى مقر السكن فحمدنا الله وأثنينا عليه. ووقفت الحافلة أمام نزل فاخر ضخم، مقابلا للمسجد النبوي الشريف.
نزلنا واتجهنا إلى الحرم النبوي لأداء صلاة المغرب والعشاء، جمع تأخير، وكان انبهاري عظيما بالمسجد النبوي، فلقد أحسست بالسكينة والهدوء والإطمئنان، ثم ألقيت نظرة إجمالية على المسجد النبوي وسعيت أنا والأخ فتحي إلى زيارة الروضة الشريفة، ولكن الإخوة المشرفين طلبوا منا العودة إلى النزل لاستلام الغرف وتناول العشاء، فآثرنا عدم التأخير.
كان العشاء فاخرا والنزل ضخما ورائعا. بعد تناول العشاء تحصلت على غرفتي في الطابق السادس وكان رفيقي في هذه الغرفة الأخ هشام سراج أحد رجال الأعمال الفضلاء في مدينة ميونيخ وصهره باسل.
تمدّدت على فراشي وانشغلت بكتابة مذكراتي، في حين انشغل الأخ هشام بمتابعة الأخبار في قناة الجزيرة، خاصة وأن طبول الحرب على العراق كانت تدق والولايات المتحدة الأمريكية تعلن بين الحين والآخر أنها ستهاجم العراق.
وأما باسل فإنه انشغل في تعمير وملء بعض الأوراق وبعد أن أنهاها تمدد بكل هدوء وسكون فوق سريره.
ثم تملكنا كلنا نوم عميق لم نستفق منه إلا على آذان صلاة الفجر فتوجهنا إلى المسجد النبوي.
[1] لمزيد الإستفادة يراجع كتاب السيرة النبوية للشيخ الغزالي رحمه الله .
[2] نزول الوحي في غار حرا (راجع الفصل السابق)
[3] سورة طه ،105108
[4] سورة البقرة ، 198
[5] سورة البقرة ، 200


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.